النظر والاعتبار في التقصي عن حديث قاتل عمار

التقديم للبحث:

فهذا جزء لطيف حررته في الكلام على مشكل ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرفوعاً من الحكم على قاتل عمار بن ياسر وسالبه بالنار، والتقصي عن طرقه وألفاظه، والكشف عن عللها.

وقد ذكر بعض أهل العلم بالأخبار والسير أن قاتل عمار بن ياسر رضي الله عنه هو الصحابي أبو الغادية، وكان ممن شهد بيعة العقبة، ووقع في المسند وغيره أن قاتل عمار في النار.

قال ابن عبد البر في ترجمة أبي الغادية من (الاستيعاب): سكن الشام ونزل في واسط، يعدُّ في الشاميين، أدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو غلام .. وله سماع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله لا ترجعوا بعدي كفاراً - يضرب بعضكم رقاب بعض وكان محباً في عثمان وهو قاتل عمار، وكان إذا - استأذن على معاوية وغيره يقول: قاتل عمار بالباب، وكان يصف قتله إذا سُئل ولا يباليه، وفي قصته عجب عند أهل العلم، روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما ذكرنا أنه سمعه منه، ثم قتل عماراً.

 

فاستشكل الحكمُ عليه بالنار مع ما له من فضل الصحبة وسابقة البيعة، وكونه كان متأولاً مجتهداً عاملاً بما غلب على ظنه في حربه مع معاوية كغيره، وقد ثبت أن للمجتهد المصيب أجرين وللمخطئ أجر اً، كما قال الحافظان ابن كثير

وابن حجر، وزاد الثاني أنه إذا ثبت هذا في حق آحاد الناس فثبوته للصحابة بالطريق الأولى.

 

فإن قيل: يقويه حديث الصحيحين الذي وصفهم بأنهم يدعونه إلى النار ويدعوهم إلى الجنة، فالجواب كما قال الحافظ ابن حجر في (الفتح): إنهم كانوا ظانين أنهم يدعون إلى الجنة وهم مجتهدون لا لوم عليهم في اتباع ظنونهم، فالمراد بالدعاء إلى الجنة الدعاء إلى سبيلها وهو طاعة الإمام، وكذلك كان عمار يدعوهم إلى طاعة علي وهو الإمام الواجب الطاعة إذ ذاك، وكانوا يدعون إلى خلاف ذلك لكنهم معذورون للتأويل الذي ظهر لهم.

 

ومن أغرب ما أنت سامع قول من يقول لم لا يجوز أن يحكم عليهم بالنار، أفليس في الصحابة من هو منافق يحكم عليه بالدرك الأسفل من النار؟ وهذا سؤال فاسد، فإن تصوره لا يمكن على الأصول، لأن من شرط الصحبة الإيمان والممات عليه، والنفاق يناقض الإيمان.

 

وقد ثبت النص القطع قرآناً وسنة متواترة بالشهادة للطائفتين الباغية والعادلة بالإيمان، فيلزم على هذا السؤال إما الحكم للباغية بالنار والنفاق، واللازم باطل فالملزوم مثله، لأنه خلاف القرآن والمقطوع من النص، وإما الحكم للمجتهد المتأول المخطئ بالهلاك ولا يقوله المدعي.

 

وقد احتج عليَّ رافضي وجرى ذكر أهل صفين والجمل، وأن من اعتزل القتال ولم يكن مع إحدى الطائفتين أقرب للحق والصواب من غيره كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، كمحمد بن مسلمة وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من الصحابة.

فاحتج بقوله تعالى ﴿فقاتلوا التي تبغي﴾ قال: فاعتزالهم القتال مع علي خطأ مخالف للقرآن، فقلت له: يلزمك إذا احتججت بالآية أن تقرّ بإيمان معاوية ومن معه، لأن نفس ما احتججت به من النص شهد لهم بالإيمان.

فقال: أنا أخص الآية بالنصوص التي تدل على أن مخالف الوصي منافق، فقلت له: هذا خلاف أصلك لأن من أصلك أن الظني لا يخص القطعي ولاسيما في مسائل الأصول كهذه.

قال: هي عندي متواترة قطعية، قلت: وعندنا نصوص متواترة قطعية تشهد لهم بالإيمان فضلاً عن عمومات القرآن والسنة، فيتعارض نصك الخاص المخالف للآية بتقدير كونه متواتراً قطعي اً، مع نصنا القطعي الموافق لها، وما وافق الآية مقدم على ما خالفها.

فقال: فماذا أفعل بنصوصي.؟ قلت: ما وافق منها القرآن حق، وهو أن علياً على الحق ومخالفه باغ مخطئ مغفور له باجتهاده بنص القرآن، وما خالف القرآن منها فحكم لهم بالنفاق فهو باطل مردود إما من جهة السند، أو هو معلول في متنه بمخالفة ظاهر القرآن والأصول، فلا يخلو من أحد هذين الاحتمالين ولا بد.

 

وقد جمعني باليمن مجلس ببعض الحوثيين سنة 1422 ه فجرى الكلام في معاوية وأصحابه من أهل الشام، فاحتجّ عليّ بحديث: (لايزال أمر أمتي معتدلاً قائماً بالقسط حتى يكون أول من يثلمه رجل من بني أمية يقال له يزيد) فقلت له: صدق شيخ الإسلام ابن تيمية في قوله: لا يحتجّ مبتدع لتقرير ضلاله بالكتاب والسنة إلا وفي نفس ما احتج به ما ينقض احتجاجه.

ثم قلت له: هذا الخبر بتقدير صحته حجة عليك، لأنه يقول إن أول من يثلم أمر الأمة يزيد، فيلزمك أن كل من كان قبل يزيد كمعاوية وأهل الجمل فضلاً عن الخلفاء، لم يثلموا أمر الأمة بل هم بمقتضى هذا الخبر قائمون بالقسط، وأمر الأمة معهم معتدل، وهذا يهدم أصلك.

والواقع أن هذا الحديث لا يصح لأنه منقطع يرويه مكحول عن أبي عبيدة ولم يسمع منه، وقد خرّجه الحافظ أبو يعلى الموصلي في (مسنده).

 

وسبب هذا التأليف أن المحدث الألباني رحمه الله اعترض على الحافظ ابن حجر في حكمه على أبي الغادية قاتل عمار بأنه يجري عليه ما يجري على غيره من الصحابة الذين كانوا مع معاوية أنهم مجتهدون مأجورون مخطئون فقال في (صحيحته):

هذا حق، لكن تطبيقه على كل فرد من أفرادهم مشكل، لأنه يلزم تناقض القاعدة المذكورة بمثل حديث قاتل عمار إذ لا يمكن القول بأن أبا غادية القاتل لعمار مأجور، لأنه قتله مجتهداً ورسول الله يقول قاتل عمار في النار - - فالصواب أن يقال: إن القاعدة صحيحة إلا ما دل الدليل القاطع على خلافها فيستثنى ذلك منها كما هو الشأن هنا، وهذا خير من ضرب الحديث

الصحيح كذا قال.

فاغتر بكلامه بعض الناس حتى اعتقد طوائف منهم أن قاعدة عدالة الصحابة الذين بايعوا وهاجروا وجاهدوا منخرمة، مع أن النصوص قاطعة بضد ذلك، فوضعنا هذا الجزء في التقصي عن هذا الخبر، والبحث في ثبوته أثراً ودلالته نظراً، ومدى صحة اعتماده في تخصيص عموم أصل الصحبة، وبالله تعالى التوفيق ومنه نستمد العون على التحقيق.

أبو جعفر بلال فيصل البحر

القاهرة/ 1433 ه


تحميل الملف