الموجز في التاريخ: معركة ذات الصواري (31 هـ)

بعد توسعُ المسلمين في الشمال الإفريقي؛ أصبح الأسطول الإسلامي يسيطر على قسم كبير من السواحل الشرقية والجنوبية للبحر المتوسط؛ مما أثار حفيظةَ قسطنطين بن هرقل؛ فجهز حملة بحرية قوامها ألف سفينة؛ لقتال المسلمين، وفرضِ سيطرة الروم من جديد على شرق البحر المتوسط وجنوبه؛ ويرجح عدد من المؤرخين أن الأسطول الرومي التقى بالأسطول الإسلامي في شواطئ الإسكندرية، واختار الماء مكانًا للمعركة، بعد أن جرت بين الجيشين مفاوضات، خيَّر فيها المسلمون الرومَ إما أن يكون الساحل مكان المعركة أو الماء؛ فاختاروا الماء، معتمدين على قوتهم البحرية الهائلة، وإتقانهم فنون القتال في البحر، ودرايتهم بأحواله، وكان أملهم في النصر كبيرًا، وثقتهم بأنفسهم عالية؛ لعلمهم بحداثة عهد المسلمين بالقتال في البحر [ينظر: سبط ابن الجوزي، مرآة الزمان في تواريخ الأعيان، مصدر سابق، 5/478].

بدأ القتال بين الجيشين في البحر، وسالت خلاله دماء غزيرة، حتى اصطبغت بها صفحة البحر فصار أحمر، وتساقطت الجثث في الماء، واستبسل المسلمون في قتال الروم؛ حتى ألقى الروم السلاسل على سفينة القائد المسلم: عبدالله بن أبي السرح؛ لسحبها والتفرد بها، ومن ثم إغراقها؛ ليوهنوا المسلمين، ويتركوهم بلا قائد؛ ولكن علقمةَ بن يزيد الغطيفي استطاع قطع السلاسل بسيفه، وأنقذ بذلك السفينة والقائد؛ واستمر القتال حتى كتب الله النصر للمسلمين، واندحر ما تبقى من الأسطول الرومي، وكاد قسطنطين أن يقع أسيرًا في أيدي المسلمين، لكنه فرَّ بعدما رأى قواه تنهار، وأسطوله العظيم يتحطم على أيدي المسلمين، وجثثَ جنوده تطفو على الماء، والأمواج تحملها إلى الساحل؛ ولما وصل جزيرة صقلية، وأخبر أهلها بأمره؛ قالوا له: شمَّت النصرانية، وأفنيت رجالها، ولو دخل المسلمون لم نجد من يردهم؛ فقتلوه، وخلوا من كان معه في المراكب [ينظر: ابن كثير، البداية والنهاية، مصدر سابق، 7/157، وينظر: ابن عبد الحكم، فتوح مصر والمغرب، مصدر سابق، 1/217، وينظر: طقوش، تاريخ الخلفاء الراشدين، مصدر سابق، 1/382].

وصف المؤرخ البيزنطي (ثيوفانس) هذه المعركة بأنها يرموكًا ثانيًا على الروم [شوقي، شوقي أبو خليل، حصن بابليون وذات الصواري (بيروت: دار الفكر، ط 3، 1998) ص 67]، ولقد كانت هذه المعركة بحق من أعظم معارك المسلمين مع الروم، وكانت أول معركة حاسمة يخوضها الأسطول الإسلامي الفتي في البحر؛ أظهر خلالها المسلمون عظمتهم التي جعلت المعركة صعبة على الروم؛ بما ابتكروه من فنون القتال خلالها، الأمر الذي انتهى بكارثة على الروم، وأدركوا بعدها أنه لا أمل لهم في استرداد هيبتهم، ولا في استرجاع مصر أو الشام، وانطلق بعدها المسلمون في عرض البحر، الذي كان بحيرة رومية، حتى وصلوا إلى جنوة ومرسيليا، وانتهى اسم (بحر الروم) إلى الأبد [أبو عُبيَّة، طه عبد المقصود، موجز عن الفتوحات الإسلامية (القاهرة: دار النشر للجامعات، د. ط، د. ت) 1/25].

لقد كان من أعظم قادة الفتوحات الإسلامية زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه عبدُ الرحمن بن ربيعة الباهلي، وأخوه سليمان، وحبيب بن مسلمة الفهري، والأحنف بن قيس، وعبد الله بن عامر، وعبد الله بن الزبير، وغيرهم، وبعد مقتل عثمان رضي الله عنه توقفت الفتوحات الإسلامية زمنًا؛ بسبب الفتنة التي وقعت بين علي ومعاوية رضي الله عنهم، لتعود وتنطلق من جديد زمن معاوية رضي الله عنه.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين