المجاهد الشهيد الشيخ رياض الخرقي


شهيد الرِّباط والثغور وشهيد العلم والسطور




حقاً إنّ العين لتدمع وإن القلب ليحزن كما كان يقول الحبيب عندما كان الموت يغيّب أولاده وأحبابه وأصحابه..

أ شهيدَنا ... وقد ناديتك بنداء القريب.. لأنك قريبٌ قريبٌ، وإن كنت بعيداً ..!! فكم من قريب بعيد.. وكم من بعيد قريب..!!

لقد أبكى رحيلك عيوننا وأحزن قلوبنا اليوم، وقلّما فارقتنا الدموع والأحزان في هذه الأيام.. ولعل البكاء يخفف من لظى الآلام وقسوة البعد والفراق عن مغاني الصِّبا ومراتع اللقاء بين الِخلّان والأحباب.. فإن رأيتم دموع المحبين والمكلومين، فدعوهم وشأنهم، فلسانُ حالهم يقول:

لا تنهياني عن البكاء فإنّه ... يُطفي لهيبَ الجرح في الأعماقِ

ويقول بلسان الفطرة:

لم يُخلَق الدمعُ لامرئٍ عبثاً ... الله ُأدرى بِلَوعَة الحزنِ

لقد رحل رياض.. لكن ترك من ورائه قصة حياة يُحتذى بها جهاداً وعلماً وخُلُقاً.. وعسى كل طالب علم نَهَلَ من مورده الصافي أن يكون في سلوكه سيرتَه التي تحكي حياته وعلمه وأدبه..


وقصة حياة الشهيد قائمة على ثلاث ركائز:

_ العلم: فقد تميّز بالعلم والتحقيق والتدقيق فيه والمناقشة والحوار حتى ينتهي إلى ما يراه صواباً وحقاً، وخاصة في علم الحديث دراية ورواية.. ولعله في بعض الأحايين يناقش فيما يظنه الظانُّ أنه حقيقة لا تقبل النقاش، فإذا هو ببراعته وألمعيته يُبرز ما كان خافياً عنك مسلَّماً به عندك.. وهو في ذلك كله لا يقصد شهرة ولا ترفعاً أو علواً.. إنما يحمله على ذلك عقل وثاب وتفكير فذٌّ عجيب.. يتطلّع إلى الكمال في العلم والبحث.. وهذا الذي أقوله يعرفه طلابه وأصدقاؤه حقّ المعرفة، لذلك كان مقصد الشُّداة من طلاب العلم ومحل عجب العلماء وتقديرهم.. وكل ذلك مغمور بالأدب الجم مع العلماء الذين يقف عند أقوالهم..

_ تفنيد الشبهات: وذاك التحقيق الذي ذكرناه في العلم، جعل منه متابعاً لمعظم الشبهات وخاصة المعاصرة، فكان يفنّدها ويكشف زيفها وتهافتها وربما طلب الاجتماع إلى بعض المعاصرين، ليناقشه في فكرته وشبهته، فكانوا غالباً يفرون من اللقاء، لأنهم يعلمون أن خصمهم سيحطم بنيانهم المتداعي..

ولعل كثيرين لا يعرفون أن شهيدنا هو أول من تابع مقررات مؤتمر السكان والتي تتعلق بالمرأة والتربية للأطفال ذكوراً وإناثاً وبقضايا خطيرة جداً تمس مبادئ الأمة وقيمها، حتى رأيت بعض كبار العلماء والمفتين يطلب إليه الرأي والمعرفة وربما كتب له بعض الأفكار وردّ بعض الشبهات ليستفيد منها في محاضراته وندواته..

وأقول شهادة حق: إن شهيدنا كان له الأثر الأكبر في إبطال تطبيق هذا المشروع الخبيث في بلدنا والذي يريد أن يفسد الأسرة المسلمة حتى تكون كالأسرة الغربية المنكوبة البائسة.. بل أحطّ منها وأسوأ.. ولعل السعي لم يتوقف في هذا المضمار من قبل أعداء الإسلام .. فمن لهم بعدك يا شهيدنا الحبيب...؟؟!!

ومن مآثره أنه ممن هيّأ وحرّك المظاهرات التي انطلقت في دمشق نحو سفارات الدول التي نشرت الرسوم القبيحة في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أحد الذين دخلوا إلى السفارات وسلّم القائمين عليها احتجاج الأمة وغضبها على هذا الاعتداء الصارخ على مقام الحبيب صلى الله عليه وسلم..

وكأني برسول الله وقد فرح به من قبل لهذه الغيرة عليه.. كأني به اليوم يستقبله في عالمه البرزخي وهو يقول:

من فرح بنا فرحنا به ومن أحبّنا أحببناه.. ومن غضب لنا أكرمناه.. فهنيئاً لك اللقاء.. ولا يقولنّ قائل: ما هذا التقوّل..؟! لأن حسن ظننا بالله تعالى وبكرم رسول الله يحملنا على هذا بل أكثر..

وإني لأرجو اللهَ حتى كأنّما ... أرى بجميل الظنّ ما اللهُ صانعُ

_ رجل الثورة والحق: لما هبّت الثورة، كان من بين الذين نصحوا ودعوا إلى رفع الظلم عن العباد والبلاد ليعود الوئام والأمان.. لكن الطغاة المستكبرين في كل زمان ومكان على أثر فرعون.. فلا يخلو زمن من فرعون كما لا يخلو من موسى.. وقدّر الله تعالى ما كان قضاه.. فكان الشهيد في صف المظلومين غير عابئ بالدنيا وزهرتها..

فكانت الغوطة المباركة ملاذه وموطنه الذي ينطق فيه بالحق ويرشد الناس ويشرف على المجاهدين.. ويرابط معهم على الثغور..

وقد أسس الهيئة الشرعية لتكون بمنزلة الحاكم الذي يرجع الناس إليه في مشكلاتهم وأحوالهم كلها، فكان بهذا العمل رائداً لغيره حيث حذت سائر المدن والقرى المحررة حذوه في تأسيس الهيئات الشرعية.. ومن إخلاصه وصدقه أنه لم يتسنّم ذروتها بل وَكَلَ رئاستها لبعض طلابه وإخوانه وكان له الإشراف والمتابعة والنصح والإرشاد..

ولهذه المكانة التي بوّأه الله تعالى إياها، سعى الأعداء والحسّاد والمرجفون لاغتياله مرات عدة وقد أصيب في المرة السابقة إصابة بليغة لكن لم تُقدر له الشهادة وقتها.. وكان قادراً على مغادرة الغوطة والإقامة في البلاد المجاورة آمناً مطمئناً لكن أنّى لنفسه الكريمة أن ترضى بذلك.. كيف يأمن وغيره خائف.. كيف يشبع وغيره جائع.. كيف ينام وغيره على الثغر سهران..!!

وقد كان فَوتُ الموت سهلاً فردَّهُ ... إليه الحفاظُ المرُّ والخُلُقُ الوَعْرُ

لذلك لماّ أُصيب من قبل، كان- وهو يعاني الآلام المبرحة- يسأل عن الجبهة ويوصي بها وكأنه يقول: لإخوانه لئن رحلت لا تَهِنوا من بعدي ولا تضعفوا.. اللهَ.. اللهَ.. الجبهاتِ.. الجبهاتِ..

إيه.. أبا ثابت.. إيه.. لله درك .. كنت أودُّ أن يكون رثائي شعراً لا نثراً لكن قد كسرت قلمي يوم فاجعة الكيماوي في الغوطة.. فلم أكتب بعدها رثاء.. لكن استشهادك اليوم جعلني أجمع أجزاء قلمي المكسور لأكتب هذه السطور.. وهي دون حقك ودون صدقك.. هي كلمات في الفكر يرسمها القلم.. وأما ما كتبته أنت فيعجز عنه الكُتّاب ويكسرون أقلامهم أمامه.. غير أني أرثيك بما قاله الشاعر عبد الرحمن العشماوي في الشهيد أحمد ياسين:

هم أكسبوكَ من السباق رهانا ... فربحتَ أنتَ وأدركوا الخسرانا

هم أوصلوكَ إلى مناكَ بغدرهم ... فأذقتَهم فوق الهوان هوانا

إني لأرجو أن تكون بنارهم ... لماّ رموكَ بها بلغتَ جنانا

لقبُ الشهادة مطمعٌ لم تدخر ... وسعاً لتحملَه فكنتَ وكانا

رحمك الله تعالى في الأولين والآخرين وفي الملأ الأعلى إلى يوم الدين