المهاجر الخالد - صلى الله عليه وسلم

المهاجر الخالد

 العلامة :محمد كامل البنا

وينسلخ من العمر عام، ويدور الزمن دورته، فتشرق في نفوس المسلمين ذكرى هي إلى كل قلب حبيبة، وإلى كل نفس قريبة، ذكرى المهاجر الخالد الباقي ما بقيت السموات والأرض، الذي ضمه الثرى وهو حي في كل قلب، تسكن ذكراه العطرة بين حنايا الضلوع.
ويتحدث خطيب في مجتمع، ويتكلم متكلم في ندوة، فلا يكاد يكرر معنى قاله، أو جملة سبق أن مرت على لسانه، حتى يظهر على نفوس جل السامعين إن لم يكن كلهم، ضيق وسأم وملل وامتعاض... إلا ذكرى هذا المهاجر ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنها ما كررت إلا حَلَت، ولا أعيدت إلا اشتاق السمع إليها، وهفت القلوب والنفوس لذكراها، فإن كل كلام يقال فيها مهما تكرر وأعيد طريف جديد، وكل حديث يتلى عنها يطلب السامع منه المزيد..
مزية اختصت بها هذه الذكرى أو اختص بها صاحب الذكرى عليه من الله وملائكة الله وعباد الله أفضل الصلاة وأزكى التسليم، والحق إنها لحادثة جديرة بأن تخشع لذكراها القلوب، فهل سمع الناس أو سجل التاريخ، أن فرداً قبل محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، استطاع أن يقهر بلداً بأسره يناصبه العداء، وقوماً على كثرتهم، يقفون له كل مرصد، وفتياناً أشداء اصطفوا أمام داره طوعاً لإرادة إبليس الرجيم، يريدون أن ينقضوا عليه بسيوفهم، ويضربوه ضربة رجل واحد، بغية أن يضيع دمه بين القبائل بدداً فتقبل أسرته الدية.
قهر هؤلاء جميعاً محمد الفرد الأعزل إلا من قوة الله ويقينه بالله، وتحدي سلطانهم وسيوفهم وفتيانهم وأشداءهم جميعاً، وخرج متئد الخطى كالعهد به، ثابت اليقين كما علمه ربه، يتلو كتاب الله الذي أنزله عليه هدى ونوراً لقوم يؤمنون...
خرج يحف به الجلال، إلى حيث ينتظره أخوه في الجهاد، وصديقه الأمين رضي الله عنه، وسارا في طريقهما إلى يثرب التي تنتظرهما في صبر قليل وسرور كبير...
وكانت خطة محكمة، وتدبيراً منظماً، لم يستطع ولن يستطيع أن يصل إليه عباقرة المفكرين ودهاقين الساسة والمحاربين، مهما يتقدم بهم الزمان، أو أوتوا من العلم والعرفان.
أجل نظم محمد صلى الله عليه وسلم لرحلته نظاماً وصل إلى الغاية، ونجح إلى النهاية، بتوفيق من الله سبحانه ولو أن مجموعة قوم كانوا قد دبروا لمحمد ورسموا له خطة دخول غار ثور، ليختفي مع صاحبه عن القوم حتى لا يظفروا بهما، أو تولوا حراستهما والدفاع عنهما حين يراهما القوم، لما استطاع هذا أن يحمي محمداً من أولئكم الموتورين الذين أفقدهم إفلاته منهم صوابهم، وودوا لو يظفرون به بأي ثمن، حتى لقد أعلنوا عن الجوائز، ووعدوا من يأتيهم بهم حياً أو ميتاً بالعطاء الوفير...
ولكن محمداً صلى الله عليه وسلم كان شيئاً آخر غير ما تصوروه، وكان الخالق القاهر القادر هو الذي دبر له، ورسم له، وأمره أن يفعل ما يؤمر به، فلم يكن لأحد مهما كانت قدرته وقوته، ولم يكن لقريش بخيلها ورجالها، ولا لأمم أضعاف أضعاف قريش أن تظفر من محمد بطائل، فإنه قد دعا دعوته لله ونادى كفار قريش لعبادة الله سبحانه، وارتفع بهم عن عبادة الأوثان والأصنام والأشخاص ليجعلهم أناساً جديرين بالحياة، خليقين بأن يكونوا عبيداً لله.. دعاهم إلى هذا كله بأمر من ربه، ولم يكن له من رأيه مأرب ولا غاية.
وصمم على أن يصل إلى النهاية، وما النهاية إلا أن تنجح رسالته وتعم دعوته، ويؤمن بها الأبيض والأسود.
ومن أعده الله ليحمل هذا العبء، ويضطلع بتلك الرسالة، لا يتخلى عنه الله أبداً، ولا يتركه لنفسه، ولا لأحد من خلقه طرفة عين..
فإذا مر عام جديد، وطلع على المسلمين هلال المحرم مؤذناً بهجرة سيد المرسلين مذكراً الناس بسيرة هذا المهاجر الخالد والرسول البشير النذير، داعياً المسلمين إلى أن يتفكروا في ماض مشرق كانت لهم الغلبة والعزة والمنعة، منادياً إياهم أن انفضوا عن سواعدكم غبار الدعة، واذكروا أن صاحب الهجرة الأعظم صلوات الله تعالى عليه وسلم لا يرضيه في روضته ما أنتم عليه من ذلة ومسكنة وتفرق وشتات، وأن دينه القويم يدعوكم إلى الحياة الكريمة، حياة الحق والعدالة والحرية والشجاعة، لا حياة المهانة والضعة ولا حياة الاستعباد وعبادة الأشخاص.
إن محمداً صلى الله عليه وسلم الذي خفض جناحه لكل إنسان واتسع حلمه لكل مظلمة وكل شكاة لا يرضى لأتباعه أن يكونوا جبناء ضعفاء أذلاء يخشون طاغية، أو يتهيبون ذا منصب أو صاحب جاه، فيضيعون الحق جبناً ويسكتون على الظلم خوفاً، ويقبلون المهانة له، ولكنه يهيب بهم في ذكرى هجرته أن كونوا يا معشر المسلمين أقوياء يهبكم الأقوياء، ولا ترتضوا الذل فتعيشوا عيشة الأذلاء، وجاهدوا كل جبار أو طاغية، ولا تهولنكم قوة مهما طغت، واذكروا أن في بلاد المسلمين متسعاً لكل مضطهد أو مستضعف، وهذه مصر كنانة الله يتسع رحابها لكل قاصد لا يستطيع أن يحيا في بلده حياة كريمة، أو يعيش في وطنه عيشة الاطمئنان، وإذا لقي مسلم عنتاً أو إرهاقاً في بلد فلا يقولن إني مستضعف ولكن ليذكر قوله عزَّ وجل:[إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا] {النساء:97}.
سيدي أبا القاسم: هذه هي ذكراك الخالدة تحل بنا والعالم تسوده الفوضى، والقوي يلوح بقوته، والطاغي مزهو بطغيانه، والمسلمون في هذا الخضم الهائل أشتات متفرقون لا تجمعهم جامعة، ولا تشملهم وحدة، فهل ينتهزون هذه الفرصة فيذكرون أنك مناط أملهم، ومكان أمنهم واطمئنانهم، فيجتمعون على دينك وينسون خلافاتهم وتطاحنهم على المجد الزائل والسلطان الدائل ويضحون بذواتهم في سبيل مجد دينهم، وسؤدد بلادهم، حتى يستطيعوا أن يجتازوا المحن، ويتخطوا الصعاب من غير أن ينال منهم نائل أو يمسهم ضر، أو يقضي في أمورهم وهم مبعدون.
سيدي المهاجر الخالد: كلما اشتدت بنا المحن، أو حزبتنا الأحداث والكوارث نتجه بقلوبنا وأرواحنا إلى حيث مثواك فنرى وميضاً من النور يملأ القلوب بالروح والريحان، ويشع في النفوس الرضا والأمان، فننسى في تلك الفينة آلام الحياة وأرزاءها وثقل لؤمها وبأساءها، ونعيش هذه اللحظات سعداء كأن لا خوف من شقاء، هانئين قانعين بما نحن فيه من عزة ورخاء، ونتمنى ـ لو صحت الأماني ـ أن لو ظلت الحياة كلها هذه اللحظات، أو انتهت بانتهاء تلك الفينات.. ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه.
سيدي أبا الزهراء: قطرة منك يا أكرم الخلق على الله، وأقربهم إلى الله، إلى الأمة الإسلامية التي فتنتها الحياة وغرتها الدنيا وغرها بالله الغرور.
نظرة منك إلى هذه الأمة، كفيلة بأن يلهمها الله الصواب، ويرفع عن أبصارها الغشاوة ويهيء لها من أمرها رشدا.
وإذا أنت لم تدع ربك أن يأخذ بيدنا، فياويلنا ويا بؤس حياتنا... ولكننا نطمع في كرمك، وجميل حلمك، أن تدعو لنا ربك، ألا يعاملنا بعدله، بلم بموسوع فضله، وألا يحجب عنا فيض جوده ورحمته، وواسع عفوه ومنته، فنحن الضعفاء لذنا بباب القوي.
والسلام عليك يا خير من ظهر في الوجود ويا مَنْ مِن أجله أكرم الله كل موجود، والله نسأل في ذكرى هجرتك الباقية على الزمان أن يمنحنا الرضا، ويهبنا الخير والإحسان.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين