المنهج التعبدي للشيخ محمد سعيد الطنطاوي أسكنه الله فراديس جنانه

ذكرت في مقالة سابقة ما يتصل بأهم المعالم اللغوية التي بدت على شخصية الشيخ العلمية ، ولا ريب أن الحديث عن الكرام فيه راحة تُطلب وترام :

ما أحيلى خمرَ التحدث فيهم=وعليهم ياحسنَ تلك النقول

وأقدم لإخواني المقالة الثانية التي تبين طريقة الشيخ في العبادة ، ومنهجه الذي سار عليه في السلوك إلى الله

فسلوكُه بابٌ لكلِّ موحّدٍ=وطريقُه للوصل كا المفتاح

لقد أشار كثير من محبي الشيخ الذين كتبوا عنه إلى ورعه وزهده ،وتجرده عن العلائق الدنيوية ،ما يجعل الشيخ نبراساً وضياء للحائرين الذين يزعمون أنه لا يوجد الآن في هذا العصر شيوخ كُمّل ، وعلماء عُمَّل ،فمن عرف الشيخ أدرك أن السائرين على منهج النبوة الحقة لايخلو منهم زمان لا مكان ، ونسيت الآن اسم من أخبرني من أحباب الشيخ أن أحد المعتمرين من المسلمين الأمريكيين ،سأل عن الشيخ محمد سعيد الطنطاوي بعد أدائه الصلاة في مسجد فقيه – في العزيزية ،فدله أحد المصلين عليه ،وأضاف الأخ قائلاً:إن هذا الرجل سأل بعض الإخوة الدمشقيين في أمريكا عن رجل الآن شبيه بواحد من التابعين كالحسن البصري أو سعيد بن المسيب فقالوا له :إذا وصلت مكة،فصلِّ في مسجد فقيه في حي العزيزية،واسأل عن شيخ اسمه سعيد الطنطاوي فسوف ترى رجلاً شبيهاً بأولئك الذين تقرأ عنهم،وقد تم له ماأراد،وأدرك أن أمة محمدصلى الله عليه وسلم، لاتخلوعلى مر العصور والدهور من الأولياء والصالحين ،وأن ما تتحدث عنه كتب التراجم من صفاتهم وأحوالهم صحيح لاداعي للتشكيك فيه، وقد قيل :إن أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هي الأمة الوحيدة بين أمم الأنبياءالتي لاتخلو من العلماء الأولياء ،وذلك كرامة لرسولنا صلى الله عليه وسلم في حين أن بقية الأمم لا يوجد فيها أولياء بعد موت أنبيائهم ،والشيخ محمد سعيد نحسبه من أولئك العلماء الأولياء،الذين تحققوا بالرسول صلى الله عليه وسلم قولا وفعلاً ،وفكراً ومنهجاً وحالاً ، سلك منذ صغره طريق المجاهدات والرياضات التي لايقدر عليها إلا الأفذاذ المصطفين الأخيار ،وكأنه اجتُبي َ ليكون قدوة للناس ، ومن أقوال العلماء الصالحين :إذا وفق أعان ،وإذا أبرز سدد قيل :

من كان حالُ رسولِ الله رونقُه=فأين فيه مجالُ النُّطقِ والفكر ِ

نعم يضيق بالشيخ الفكر لكثرة شمائله ،وفضائله ،وكنت دائماً أقول لإخواني لا تكاد تقرأ منقبة وخَصلة وفضيلة في كتب تراجم العلماء الأولياء إلاولها تحقق في الشيخ محمد سعيد الطنطاوي ،فحدث عن البحر-كما يقولون - ولا حرج ،فالفضائل كثيرة ،والمناقب وفيرة وسبحان المعطي الوهاب ،فمما أرغب في تذكير إخواني به ذلك المنهج السلوكي في عبادته،ففي التعرف عليه فوائد وعوائد لاتخفى على أحد "وفي ذلك فليتنافس المتنافسون " فمما تبدّى به :

1- حرصه على صلاة الجماعة، ولو أردنا أن نكتب عنه في ذلك رسالة خاصة نضمنها الأخبار والحكايات عنه لجاءت مجلداً كبيراً ،فمما أذكره أنه حين يكون صائماً يفطر على التمر في أثناء سيره إلى مسجد فقيه ،حتى لاتفوته تكبيرة الإحرام،وفي مرضه الأخيركنت أراه يسير مسرعاً إلى المسجد ،واسع الخطوةلايلتفت ،ضاغطاً بيده على الكيس المعلّق على فخذه ،-لأنه أجرى عملية جراحية للبروستاتا "- إلى أن يصل إلى مسجد فقيه ،وحين ضعف نظره ولم يعد يتبين طريقه بدقة كان يخرج من بيته فيتلمس بحسه المرهف الدقيق أحد الذاهبين إلى المسجد فيسير وراءه مهتدياً إلى أن يصل إلى المسجد ،وكل أحبابه يعلمون أنه حين ساءت حالته الصحية وتدهورت كثيراً ،ظن أنه يستطيع الوصول إلى المسجد فخرج من بيته ،ولا أحد يعلم آلامه وأوجاعه ،فلم يستطع الوصول إلى المسجد ،فتوقف ،وسقط على الأرض وحين وصل إليه الأخ نور الدين عدي وجده في ذهول قريب إلى الغيبوبة ،يقرأ القرآن بصوت خفيض ، ظناً منه أنه في المسجد خلف الإمام ،فحمله –جزاه الله خيراً – إلى المستشفى ،في جدة ،ومنها استقرَّ عند ابنة أخيه الشيخ علي رحمه الله ،وقد تذكرت في هذا المقام ماقاله الإمام القشيري الذي أراه في الشيخ سعيد حفظه الله ،قال القشيري :واعلم أن من أجلّ الكرامات التي تكون للأولياء دوام التوفيق للطاعات ،"يؤكد ذلك ما ذكره الشيخ محمد أديب كلكل في كتابه " الأنيس في الحدة بأن الشيخ المحدث بدر الدين الحسني ألح عليه طلابه أن يحدثهم عن كراماته أوعن بعض منها فقال لهم :إن أعظم كرامة يكرم الله فيها عبده مواظبته على الصلوات الخمس جماعة "ولا تكاد تجد أخاً إلا يشهد للشيخ بذلك بل كأنه – والله أعلم – ممن لم تفته تكبيرة الإحرام أربعين يوما .

طوى بهم همةً لو لامستْ حجرا=لفاض ماءُ الهدى من ذلك الحجرِ

2- أما خشوعه في الصلاة وحضور قلبه فلا أستطيع وصفه ،لأنك تشعر إذا صليت بقربه أنه في عالم روحي آخر ،وأثر خشوعه يصل إليك ،ويغلب عليه أن يصلي السنة القبلية ثم البعدية مباشرة لأنه حنفي المذهب ومحب له ،ثم بعدها يقرأ وردَه ثم يرفع يديه بالدعاء ، وأحيانا – حين كثرت أمراضه أمراضه -كان يستريح بعد الصلاة فيضطجع في موضع صلاته متكئاً على إحدى يديه ،فيأتي من يرغب بالسلام عليه ، وبعد الانتهاء كنا نمسك بيده ونساعده –أنا أو غيري ممن يكون معه - في النهوض ،وكان – والله - قوياً ،وأحيانا يمزح مع الأخ الذي يساعده فيصرخ فيه على سبيل المزاح قائلاً له :على مهلك آلمتني ،وما أكثر مزحاته الطريفة ودعاباته اللطيفة مع إخوانه الذين يحبهم ويُجلُّونه وهذه المزحات تتميز بكونها صادرة عن ذكي جداً .وقد لايفطن إليها سامعها ولا يدرك مغزاها إلا بالتروي والتأني، وقد ذكر كثير من إخواني الذين رثوه وأبنوه أمثلة عليها ومن دعاباته الدالة على سرعة بديهته وحدة نباهته أنه صار في مرحلة من مراحل مرضه ينام تحت طاولته ،وكنا نتساءل لماذتا ينام تحت الطاولة ،قال بعضهم :لعل البعوض يزعجه – مع أني لم أر في زياراتنا له أية بعوضة في منزله ،وقال آخر :لعله يتمثل القبر،وقال ثالث :لعله يفعل ذلك ليستيقظ لصلاة التهجد فلعل تغيير المكان يساعده ، لكن الأخ نور الدين سمع من الشيخ أنه لاينام في الليل إلا قليلاً قائلاً له ليحثه على صلاة القيام والتهجد ،وأخبرني ابني عماد بأنه تجرأ وسأله عن سبب نومه تحت الطاوله ،فأجابه بجواب الأسلوب الحكيم قال له وهو يضحك : الظاهر أنك في حياتك كلها لم تر أحداً ينام تحت الطاولة يا مسكين ،ثم أدار الحديث إلى حديث آخر ولم يجب عن ذلك . وكم قلت لأخواننا المحبين له :هذا الرجل مات وسره معه ، فلم يطلعنا إلا على النادر من شؤون حياته وأحواله :

وكم حالٍ يترجمه سكوتٌ=يؤدي فيه منطوقُ اللسان

تناهبني السقامُ وذبت لهفاً=فلو حدّقت عينك لن تراني 

و كنت أراه يصلي الوتر إحدى عشرة ركعة متوالية ،فلا ترى مصلياً غيره في المسجد ،وكان خادم المسجد ينتظره حتى ينتهي من إتمام صلاته ، فأراه بعد الانتهاء منها يرفع يديه بالدعاء ويطيل فيه .ولا بد من أن يدعو بعد كل صلاة رحمه الله ونفع به

وكنا ننتظره للسلام عليه أولتوصيله إلى بيته ،فيتحفنا بالرقائق اللغوية والشرعية والتاريخية ، وفي هذا الوقت لم أكن أعرف ماذا كان يقرأ فيها ، -في السادس من شهر رمضان سنة 1429هـ،صليت بجانبه في مسجد فقيه ،فشعرت برجفة شديدة سريعة تعتريه ،اعترته هذه الرجفة مرتين ،وهو في الصلاة ،ثم رأيتها تعاوده في بيته ،وصارت ملازمة له مدة طويلة من الزمن ،وباتت مألوفة عند أحبابه ،ثم رحلت عنه ولا نعرف سبباً لها .

3- وفي عام 1438/24/12كنت في الطائف بصحبة الأخ نور الدين عدي فأخبرني أن الشيخ في مساء الخميس خاصة يقرأ سورة الكهف كلها بعد أن يصلي الوتر ،لكي يؤمّن عليها خوفاً من عدم قدرته على قراءتها يوم الجمعة نهاراً ،ومما لحظه على الشيخ سعيد – كما قال - أنه بعد الانتهاء من صلاة العشاء والوتر يقرأ سورة الحاقة أحيانا وهو جالس .ولكن لاأحد يعلم سر ذلك وأحسب أن الشيخ ممن يخفي حاله ،عملاً كما قالوا –على سلامة قلوبهم وحبا في إخلاص أعمالهم لسيدهم .

-ومن نظامه في العبادة آخر عمره ،أنه كان يصلي في رمضان ست عشرة ركعة في المسجد جماعة ،ثم ينفرد فيصلي وحده،وكان أحياناً يذهب إلى مسجد (حمزة) – وهو في الطرف الثاني من مسجد فقيه - ويصلي هناك،وحين اشتد عليه المرض صار يصلي الجمعة فقط في مسجد فقيه ،وحين استقر به المقام في جدة – حي الأمير فواز – صار يصلي الجمعة فقط في مسجد الفتح القريب من المنزل الذي يقطن فيه ،جالساً على الكرسي المتنقل يدفعه أحد المحبين أنس عدي أو عبد الرحمن الحجار .

أما صلاة الضحى فكان يصليها في مسجد فقيه أيضاً،فبعد صلاة الفجر يجلس تحت النافذة في الجانب الأيسر من المسجد ،ويقرأ القرآن إلى طلوع الشمس وارتفاعها مقدار رمح فكان ينظر في ساعة المسجد الحائطية ليطمئن إلى أن وقت صلاتها قد حان وأخبرني الأخ أنس أنه انتبه إلى أن الشيخ يصلي الضحى أربع ركعات يقرأ فيها سورة النبأ , وأضاف بأن الشيخ قال له :لا داعي لأن تتقيد بورد خاص وتلزم نفسك به لكن عليك دائماً أن يكون لسانك رطباً بذكر الله.

5- زرته مساء يوم الأربعاء التاسع من شهر شعبان سنة 1439هـ مع ابني مصطفى،فوجدته يصلي جالساً،والأخ عبد الرحمن الحجار جالس قربه يلقنه ما يجب أن يفعل أو يقول، في الصلاة ، وكأن الشيخ لذهوله وإرهاقه لايحضرُه ما يريد أن يقوله فهو بحاجة إلى من يسلِّمه أول الطريق ، ويذكره بما يقوم به فيقول له مثلاً:التحيات لله، فيتابع الشيخ بعد ذلك أو يقول له :سَمِعَ الله ،وعلى هذا النحو صارت صلاته وبعد الانتهاءتعاون الأخ الحجار مع معاونه "أبو كمال "- ولا أعرفه إلا بكنيته هذه – وأحضروا جهازاًطبياً من الألمنيوم فأمسك الشيخ به ليقف، ثم قال له أبو كمال :ارجِع برجلِك خطوتين إلى الوراء فرجع الشيخ وصارت قدماه لصيقتين بسريره ثم أداراه بهدوء حتى ا ستقر على السرير ثم رفعا قدميه فمدهما مبسوطتين على السرير ، -وجزاهما الله مع كل من خدم الشيخ في سرائه ضرائه – خيراً كثيراً .لقد عاش الشيخ يتقلب بالأوجاع والأسقام فعاش معها صابراً راضياً حامداً شاكراً لربه الكريم

- في زيارةأخرى له وهو في جدة ،وجدناه نائماً ،فقلت للأخ "أبو كمال "لا توقظه اتركه حتى يستيقظ ،فحدثني الأخ أبو كمال – أنه مع حالته المرضية الشديدة لم يترك صوم الإثنين والخميس ،ويطلب السحور في الساعة الثالثة صباحا ً،أما في ليلتي الخميس والجمعة فهو مواظب على قيام الليل وقراءة سورة الكهف في ليلتهما ،وحين فاق من سَنة نومه أذن العشاء ،فتوضأ حفظه الله وصلينا معه العشاء فكان من أجمل ماسمعت هو صوته الندي المتهدج المفعم بالروح الذكية المشرقة بأنوار الخشوع والانقياد والتسليم ، ،فكان الأخ أبو كمال -الذي يرعاه - يرفع صوته ويقول له في الركوع :سبحان الله العظيم فيردد الشيخ السبحلة وفي السجود يرفع صوته ويقول له سبحان ربي الأعلى فيعيدها الشيخ وراءه، وحين جلسنا للتشهد قال له :التحيات فيتابعها بنفسه وكأني به رعاه الله يعيش في ذهول دائم وشرود فلا يكاد يفطن أهو الآن في الركوع أم في السجود ، ومما أخبرني به الأخ أبو كمال أن الشيخ دائم السؤال عن أوقات الصلوات ليؤديها في وقتها ،نعمْ هكذا عرفناه ،تعلق عجيب بأداء الصلوات جماعة وهو لايزال حتى الآن يحافظ على صلاة الجمعة في المسجد على كرسيه مع ذهوله من شدة أسقامه الكثيرة وأوجاعه الدائمة المريرة لايتأوه أبداً ولا يتضجر ،تسليم كامل لقضاء الله وقدره ،ومما عرفته في هذه الجلسة أنه حتى الآن يشرب عصيراً من التمر والحليب ثم برتقالة وهو منذ خمسة عشر عاماً يعيش على هذا العصير ،وأحيانا يطلب عصير البندورة لكن ذلك قليل جداً ، همة عالية وروح وثابة ولا تعجبنَّ من هذا الخبر فالذي يعرف الشيخ لايراه غريباً لقد قتل نفسه ،بالرياضات والمجاهدات فلم تعد تلوي على شيء عنده فهو كما قال الرواس :

كأني ميّت في ثوب حيٍّ=ولم أدر بطوري ما دهاني

وهو في زيارته الأخيرة لمستشفى سليمان فقيه اكتشفوا إصابته بمرض السكر ي ،قائلين :إن البنكرياس عنده صار ضعيفا جداً ،لكبر سنه،رحمه الله رحمة واسعة

6- كان رحمه كريماً جواداً لايخشى الفقر ،ويكره البخيل فهو كما قال لي لم يفكر في يوم من الأيام بالراتب المالي ، ومن وجوه كرمه أنه كان يعطي البائع لاسيما أولئك الذين يبيعون أمام المساجد أوأصحاب كيّ الثياب ،أكثرَ مما يطلبونه، ورعاً ودفعاً لأية شبهة ،فهو يريد من البائع أن يكون راضياً تماماً وكنت إذا تكلمت واتفقت مع البائع مساوماًعلى سعر شيء ما ،كان ينهرني ويحدث أولادي بما حصل بيني وبين البائعين محباً مازحاً، وقد فطنت الآن إلى حادثة جرت أمامي تتعلق بشرائه من البائعين الذين يبيعون أمام المساجد إذ كان – بل الله رمسه بوابل ألطافه - لايشتري من أي واحد منهم إلا إذا كانت (بسطته- موضع عرض البضاعة ) خارج حدود المسجد ،لقد اخترت له مرة بِطيخة من هؤلاء البائعين وبعد النقر عليها وضرْبِها بأصابع يدي لسماع رنتها التي قد تدل على أنها (سكر حلوة) لذيذة ة ،فاجأني بطلب إرجاعها ،لأنه انتبه إلى أن البائع باسطٌ البطيخَ أمام الباب مباشرة فعدَّ الشيخ ذلك من ضمن المسجد ،أو لأنه انتبه إلى أن البائع لم يُصلِّ ،فأرجعتها للبائع ،

و كان إذا خرج من المسجد لحقَ به بعض المحتاجين ،فكان نبيهاً جداً يعرف كلَّ واحد منهم ،فالذي يدخّنُ لايعطيه شيئاً ألبتة ،وكذا المرأة التي ليست محجبة الحجاب الشرعي ،أما من اقتنع به فكان يُخرجُ من جيبه القطع الورقية من الريالات ،ويعطيها للفقير المحتاج ،ولا تعلم شمالُهُ ما أخرجته يمينه ،وأذكر أنه أخرج مرة قطعة ورقية،فكانت خمسمائة ريال،وقال لي :أعطها لهذا السائل ،وهو لايعلم فيما أعتقد قدرها ،نعمْ هكذا كانت صدقاته لمن يقتنعُ به بل إن بعضهم أجرى له هذه الصدقة كأنها راتب شهري له،

تسحُّ أياديه طولَ المَدى=لراجي المواهب سحَّ السحابِ

وعلمت مؤخراً أنه رحمه الله لم يستلم مكافأة نهاية الخدمة من الجامعة ،فإن صح الخبر فلا أفسره إلا بورعه الذي ارتضاه لنفسه ولا يأمر به أحداً ، خشية من الله وورعاً وزهداً لايستطيع أحد التحقق فيها ،كنت أراه – نور الله قبره - يخرج من الجامعة مشياً إلى مسجد فقيه ليصلي الظهر فيه ،ثم صار يصطحب معه الدكتور منير الغضبان رحمهما الله تعالى ،ومن القصص التي تبين نظرة الشيخ إلى الرقية أنني رأيت امرأة معها ابنتها تنتظره أمام مسجد فقيه ،وترغب في أن يقرأ على ابنتها ما تيسر له من القرآن الكريم ،فنظر إليها بعين الرأفة والعطف ،واعتذر قائلا: :اذهبي إلى الطبيب ،لكني كنت أشعر بأنه يدعو لها بالشفاء من غير أن يشعرها ،ولكن أخي نور الدين عدي قال لي بأنه اشتكى ألماً في بطنه مع ضيق نفسي شديد ،فطلب من الشيخ أن يقرأ له ،فأمره الشيخ بالذهاب إلى الشيخ سعيد الفيومي الذي كان يصلي في مسجد آخر ،لعله مسجد "حمزة" فاستقبله الشيخ سعيد الفيومي وكأنه يعرفه منذ زمن بعيد ،وما إن قرأ ودعا للأخ نور الدين حتى شعر بالتحسن السريع وأضاف قائلاً :كنت عند الشيخ مرة أخرى وأنا أعاني من وجع في البطن أو في القولون كاد يمزقني فأجلسه الشيخ على الكرسي ورقاه فنام الأخ نور الدين بعد القراءة مباشرة واستيقظ لا يشتكي شيئاً ولله الحمد .

- ولعل مما يندرج تحت ذلك أنه حين انتقل إلى جدة ،وكثرت علله وأوصابه صار يطلب من محبيه أن يعتذروا لكل أخ يطلب زيارته فحياؤه كحياء عثمان ،أنيق بإحساس مرهف جداً ثم سمح لبعض قاصديه من محبيه، فكان يمسك بيد زائره ولا يتركها إلا بعد مدة طويلة وأحيانا يستغرق في غيبوبة ولا يتركها ،وكأني به يعبر بهذا عن حبه لهذا الأخ ،وتقديره وشكره لزيارته ،وكلٌّ وفق استعداده وأذوقه وحاله .

رحم الله الشيخ –ما أكثر شمائله :

مناقبه زُهرُ النجوم وإنها=إذا غاب منها ساطعٌ جاء ساطع 

7- وذاع صيته واشتهر أمره -رحمه الله وبرد مضجعه - بأنه لايركبُ سيارة أي شخص حتى يعرفَ أن سيارته هي مُلكه، وليست للشركة التي يعمل فيها ،وأن ماله ليس فيه شبهة ، وبهذا كنت أفسر إعطاء البائع أكثر مما يطلبه خوفاً من أن يكون غبنَه أو لم ينل رضاءه كاملا ، وعهدي به أنه إذا أراد أن يعطي بعض المال ليشغله عند أحد التجار كان يسأله عن عمله كله بتفصيلاته ،فإذا انتبه إلى وجود شبهة كان يعتذر وينصح التاجر . عاش فيما أعلم بعد خروجه من الجامعة من الأرباح البسيطة التي تأتيه من بقالية شارك فيها أحد طلابه ، وهوبمشاركته له كان مراده مساعدة تلميذه أولاً وليس المال ،فكان تلميذه يعطيه في نهاية العام حصته ،يعيش منها الشيخ ويتصدق كأنه من أكابر الأغنياء الأثرياء .ثم فُكّت هذه الشراكة ،ولاأعلم أن له مورداً مالياً سوى ما وفره من قبل . حين عمل في الجامعة. 

وحرصه على اقتناء اللقمة الحلال شيء عجيب وغريب في حياته ، فكان دائماً يحث على ذلك ، وهو على اعتقاد تام أنها سبب الصلاح ،وهي مفتاح القبول والتوفيق والنجاح في الحياة لاسيما في الأبناء والأحفاد ،فمن قصصه التي كان يحكيها قصة العالم الثبت ابن عبد الملك إمام الحرمين قال عنه :كان قوي الحجة ،لايستطيع أحد أن يحاججه ،لكنه توقف مرة أمام أحد مناظريه ،فقالوا له: يا إمامُ ما عهدنا عليك هذا ،فقال :لعلها من تلك المصة – أي الرضعة - وكان الشيخ يشوقك بعد ذلك إلى سماع القصة فيقول :هذه المصة هي أنه رضع من امرأة لايجوز أن ترضعه ،ولم يستمر في ذلك لأن أهله تنبهوا مباشرة بعد هذه الرضعة ،فكان يعلق إخفاقه بهذه الرضعة .

8- كان- رحمه الله تعالى -لايغتاب أحداً حتى أولئك الذين أساؤوا إليه ،لقد مر بمحنة تجارية مالية ،وأعرف أنه تألم كثيراً من الرجل الذي كان سبباً فيها ،قال لي مرة :إن هذه المشكلة كالدُّمَّلة –وهي معروفة ورم مليء بالصديد ،مؤلم وكلما فقأها المريض عادت لتمتلئ ،-لكن لم أسمع منه كلمة واحدة فيها إساءة للرجل الذي كان سببا .

9-وأما مثابرته على قراءة القرآن الكريم الذي كان حافظاً له عن ظهر قلب ،فقد سألته مساء يوم السبت في أول ذي القعدة سنة 1426هـ، عن وِرده في قراءة القرآن الكريم فأخبرني بأنه الآن أي في هذه السن من العمر وفي هذه الحالة المرَضية الدائمة يقرأ كل يوم أربعة أجزاء ،ويوم الخميس بخاصة ستة أجزاء ،أي يختم القرآن الكريم كل أسبوع ، أي أربع ختمات في الشهر ،وسألته مرة عن صومه فقال لي:أنا مواظب على صوم الإثنين والخميس ،ومن قبلُ كان نظامي غير ذلك – كأني به يريد أن يقول :إني أصوم كثيراً – وأضاف قائلاً: إن جِبلّتي تميل إلى الصوم لأن الأكل عندي من الأمور البسيطة جداً ..

10-ورأيته حين طعن في السن ،وكثرت أمراضه وأسقامه ملازماً للصوم أيضاً،فكان بعد فطوره بساعتين يشرب الماء ،وفو جئت أنه طلب مني مرة حين أراد الشرب أن أتكلم ،كلاماً يسمعه الشيخ ولا يعلق عليه ،حتى ينتهي من شرب كيل الماء الكبير ،وقد تكرر ذلك فكنت أحتار في اختيار ما لايحتاج إلى تعليق ، وأرى أن أبلغه تحيات من يحبونه ثم أتابع الحديث بذكر أحوال الأولاد وأخبارهم ، وكم من مرة قطع الشرب ليشارك في الحديث ،ثم بعد أن يشارك كان يقول :ألم أقل لك هات حديثاً لايحتاج إلى تعليق ؟فقلت له :نريد أن نستفيد منكم ياشيخنا ،فعندكم الجواهر والدرر..

11- زرته مساء يوم الأربعاء من شهر صفر سنة 1433هـ،ففتح لي الباب جاره وهو الأخ أبو عبد الله الجارود ،فوجد ت الشيخ على كرسيه يقرأ القرآن بلا نظارة _وهذا أمر عجيب –لأن جميع الإخوة يعرفون أنه لا يستطيع ،وتذكرت أن أخي نور الدين عدي كان قد حدثني بأنه رأى الشيخ يقرأ بلا نظارة ،فسأله مرة قائلاً :أمرك عجيب كيف تقول لاأرى ثم تقرأ القرآن بلا نظارة ،فسكت الشيخ ولم يجبه ،وقد تذكرت ما ذكروه عن الشيخ اليمان بن معاوية الأسود قالوا :كان قد ذهب بصره ،فكان إذا قرأ القرآن ردالله عليه بصره ،فإذا ترك المصحف ذهب بصره – وسبحان الله كانت الأنوار تتلألأ من وجهه الوضيء،والأنس في الغرفة واضح ظاهر يستشعره المرء مهما كان من أهل الغفلة ،قلت له :إنني بشوق إليك، فقال :وأنا في أشد الشوق ،وتحدثنا في كثير من الشؤون والأحوال 

12- أما عمرته فكان من عادته -كما أخبرني الأخ نور الدين عدي- أن يحلق شعره كل خمسة وأربعين يوماً ،فكان قبل حلول موعد حلاقته يؤدي عمرة ،فيصيب غرضين منها ،ووصف الأخ نور الدين الذي أدى العمرة بصحبته بأنه كان يؤديها بعد العشاء ،يخرج إلى عرفات ،ثم يتوجه إلى الحرم فكان الأخ نور الدين يشعر بالشيخ كأنه في عالم روحي آخر ،أحيانا بصره يتجه نحو الكعبة ،وأحيانا نحو السماء ولا يتوقف عن الذكر والدعاء مع سكون ووقار ،وكأنه في السعي هاجَر ، طيار إلى عالم علوي آخر ،فالرحمات تهطل بإذن ربها ،والمواهب تمطر والأنوار تغشانا ،قال : وحين نعود من العمرة سحراًكنت أشعر بأني كنت في رحلة روحية لاأعرف كيف أتحدث عنها ، ،وحين وصولنا إلى بيته كان يجلس في السيارة مدة من الزمن قبل صعوده إلى البيت في حين كنت أحب أن يسرع في النزول وقد أدركت فيما بعد بأنه ضربٌ من التربية كان يعلمني إياها وأنا في حينها غير دار :

لقد حار فيه العارفون وأعظموا=حقيقته والجنس قد يعرف الجنسا

ومما أذكره أنه كان ينبه أحبابه إلى عدم النوم بعد صلاة العصر وينصح الأخ نور الدين بذلك ،وكلنا نعرف كراهة ذلك لكن تذكرت قولا لبعضهم :إن المواهب الروحية تفاض بعد العصر ،فهل كان الشيخ يريد من أحبابه التعرض لها أيضاً ؟

13- أما حجه فكان كثير الحج مشياً ،لايتركه مهما كانت العوائق ، وأول حجة أداها كانت بالباخرة ، والتقى فيها بالشيخ الأباني والشيخ منير لطفي ،وله في هذه الرحلة حكايات ماتعة ،وحين كبر توقف ،،قال لي مرة : إنني حين لم أعد أستطيع الحج كنت أستحيي من نفسي، إذ كيف أبفى في مكة والناس في عرفات ،فرأيت أن أ سافر خارج مكة وفي إحدى المرات ذهبت مع ابن ظفر – ولعله ابن خالد ظفر من محبي الشيخ – إلى الطائف واستأجرت بيتاً

هذا ما علق في خاطرنا من ذكريات تتعلق بمنهج الشيخ في السلوك والعبادة وهي

إضاءة تفيد محبيه وطلابه ،لعلهم يسيرون على نهجه ودربه ،فمن يرد الانتماء فعليه الاقتداء :

لما اقتدينا بك ازدانتْ محاضرُنا=والسعدُ ظاهرَنا واللهُ أعطانا

نسأل الله أن يجعلنا ممن ترتبط قلوبهم بالعلماء الأولياء ،ففي ذلك سعادة الدارين . 

أخيراً: لا أشك أبداً أن الشيخ كان من العلماء الأولياء الذين يندرجون تحت قوله تعالى "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن ةاولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلاً من غفور رحيم " رحمك الله ، وهنيئاً لك ياشيخنا الحبيب.