المواطنة والعلاقة بغير المسلمين -7-

خوف مبرر

في زماننا هذا، استحيا كثير من المسلمين أن يكون أسلافهم قد فرضوا هذه الشروط على أهل الذمة أي الشروط العمرية، فحاولوا نفيها بالقول إنها لا أصل لها بل وضعت بعد عمر بن الخطاب بأجيال، ومنهم من قال هي شروط، للحاكم المسلم الحرية في تطبيقها أو تركها، لكن هنالك من الإسلاميين الذين يكرهون ضعفنا أمام الغربيين وحرصنا على نيل إعجابهم ولو على حساب ديننا، من انبرى للدفاع عن الشروط العمرية، وليثبت من المراجع الإسلامية أنها ليست موضوعة، وأنها كانت مطبقة، وأنها يجب أن تطبق من جديد عندما توجد الظروف المناسبة. الشيخ علي بن نايف الشحود باحث في العلوم الإسلامية واسع الاطلاع وغزير الإنتاج وكتابه (المفصل في شرح الشروط العمرية) رائع وشامل ومتوفر على النت ويغني القارىء عن العودة للمراجع القديمة التي قد تكون قراءتها غير مريحة للبعض لاختلاف التعابير والمصطلحات. المهم، الشيخ علي يؤمن أن هذه الشروط يجب فرضها على اليهود والنصارى كلما أمكن ذلك إلى يوم القيامة، فهي برأيه من ثوابت الإسلام، مع أنه لم يذكر في القرآن منها أكثر من الجزية والصغار لكفار أهل الكتاب، ولم ترد في الأحاديث الشريفة. هو يرى أنه طالما جمع عمر بن الخطاب نخبة الصحابة الذين كانوا معه في المدينة المنورة وعرض هذه الشروط عليهم لأخذ رأيهم فأجمعوا عليها، فقد صارت فريضة دائمة، لأن كل إجماع للأمة ينتج عنه أحكام معصومة من الخطأ وواجبة على الأمة إلى يوم الدين.

 

هذه الشروط التي فرضت على أهل الذمة في بلادنا قروناً عديدة، نادر منا من اطلع عليها، بينما هنالك ناشطون حاقدون من المسيحيين العرب أشهروها في الأوساط المسيحية في المنطقة، لتحريضهم على العمل على أن لا تتكرر بأي شكل من الأشكال. لا يمكننا أن نلوم أحد أنه منزعج من تاريخه الذي كان فيه أجداده الذين أصروا على دينهم يعيشون حياة فيها صغار كما أمر القرآن الكريم. كما إننا نستطيع أن نفهم الرعب المنتشر عند المسيحيين في المنطقة بعد ثورات الربيع العربي خشية أن يصل إسلاميون متشددون للحكم فيفرضوا عليهم هذه الشروط من جديد.

 

صحيح أن الشروط العمرية مذلة للذميين، لكن كانت مطبقة في جو من الرحمة، إذ لم يعرف التاريخ فاتحاً رحم الشعوب المغلوبة كما رحم العرب الشعوب التي فتحوا أو قل احتلوا بلادها. لم يحتلوها لينهبوا خيراتها ويستعبدوا أهلها، بل لإزالة أية حواجز أمام دعوتهم ودخولهم في الإسلام دون إكراه، وأذكركم بالحكمة التي أعتقد أن الله أرادها عندما قال: (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)، لكن لم يسجل التاريخ أي اضطهاد لليهود والنصارى في البلاد الإسلامية، اللهم إلا ما يدعيه الأرمن من اضطهاد مارسه عليهم القوميون الأتراك خلال وبعد الحرب العالمية الأولى، وهو لم يحدث لأسباب دينية على الإطلاق، إنما وقع لأن الأرمن تعاونوا مع الجيش الروسي الذي احتل شرق تركيا وارتكبوا مذابح بحق أهلها. كان الأرمن بنظر الجيش التركي خونة يستحقون أقسى معاملة، وبخاصة أن القوميين الأتراك الذين أسقطوا الخلافة العثمانية، كانوا هم المسيطرين على الجيش التركي. أي بكل بساطة الإسلام بريء من أية مذابح بحق الأرمن والقضية كانت قومية.

 

ثم من شاء منكم فليقرأ تاريخ اليهود في أوربا على مدى القرون التي سبقت الثورة الفرنسية، ليرى مقدار الاضطهاد الذي وقع على اليهود هناك ولقرون عديدة، لمجرد أنهم يهود، إلا في الأندلس، حيث ازدهروا مالياً وثقافياً ونَعِموا بأفضل حياة نعموا بها في تاريخهم بعد الشتات وقبل الثورة الفرنسية. وقد واجهوا مشكلة كبرى عندما سقطت الأندلس بكاملها بيد النصارى الأوربيين، فهاجر بعضهم إلى المغرب واستوعبت تركيا العثمانية الباقي، فاستقروا آمنين في ديار المسلمين. نعم كانت كلمة (وهم صاغرون) تجعلهم درجة ثانية، لكن لم يقع عليهم أي ظلم لأنهم يهود، كما كان يقع في أوربا المسيحية. الإسلام لم يلغ الرق وبقي قسم كبير من البشرية عبيداً لغيرهم، لكن الإسلام حرم على السادة أن يظلموا عبيدهم أو أن يكلفوهم مالا يطيقون من الأعمال، وأمرهم أن يطعموهم مما يَطْعَمون هم أنفسهم وكذلك أن يلبسوهم مما يلبسون.. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما أن المعرور بن سويد قال: {رأيتُ أبا ذرٍّ وعليه حُلَّةٌ وعلى غلامه مثلُها. فسألتُه عن ذلك؟ قال: فذكر أنه سابَّ رجلًا على عهد ِرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. فعيَّرَه بأمِّه. قال: فأتى الرجلُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. فذكر ذلك له. فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ (إنك امرؤٌ فيك جاهليةٌ. إخوانُكم وخولُكُم .جعلهم اللهُ تحت أيديكم. فمن كان أخوه تحت يدَيه فلْيطعِمْه مما يأكل. وليلبسْه مما يلبس. ولا تكلِّفوهم ما يغلبهم. فإن كلَّفتموهم فأَعينوهم عليه)}. إن كان هذا هو حال العبيد في الإسلام فما تكون حال الذميين وهم أحرار؟ فحتى الجزية اشترط ربنا أن لا تؤخذ من فقيرهم بل لا تؤخذ إلا (عن يد) أي من القادرين عليها دون إرهاق. ربنا بعث محمداً صلى الله عليه وسلم ليكون رحمة للعالمين أي لشعوب الأرض كلها، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)) (الأنبياء).

 

وللحديث بقية إن شاء الله تعالى

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين