المـنهج القويم للداعية الحكيـم (2)

المـنـهـج التـربـوي لطالب العلم

اعلم رحمك الله أن مبدأ العمل الإرادة:

وقد قسم الله عباده في ذلك فريقين، فقال سبحانه: {مِنكُم من يُريدُ الدُّنيا، ومِنكُم من يُريدُ الآخرةَ} آل عمران / 152 /.

 وبيّن مآل كل فريق في قوله: {مَن كان يُريدُ العاجلةَ، عَجّلنا لهُ فيها ما نشاءُ لمن نُريدُ، ثم جَعلنا له جَهنّمَ يَصلاها مَذموماً مَدحوراً (18) ومن أرادَ الآخرةَ، وسَعى لها سَعيَها وهو مُؤمِنٌ فأُولئكَ كانَ سَعيُهم مَشكوراً (19)} الإسراء.

ـ فالعاجلة هي الدنيا، والخاسر من كل وجه من يريد الدنيا إرادة ينسى في جنبها الآخرة فلا يؤمن بها أصلاً، أو يؤمن بها، ولا يعمل لها.

فالأول: كافر خالد في النار.

والثاني: فاسق على شفا جرف هار.

ـ والآخرة في الآية هي الجنة، ولا يبلغها إنسان بالإرادة فحسب بل لا بدّ معها من الإيمان والعمل الصالح اللائق بها، {وسعى لها سعيها وهو مؤمن} وهو العمل الصالح الذي يجعل صاحبه يفوز برضوان الله وقبوله.

ـ وصادق الإرادة للآخرة، يقذف الله في قلبه باعثاً قوياً، يزعجه ويقلقه، ويحثّـــه على الإقبال على الله تعالى، والدار الآخرة، ويهوّن عليه الإعراض عن الدنيا، وعمّا يشتغل به الخلق من التفاخر بها، والاغترار بزخارفها، والتكاثر بها، وإنفاق الأعمار في جمع حطامها، والتنافس في شهواتها.

- وهذا الباعث من أعظم نعم الله على العبد يجب على المؤمن أن يجتهد في حفظه وتقويته، بذكر الله تعالى ومراقبته، وتقواه والعمل بطاعته، والحرص على مجالسة أهل العلم والعمل والذكر، وصحبة الصالحين، والحذر من مجالسة البطّالين أو صحبتهم، فإنهم يصّدون عن سبيل الله، ويقطعون عن طريق الآخرة.

ـ وأول ما يجب عليك في ابتغاء طريق الآخرة والتماس فضل الله وتوفيقه تصحيح التوبة النصوح: بشروطها وحقائقها، وآدابها وفضائلها، وآثارها وأسرارها القلبية استدامتها وتجديدها في كل وقت، والخروج عن مظالم العباد، وتبرئة الذمّة منها.

ثم عليك أن تحترز من صغائر الذنوب كما تحترز من كبائرها، لأنّ صغائرها تقود إلى كبائرها، والإصرار على صغائرها من الكبائر، وصدورها ممّن يكون في مقام القدوة والتأسّي كطالب العلم من الكبائر أيضاً.. وما أهلك كثيراً من الناس إلا التهاون بالصغائر واستصغارها والإصرار عليها.. فقادتهم إلى ما هو أكبر منها وصدّتهم عن طاعات وقربات.. وأخرجتهم عن طلب الآخرة إلى السعي وراء الدنيا، والتكالب على حطامها.

    = ثم عليك أن تجتهد غاية الاجتهاد في تطهير قلبك، وحفظه من الوساوس والمعاصي، والأمراض الموبقة المهلكة.

 واعلم أنّ معاصي القلب أفحش وأقبح وأخبث من معاصي الجوارح، وأكثر الخلق عنها غافلون، ولا يصلح القلب لمعرفة الله، ومحبّته وخشيته إلا بعد التطهّر منها، والتخلي عنها، كما لا يصلح لجوار الربّ في دار الخلد والنعيم، إلا من أتى الله بقلب سليم.

ومن أفحش أمراض القلب وأخطرها: الكبر والرياء والحسد، والحقد والغلّ، وسوء الظنّ بالمسلمين، وأصل هذه الأمراض كلّها حبّ الدنيا وإيثارها على الآخرة.

= وعليك أن تجتهد في كفّ جوارحك عن المعاصي والآثام الظاهرة، فلا تحرّك شيئاً منها إلا في طاعة الله، ولا تعمل بها إلا ما يعود عليك نفعه في الآخرة.

وأخطر هذه الجوارح اللسان، فإنه عضو صغير، وخطره كبير، يورد الناس المهالك، ويكبّهم في النار على وجوههم.

ومن أخطر معاصيه: الكذب والغيبة، والكلام الفاحش، والزور والبهتان، وسائر الكلام المحظور.

    ومن معاصيه الخوض فيما لا يعني، فإنه يقسّي القلب، ويشغل عن الخير، ويضيّع الوقت، فاحفظ لسانك إلا من تلاوة للقرآن، أو ذكر لله تعالى أو تعلّم للعلم، أو نصح لمسلم، أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر، أو شيء من الدنيا التي تستعين بها على الآخرة.

والسمع والبصر بابان مفتوحان إلى القلب يصير إليه كل ما يدخل منهما، والقلب سريع التأثر بكل ما يرد إليه، وإذا تأثر بشيء يعسر محوه عنه، فاحفظ سمعك وبصرك، وكفّ جميع جوارحك عن الآثام والفضول، وإنّ من أخطر الفضول النظر بعين الاستحسان إلى زهرة الحياة الدنيا وزينتها، فإنّ ظاهرها فتنة للعين، وباطنها عبرة للقلب.

= وخير ما يعينك على ذلك ألا تأكل إلا عن جوع، ولا تنم إلا عن غلبة، ولا تتكلم إلا في حاجة، ولا تخالط أحداً من الخلق إلا فيما فيه فائدة وخير.

وإيّاك والشبع المفرط: (فما ملأ ابن آدم وعاءً شرّاً من بطنه..) كما جاء في الحديث الصحيح ومن أكل كثيراً شرب كثيراً، ونام كثيراً، وفاته خير كثير، وجلب الأدواء إلى جسمه وعقله.

واعلم أن ملاك الدين الورع وترك الشبهات، والعفة والسموّ إلى المكرمات وهو ما يميّز الخاصّة من العلماء الربانيين، والدعاة المهتدين عن العامة وأشباه العامة، وما أفسد قلوب طلاب العلم، وأزلّها عن ابتغاء رضوان ربها، وقضاء حقّ العلم عليها، مثل الطمع في الدنيا، واللهاث وراء حطامها، والتقحّم في الشبهات ثم الوقوع في الحرام في سبيل ذلك.

= واعلم أن أفضل ما يتقرب به المتقربون إلى الله عز وجل، فعل الفرائض، واجتناب المحرمات، ثم الحرص على أنواع القربات، والمسارعة في الخيرات، فإن مريد الآخرة لم يتميز عن غيره من الناس إلا بالإقبال الصادق على الله، بطاعته واتباع محابه، والتفرغ عن كل ما يشغله عن عبادته.

- وهذا يقتضي منك أن يكون شحيحاً بأنفاسك، بخيلاً بأوقاتك، لا تصرف منها قليلاً ولا كثيراً إلا فيما يقربك إلى الله تعالى، ويعود عليك نفعه في الآخرة، وهذا باب بلوغ ولاية الله تعالى، والفوز بمحبته ومعيته الخاصة؛

    - ففي الحديث القدسي الصحيح:

(من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحبّ إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرّب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنّه)

- وفي الحديث أيضاً: (لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة، حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه).

= وليكن لك حظّ من كل نوع من العبادات ونوافل القربات، تحافظ عليها، ولا تترك شيئاً منها، فإن أحبّ العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قلّ.

- فليكن لك ورد من تلاوة القرآن الكريم، كل يوم مع التدبر والخشوع، وحظّ من التهجد والاستغفار في الأسحار، والتضرع إلى الله تعالى والدعاء من قلب متحقق بالذل والانكسار، والعجز والاضطرار.

واحرص على الخشوع في الصلاة، وحضور القلب مع الله، فهو روح العبادات كلها، وسرّ تقوى القلوب العامرة.

ومن خلت عبادته عن الحضور فعبادته هباء منثور، لا مثوبة فيها ولا أجور، وإن مثل الذي لا يحضر مع الله في عبادته، كمثل الذي يهدي إلى ملك عظيم وصيفة ميتة، أو صندوقاً فارغاً، فما أجدره بالعقوبة، وحرمان المثوبة..!

- وحافظ على السنن الرواتب قبل الصلاة وبعدها، وصلاة الوتر والضحى، والإكثار من ذكر الله تعالى في جميع أحوالك، وحافظ على أذكار الصباح والمساء الثابتة في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.

- وداوم على التفكر في خلق السموات والأرض، فإنه يثمر زيادة المعرفة بالله تعالى، وتعظيمه وإجلاله.

- والتفكر في آلاء الله ونعمه، فإنه يثمر محبته وخشيته وشكره.

- والتفكر في الدنيا والآخرة، وعوالم الآخرة، وأحوال الخلق فيهما، على حسب ما جاء في الكتاب والسنة، فإنه يثمر الإعراض عن الدنيا، والإقبال على الآخرة، والبصيرة بأحوال الخلق، واختلاف أحوالهم ومصائرهم.

ويتصل بهذا معرفة الموقف منهم، وما ينبغي عليك من منهج وسلوك في دعوتهم وخطابهم.

 

من ثمرات الطاعات والقربات

= واعلم أن للطاعات والقربات ثمرات عاجلة وجزاءً ناجزاً، غير ما ينال المؤمن من الفوز برضوان الله وجنته، وقربه ومعيته، فمن تلك الثمرات:

أ - ذوق حلاوة الإيمان، وبرد اليقين، والفرح بالله تعالى، وطاعته وتوفيقه وتنزل السكينة، ولذة الطمأنينة: {أَلا بِذكرِ اللهِ تَطمئنُّ القلوبُ (28)} الرعد.

{هُو الذي أَنزلَ السكينةَ، في قُلوبِ المؤمنينَ، لِيزدادُوا إيماناً معَ إيمانِهِم (4)} الفتح.

    ب - وتحقق القلب بحقائق الإيمان: من الخوف والرجاء، والخشية والعبودية، والحب الخالص لله تعالى، والتوكل والإنابة، والرضا والتسليم، والصدق مع الله، وحسن الظن بالله، والصبر لله، والشكر والثناء على الله بما هو أهله، والإحسان والمراقبة لله تعالى في جميع الأحوال، والتجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود.

ج - والاعتصام بالله، والاعتزاز بدينه، والاستهانة بما ينال المؤمن من أذى في سبيله، ومحبة المؤمنين وموالاتهم، والنصح لهم، والشفقة عليهم، وخدمتهم والرفق بهم، وبغض الكافرين والمنافقين، والبراءة منهم، والحذر من تقليدهم أو اتّباع شيء من سبيلهم.

د - وطهارة القلب من كل صفة يبغضها الله أو تبعد عنه؛ كالركون إلى الخلق، والحرص على مرضاتهم، وسوء الظنّ بالله تعالى، أو ضعف اليقين بوعده ووعيده وجزائه، ومزاحمة محبة ما سوى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لحبّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

    فللطاعات والقربات، إذا أدّيت على وجهها الأكمل، أنوار تشرق في قلب المؤمن، تحرق ظلمات الصفات، التي يكرهها الله تعالى وتبدّدها، وما لم يتطهر القلب من ذلك، فاعلم أن موادّ، تلك الطاعات لم تكن بالقدر المطلوب، ولا بالكيفية المؤثرة وهذا هو الأهمّ.

= واعلم أن الجنة حفّت بالمكاره، وأن النار حفّت بالشهوات، وأن الطريق إلى مرضاة الله تعالى، أوله: صبر وعناء، وجهد وبلاء، وآخره: شكر وهناء، وفتح وعطاء.

وللنفس مع صاحبها في هذا الطريق أحوال، فهي تكون في أول الأمر:

ـ " أمّارة بالسوء " تأمر بالشرّ وتنهى عن الخير فإن جاهدها المؤمن، وصبر على مخالفة هواها، صارت

ـ " لوّامة "، لها وجه إلى " المطمئنة " ووجه إلى: الأمّارة، ويمكن أن نميّز فيها مرحلتين:

ـ ففي مرحلتها الأولى: تكون " لوّامة " على فعل الخير، ولكنها مغلوبة عليه بصدق صاحبها في إرادته، وقوته في مجاهدته، ولكنه لا يزال يعاني مع نفسه، ويجاهدها، ويصابرها.

ـ وفي مرحلتها الثانية: تكون " لوّامة " لصاحبها على فعل الشّر، أو التقصير في الخير، وبذلك تتهيأ لدخول مقام " المطمئنة "، وهي التي تأمر بالخير وتستلذّه وتأنس به، وتنهى عن الشرّ، وتنفر عنه، وتفرّ منه.

وكل ذلك تجد شواهده وأدلّته في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ـ وصاحب النفس المطمئنة، يعظُم تعجّبه من إعراض الناس عن الطاعات، مع ما فيها من الرّوح والأنس واللذة، ومن إقبالهم على المعاصي والشهوات مع ما فيها من الغمّ والوحشة والمرارة، فليذكر قول الله تعالى: {كَذلكَ كُنتُم مِن قَبلُ، فمنّ اللهُ عليكم} النساء /94/، بما أولاكم من عناية، وما وفقكم إليه من مجاهدة.

= واعلم أن خير أحوالك الإيمانية، أن تكون مع الله تعالى: ذكراً وشكراً وصبراً وضراعة، وذلاً وانكساراً، وحباً ورجاءً، وخوفاً ووجلاً، وخشية وإنابة، وإذا وفقت لذلك، فإنه من مزيد عناية الله بك، ليكرمك بما هو أجل وأعظم، ويرفع درجتك، ويعلي ذكرك، ويفتح أبواب الخير على يديك.

    وتلك الأحوال الإيمانية هي روح العبودية لله تعالى ولبابها، ولن تدركها وتنالها إلا باتّباع النبي صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله، وشمائله وأخلاقه، وأن يكون أحبّ إليك من والدك وولدك، وأهلك ونفسك ومالك، والناس أجمعين، وأن يكون أحبّ إليك من الماء البارد على الظمأ، وأن تتجرّد عن كل هوى يخالف سنّته وهديه، نصّاً أو روحاً.

ولن تبلغ ذلك كلّه إلا بصحبة الصالحين الأخيار، ومجالسة المتقين الأبرار من العلماء المرشدين الناصحين، أهل الفضل والسابقة، ومجلس واحد مع مثل هؤلاء بصدق النيّة، وقصد الانتفاع يغنيك عن مطالعة الكتب الكثيرة، والاجتهاد في نوافل الطاعات.

ويكفي مجالسة الصالحين منزلة وفضلاً أن الله تعالى أمر نبيّه صلى الله عليه وسلم بملازمتهم، وأن يصبر نفسه معهم، ولا تعدو عيناه عنهم، فقال سبحانه: {واصبِر نفسَكَ معَ الذينَ يَدعُون ربَّهُم بالغَداةِ والعَشيِّ، يُريدون وَجهَه ولا تَعدُ عَيناك عنهم.. (28)} الكهف.

وإنما تنتفع من صحبة الصالحين ومجالستهم، لأنهم متحققون بما يقولون، ومتعظون بما يعظون، ولا يتكلفون ما لا يحسنون.

وقديماً قال بعض السلف: " حال رجل في ألف رجل، خير من قال ألف رجل في رجل.. " وهذا مجرّب مشهود، فليست النائحة كالثكلى.

ـ فالصحبة الصالحة الناصحة تُزري بالموعظة العابرة، وتغني عن الوالد الناصح، وتسدّ مسدّ المرشد المربّي، وتردّ أهواءً جامحة، لا تردّها عقول حصيفة، ولا عقوبات مخيفة، وتخسئ شياطين الجنّ وتصدّ جلساء السوء، وإذا رأيت الشابّ المتدين، يزهد في الصحبة الصالحة، فاعلم أنه صاحب هوىً، وإذا كان صاحب هوىً، فمستقبل دينه في خطر.

_ ولا تقتصر صحبة الصالحين ومجالستهم على مجالسة الأحياء منهم، واللقاء بهم، والأخذ عنهم، وإنما في مطالعة سير سلف هذه الأمة، والتعرف على أخبارهم، ودراسة شخصياتهم وأحوالهم، واتجاهاتهم في العلم والايمان، والعمل والدعوة، والجهاد والتضحية، والزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة، والأخذ بأحسن ما عندهم، وحسن الظّن بهم، والتماس الأعذار لهم، ما أمكن السبيل إلى ذلك، وتجاوز زلاتهم، وعدم الوقوف عندها، ففي ذلك كله خير ما ينهض همّة طالب العلم، ويوسّع أفقه، ويشدّ عزيمته، ويقوّي يقينه، واعتبر ذلك بما قصّه الله علينا من سير الأنبياء والمرسلين، وما فيها من حكم جليلة، وقد قال الله تعالى في ختام سورة يوسف عليه السلام: {لقد كانَ في قَصصِهِم عِبرةٌ لأُولي الأَلبابِ، ما كانَ حديثاً يُفترَى، ولكن تَصديقَ الذي بين يديهِ، وتَفصيلَ كلِّ شيءٍ، وهدىً ورحمةً لقومٍ يُؤمنون (111)}.

= واعلم أنه لا يفسد صفاء قلبك، ويعطل نشاطك وهمّتك، ويذهب نور وجهك، شيء مثل اللغو والجدل، وضياع الأوقات في القيل والقال، وتتبّع أخطاء الناس، والتماس عثراتهم، وإشاعة زلاّتهم، وهتك أستارهم، وليس ذلك من شأن أهل العلم والإيمان، والنصح للأمة والشفقة عليها في شيء.

فوقتك أعزّ من أن تنفقه في ذلك، وحياتك أثمن من أن تبدّدها في هذه المتاهات المهلكة.

ـ وإن عليك أن تعزم على نفسك عزيمة لا هوادة فيها، وتحاسبها محاسبة لا تسويف معها على البعد عن ذلك كله، والتزام المنهج الجادّ، الذي يجعل منك إنساناً بنّاءً، لا هداماً، ومصلحاً، لا مفسداً.

فوا أسفاه ما أكثر ما اصطاد الشيطان رجالاً باسم الغيرة على الدين، والغضب لحرماته، فأخرجهم عن المحجّة البيضاء، وجعل همّهم تفريق الأمّة، وجرح الأئمّة وإشاعة الزلاّت، والجراءة على الحرمات، فكانوا عبئاً على الأمّة، ومبضعاً مسموماً يطعن في جسدها !.

وإنك على قدر أخذك بعزيمة الرشد والجدّ، تكون مؤدياّ لحقّ العلم عليك بعيداً عن التقصير والتفريط في حقوق الله، والبغي والتجنّي على عباد الله.

ولو نظرت في أحوال كثير من الناس، لرأيت أنهم ينطبق عليهم الأثر المشهور: " يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه، ولا يرى الجذع في عين نفسه "

ـ والحكمة القائلة: " ما أهلك الناس إلا الناس "، وإنها لحكمة جامعة فذّة، فطوبى لمن شغلته عيوبه عن عيوب الناس، وكره من نفسه ما يكره من الناس، وعذر الناس بما يعذر به نفسه.

صفات جامعة، وأنوار كاشفة، لمن يريد الآخرة، ويسعى لها بصدق:

ـ لا يكون المريد مريداً، حتى يجد في القرآن كل ما يريد، ويعرف النقصان من المزيد، ويستغني بالمولى عن العبيد، ويستوي عنده الذهب والصعيد.

ـ المريد من حفظ الحدود، ووفّى بالعهود، ورضي بالموجود. وصبر عن المفقود.

ـ المريد من شكر على النعماء، وصبر على البلاء، ورضي بمرّ القضاء، وحمد ربّه في السرّاء والضرّاء، وأخلص له في السرّ والنجوى.

وبعد؛ فإن هذا المنهج التربويّ، يؤهّلك إلى أن تنطلق بنجاح وسداد، في ميدان السلوك الاجتماعيّ والدعويّ، وهو روح الإيمان، وغاية العلم والعمل، كما سبق الإشارة إلى ذلك فيما مضى.

    ولكي تتبين لك معالم السلوك الاجتماعيّ والدعويّ، الذي ينبغي لك أن تلتزمه، وتحرص على أن تأخذ نفسك به، نقدّم لك هذه الصورة المجملة، في المبحث التالي، والله يتولاّنا وإيّاك بتوفيقه وهداه.

يتبع الجزء الثالث من المقالة، ويتحدث عن: السلوك الاجتماعي والدعوي.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين