الكَأَسُ الـمُقَدَّسَة

الحمد لله وصلى الله على نبيينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم وبعد:

فإن للحافظ أبي علي الحسين بن محمد الصَّدَفيّ الأندلسي المتوفى سنة 514 أصلاً عتيقاً من (الجامع الصحيح) للبخاري انتسخه لنفسه، واعتنى بضبطه ومقابلته، وكتب عليه بخطّه حاشيةً نفيسةً، حتى غدا هذا الأصلُ مضربَ المثل في الجودة والاتقان.

فهو للمغاربة كأصل الحافظ شرف الدين اليونيني من (الصحيح) للمشارقة إلا أن أصل أبي عليّ هو الأصل فإنه أصل نسخة اليونيني، فإن اليونينيَّ إنـما روى أصل أبي عليّ عن الحافظ أبي طاهر السلفي عن القاضي عياض عن أبي علي، وكان أبو علي مشهوراً بحسن الخطّ، مذكوراً بجودة الضبط، يحفظ (الصحيحَ) سرداً حتى قال لبعض الفقهاء: (خُذْ الصحيحَ فاذكرْ أيَّ متنٍ أردتَ أذكرُ لكَ سندَه، وأيَّ سندٍ أردتَ أذكرُ لكَ متنَه).!

وقد سعى في تحصيل أصله هذا أعيان العلماءُ، وما اجتمعتُ بفاضلٍ ممن له عنايةٌ بالحديث والمخطوطات إلا جرى البحثُ والكلامُ عن هذا الأصل النادر، ووقع السؤال عنه: أين هو الان، وعند مَنْ نُسختُه.؟!

وقد نوَّه جماعةٌ من العلماء بـهذا الأصل، فمنهم من وصفه كالإمام العلامة الطاهر ابن عاشور الذي استعاره من ناظر مكتبة بنغازي فمكث عنده عشر سنوات، ووصفه في مقال نفيس أسماه (أصل أبي علي الصدفي) نُشِرَ في مجلة (أخبار التراث العربي).

ومنهم من تكلم عن رحلات هذا الأصل وتطوافه في الأمصار وتنقلاته في خزائن كتب العلماء والملوك كأبي العباس الفاسي في (الرحلة الحجازية) والحافظ عبد الحي الكتاني في (الفهارس والأثبات) ووصف حديثه عنها بالأعجوبة.!

ومنهم الحافظ أبو العباس الغماري الكبير في (نوادره) والأستاذ الدكتور عبد الهادي التازي في مقال ماتع نُشر في مجلة معهد المخطوطات العربية ومجلة (دعوة الحق) المغربية، والدكتور محمد عبد الكريم عبيد في (روايات ونُسَخ الصحيح) والدكتور جمعة فتحي في (روايات الصحيح ونُسخه) والأستاذ محمد المنوني في (البخاري في الدراسات المغربية) وأخبرني الأستاذ الدكتور النحوي محمد الوليد غير مرة أن له مقالاً في هذا المعنى.

وكان الحافظ أبو علي رحمه الله قد انتسخ الصحيح من نسخة أبي الوليد الباجي ومن نسخةٍ بخطّ محمد بن علي بن محمود، كلاهما عن أصل الحافظ أبي ذرّ الهروي، بيْدَ أن ولدَ أبي ذرّ وهو أبو مكتوم عيسى قد باع أصل أبيه بذهبٍ لبعض أمراء المغرب من المرابطين وهو ميمون بن ياسين الصنهاجي.

وقد أطبق الحفاظ على أن أصلَ الحافظ أبي ذرّ هذا هو أجود وأتقن روايات (الصحيح) بإطلاق حتى قال الحافظ ابن حجر: (أتقن الروايات عندنا هي رِواية أبي ذر عن مشايخه الثلاثة، لضبطه لـها وتـمييزه لاختلاف سياقها) ومشايخه الثلاثة هم السَّرَخْسِي والكُشْمَيْهَني والـمُسْتَمْلي.

ومن هنا يظهر جودة ونفاسة أصل أبي علي، فإنه إنـما انتسخه من أصل أبي ذرّ، واجتهد للغاية في مقابلته وتصحيحه وضبطه وتصويبه، فكان كما قاله الحافظ أبو العباس الغماري الكبير في (جؤنة العطار): (أصحّ أصلٍ في الدنيا من صحيح البخاري).

وقد ذكر الكتاني في (الفهارس) بعد أن قال إن المتأخرين عثروا بطرابلس الغرب عام 1211 على أصلٍ عظيمٍ من (الصحيح) بخطِّ الحافظ الصدفي أسهبوا في وصفه ونعته، عن الحافظ محمد بن عبد السلام الناصري أنه ذكر في كتابه (المزايا في ذكر ما أحدث من البدع في أمّ الزوايا) أنه عثرَ على أصل الصدفي الذي طاف به في البلاد بخطّه بطرابلس الغرب، في مجلد واحد مدموج لا َنْقط به أصلاً على عادة الصدفي وبعض الكُتَّاب.

إلا أن بالهامش منه كثرة اختلاف الروايات والرمز إليها، وفي آخرها سماع القاضي عياض وغيره من أبي علي بخطه، وفي أوله كتابة بخطّ ابن جماعة والحافظ الدمياطي وابن العطار والسخاوي قائلاً: هذا الأصل هو الذي ظفر به شيخُنا ابنُ حجر العسقلاني وبنى عليه شَرْحَه (الفتح) واعتمد عليه، لأنه طِيفَ به في مشارق الأرض ومغاربـها؛ الحرمين ومصر والشام والعراق والمغرب، فكان الأولى بالاعتبار كرواية تلميذه ابن سعادة.

قال الناصريُّ: ولقد بذلتُ لـمَن اشتراه في عدة كتب من أهل طرابلس الغرب باصطنبول بثمن تافهٍ، صُرَّةَ ذهبٍ فأبى من بَيْعه، وبقي ضائعاً في ذلك القطر، وكان من مَدْح ابن العطار له بخطه ما نصه:

قد دامَ بالصدفيِّ العلمُ منشراً...وجلَّ قدرُ عياضِ الطاهرِ السلفي

ولا عجيبَ إذا أبدى لنا دُرراً.....ما الدُّرُّ مظهرُه إلا من الصدفِ

قال ابن العطار: وقلتُ أيضاً في سيدنا ومولانا قاضي القضاة برهان الدين ابن جماعة، وقد حملتُ هذه النسخة لمجلسه بالصالحية في العشر الأول من رجب سنة 802 فنظر فيها وقال: لو كُتبت نسخةٌ واضحةٌ بخطٍّ حسن، وقوبلت على هذه لكانت أحسن، لأن كاتبها رجلٌ جليلُ القدر:

رأى البخاريْ بخطِّ الحافظِ الصدفي...قاضي القضاةِ إمامُ النبلِ والسلفِ

جمالُ واسطةِ العقدِ الثمين له...........ولا عجيبٌ بميل الدُّرِّ للصدفِ

قال الكتاني: (ونحو هذا لابن عبد السلام الناصري أيضاً في رحلته الصغرى قائلاً: عليها من سماعات العلماء في القرون السابقة، عياض فمن دونه إلى ابن حجر؛ العجب).!

ثم قال الكتاني رحمه الله (وممن رأيتُه أفاض في وصف هذه النسخة: الفقيه المدرّس أبو العباس أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن الشيخ أبي محمد عبد القادر الفاسي في رحلته الحجازية الواقعة عام 1211 قال:

لطيفة: وقفتُ بـمحروسة طرابلس على نسخة من البخاري في سِفْر واحد، في نحو من ست عشرة كراسة، وفي كل ورقة خمسون سطراً من كل جهة، وكلها مكتوبة بالسواد لا حمرة بـها أصلاً، وهي مبتدأة بـما نصه:

(بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد نبيّه، كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعند تمام كل حديث صورة. اهـ. ولا نقط بـها إلا ما قلّ).

وبآخرها عند التمام ما صورته: (آخر الجامع الصحيح الذي صنّفه أبو عبد الله البخاري رحمه الله والحمد لله على ما منَّ به، وإياه أسأل أن ينفع به، وكتبه حسين بن محمد الصدفي من نسخة بخطّ محمد بن علي بن محمود، مقروءةً على أبي ذر رحمه الله وعليها خطُّه، وكان الفراغ من نسخه يوم الجمعة 21 محرم عام ثمانية وخمسمائة، والحمد لله كثيراً كما هو أهله، وصلواته على محمد نبيه ورسوله صلى الله عليه وسلم كثيراً أثيراً).

وعلى ظهرها: (كتاب الجامع الصحيح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم وسُننه وأيامه، تصنيف أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري رضي الله عنه، رواية أبي عبد الله محمد بن يوسف الفِرَبْرِي عنه رحمه الله، لـحُسين بن محمد الصدفي).

أوقفني على هذه النسخة المباركة مـُحبُّنا الفقيهُ الناسكُ ذو الأخلاق الحسنة سيدي الحاج أحمد بو طبل، وذكر لي حفظه الله أنه اشتراها من اصطنبول، وحيث اشتراها اجتمع علماؤها وقالوا له: أخْلَيْتَ اصطنبول.!

ثم قال: وعليها إجازة الصدفي للقاضي عياض في جملة الفقهاء، بسماعهم له في المسجد الجامع بـمَرْسيَّة، وعلى ظهرها أيضاً: هذه النسخةُ جميعُها بخطِّ الإمام أبي علي الحسين بن محمد الصدفي شيخ القاضي عياض، وهي أصل سماع القاضي عليه كما ترى في الطبقة المقابلة لهذه، وهي الأصل الذي يُعتمد عليه ويُرجع عند الاختلاف إليه، وقد اعتمد عليها شيخُنا الحافظ ابنُ حجر حالة شرحه للجامع الذي سماه فتح الباري. اهـ.كلام الرحلة الفاسيَّة.

قال الكتاني: وفي (الرحلة الناصرية الصغرى) لابن عبد السلام الناصري أنه راود أبا طبل المذكور بإبدالها بنسخةٍ أخرى جليلة مذهَّبة، يناهز ثمنُها السبعين ديناراً في جزء أيضاً؛ فأبى، وعرضتُ عليه الثمن مضاعفاً فأبى، ويأبى الله إلا ما أرادـ.

قال الكتاني: وفي (المزايا) أيضاً عقب قوله: (وبقي ضائعاً في ذلك القطر) ثم حملتني الغيرةُ والحمد لله على أن أبلغتُ خبرَه لإمامنا المنصور أبي الربيع سيدنا سليمان ابن محمد، فوجَّه إليه حسبما شافهني به ألف مثقال فأجابه مَنْ هو بيده أنه يقدم به لحضرته، وما منعه إلا فتنة الترك فيما بين تونس والجزائر، ثم لما طال الأمر أعاد الكَتْبَ بذلك، وإلى الآن لم يظفره الله به.!

قال: وقد انقطع خبرُ هذه النسخة من عام 1211 لم أرَ لها ذاكراً ولا ناعتاً من الرحَّالين والبحَّاثين، فإن لم تكن دخلت خزانة الزاوية السنوسية بصحراء طرابلس فلا تكن إلا انتقلت إلى بعض مكاتب أوربا، والله أعلم.

قال: ثم صدّق الله الظنَّ فأخبرني بعضُ طلبتنا ممن كان هاجر إلى المشرق ولقي صديقَنا الماجدَ الأصيلَ الشيخَ سيدي أحمد الشريف بن محمد الشريف السنوسي وصَحِبَهُ وخالَطَه، أنَّ الأصلَ المذكور بخطِّ الصدفيِّ موجودٌ في كتب السيد المذكور صانه الله وحفظه، فالحمد لله على وصوله ليد هذا السيد الذي يعرف قيمةَ الكتب ويصونـها ويُقدّرها قدْرَها، ثم كتبتُ له أسأله عن ذاك فأجابني بما نصه: (نسخة البخاري التي بخط الصدفي عندي في الكتب التي بجغبوب يحفظها الله) اهـ.كلام الكتاني رحمه الله.

ورأيتُ في (جؤنة العطار) للغماري أنه ذكر أن الحافظَ عبد الحي الكتاني قدِم القاهرةَ في طريقه إلى الحج سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة وألف في طلب أصل أبي علي هذا عند الشريف أحمد السنوسي رحمه الله، لكنه لم يظفر بشيءٍ إذ كان الموتُ قد سبَقَه إلى الشريف المذكور.

وذكر الغماريُّ أنه تعرَّف بعد سنتين إلى ولدي الشريف أحمد السنوسي، قدما القاهرةَ في طلب العلم بالأزهر، فسألـهما عن نسخة أبي علي من (الصحيح) التي عند والدهما بالجغبوب، فذكرا أنـهما يعرفانـها وأنـها عند ابن عمهما الملك إدريس، وكان وقتئذٍ مقيماً بالإسكندرية، قال: فعرضتُ على الخانجيِّ طبعَ هذا الأصلَ النفيسَ كما هو بخطّ أبي عليّ وهو في مجلد واحد، فوافق وتعهَّد بإرجاعه بعد طبعه إلى صاحبه مع خمسين نسخة من المطبوع منه.

فشدَّ الغماريُّ الرحل إلى الإسكندرية لـمقابلة الملك إدريس وكان له به معرفة، فعرض عليه الأمرَ لكنه أخذ يراوغ ويَعِدُ على حدِّ قولِ الغماريِّ الذي أيسَ منه وعاد إلى القاهرة بـخُفّي الشيخ عبد الحي الكتاني كما قال.!

والمقطوع به أن النسخة لم تبْقَ بالإسكندرية بتقدير أن الملك إدريس كان يحملها معه حيث سافر كما حدَّثني بذلك صاحبُنا الشيخ علي بن خيّال وهو من العارفين بأخبار الإخوان السنوسين إذ كان أجداده من أعيانـهم، وأن تلك كانت عادة الملك يتبرك بـها، فقد عاد بـها الملك إدريس إلى الجغبوب، ومن ناظر مكتبة بنغازي استعارها العلامةُ ابنُ عاشور سنة 1376 فبقيتْ عنده عشر سنين وانتقلت منه إلى الخزانة العبدلية بجامع الزيتونة.

وقد ذكر الدكتور يوسف الكتاني أن أبا علي انتسخ نسختين من (الصحيح) بخطّه، إحداهما من أصل أبي الوليد الباجي، ويوجد على ما قال نسخةٌ منها بالمغرب مقابلة على أصل أبي علي بالخزانة الملكية تحت رقم 5053 في مجلد ضخم، وقد نُصَّ على أنه وقعتْ معارضةُ النسخة ومقابلتها مع أصل أبي علي المأخوذ عن نسخة الباجي، وهي أيضاً معدومة ولا يدرى أين أصلها.!

والثانية وهي المشهورة الموجودة بليبيا وانتسخها أبو عليّ من أصل محمد بن علي بن محمود، وقد عثر عليها كما تقدَّم عن الحافظ عبد الحي في طرابلس الغرب، وقد جيء بـها من اصطنبول إلى طرابلس، وهي التي يتوجه عليها كلام وبحث المعتنين بنُسخ وروايات الصحيح.

وما ذكره الدكتور يوسف عن النسخة الملكية المغربية، إنـما هو أصل عتيق مقابل ومنتسخ عن أصل أبي علي الذي نسخه هو من أصل الباجي المفقود، وأما نسخة أبي علي الـتي نسخها عن أصل ابن محمود، فالمشهور من نُسَخِها نسختان:

إحداهما: نسخة ابن سعادة، وقد نسخ عنها أصلاً وقابله عليها، وهو الذي سمع (الصحيح) عن أبي عليٍّ ستين مرّةً، وإليه صارت دواوين أبي عليّ وأصوله العتاق وأمهات كتبه الصحاح لصهرٍ كان بينهما كما قاله التلمساني في (نفح الطيب).

وذكر الكتاني أن نسخة ابن سعادة من أحباس مكتبة القرويين بفاس، وهي الآن بـمكتبة المدرسة العليا بالرباط، وأنه وقفَ عليها مراراً ونقلَ منها، وصنَّف في وصفها والكلام عليها جزء (التنويه والإشادة بنسخة رواية ابن سعادة).

ولأهل المغرب مزيد اعتناء وحفاوة برواية ابن سعادة هذه، حتى إنـهم أنكروا على أبي مروان التجموعتي إنكارَهُ على المغاربة ولوعَهم برواية ابن سعادة هذه، وتعجُّبه من تلقيهم لها بالقبول، مع أن رواية ابن سعادة من قبيل الوجادة التي هي أضعف أنواع التحمل عند المحدثين.

قال أبو الفيض ابن الحاج: وقد أنكر عليه ذلك شيوخُ العصر وحُقَّ لهم إنكاره، فإن تواريخَ الأندلس قاطبةً ناطقةٌ ببطلان دعواه، وأن ابن سعادة سمع (الصحيح) قراءةً على أبي عليّ وأجازه فيه.

وقوله وكانت بخط أبي عليّ فيه نظر، بل بخط عمّه موسى بن سعادة، ورثها عنه ابن أخيه الذي اعتمدت المغاربةُ روايتَه عن أبي عليّ بدون واسطة عمّه، وكتب الصدفيُّ بخطّه الإجازةَ له على ظهر النسخة، ولذا يقول حمدون ابن الحاج:

وأسناه ما بالغرْبِ طلعةُ شمسه....وآسَدُ في أرجائها يتبسَّمُ

عن ابن سعادةَ الذي له نسخةٌ...بـها كلُّ قُرّاءِ البخاريْ ترنَّموا

ومَنْ غَضَّ من روايةٍ له زاعماً.....بأنـها وجادةٌ فقط لا يُكلَّمُ

لخرْقِهِ للإجماع من أهلِ مغربٍ....وأندلسٍ والحقُّ لا يتلثَّمُ

قال الكتاني: (ولعله كان يُنكر تفضيلها على سائر روايات البخاري فقط، وهذا ربـما يكون له وجهٌ، أو كان يُنكر اتصال المغاربة بـها إذ كان يرى أن أغلب اتصالاتـهم بـها ليست على طريق الرواية المعهودة عند أهل الرواية والصناعة).

ثم حكى نحوه عن الحافظ أبي العلاء إدريس العراقي وأنه كان يطلق تفضيلَ رواية القاضي عياض لأصل أبي علي الصدفي على رواية ابن سعادة له، ورواية القاضي عياض هي النسخة الثانية عن أصل أبي علي هذا، وهي التي وقع البحث والتنقير عنها، وعليها يتوجه الكلامُ في هذا الجزء وغيره، لـما فيه من نفائس الحواشي والتعاليق والرموز وإشارات الضبط والمقابلة بأصول (الصحيح) وهو ما لا يوجد في غيره من الأصول الخطية للصحيح الجامع.

وقد توقف الحافظ إدريس العراقي في وقوف الحافظ ابن حجر على أصل أبي علي من (الصحيح) فتعقبه الكتانيُّ بأن وقوفَه عليها محقّقٌ بظهور نسخة أبي علي بطرابلس الغرب سنة عام 1211 وعليها بخطّ السخاوي أن شيخَه ابنَ حجر كان يعتمد عليها وقت شرحه للبخاري.

وقد مرَّ أن خطَّ الحافظ ابن حجر على ظهر أصل أبي علي، ورأينا نقلَ الحافظ في (الفتح) عنها من حاشية أبي علي عليها في مواضع، وفيه التصريح من الحافظ أنه رآه بخطّ أبي علي، منها قوله في (باب المدينة طابة): (وقرأتُ بخطِّ أبي عليّ الصدفي في هامش نُسخته من صحيح البخاري بخطّه: قال الحافظ –يعني الصدفي-: أمرُ المدينة في طيبِ ترابـها وهوائها يجده من أقام بـها، ويجد لطيبها أقوى رائحة، ويتضاعف طيبُها فيها عن غيرها من البلاد، وكذلك العود وسائر أنواع الطيب). اهـ من (الفتح).

وأظنّ أنه وقع لأهل مصر أصل أبي علي هذا أو نسخة عنه، وقد نقل شيخُ الإسلام البُلقيني في موضع من (محاسن الاصطلاح) عند الكلام على خبر توريث الكافر من المسلم، تصويباً في راويه عمرو بن عثمان من نسخة من (الصحيح) قال إنـها نسخة البخاري المعتمدة بالكاملية، فعلَّقت الدكتورة عائشة بنت الشاطئ على ذلك بأنه لعله يقصد نسخة أبي عليّ الصدفي.!

لكن المشكل في كلام الحافظ أبي العلاء العراقي أنه وقع للحافظ في (الفتح) إغفال النقل عنها في مواضع من (الفتح) اضطرَّ فيها إلى تكلُّف توجيه المعنى الذي لو رجع فيه إلى أصل أبي علي لـما احتاج إلى ذلك.!

فمنه عند قول البخاري باب (من سمَّى النفاسَ حيضاً) في خبر أمّ سلمة: بَيْنَا أَنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُضْطَجِعَةٌ فِي خَمِيصَةٍ إِذْ حِضْتُ فَانْسَلَلْتُ، فَأَخَذْتُ ثِيَابَ حِيضَتِي، قَالَ: (أَنُفِسْتِ) قُلْتُ: نَعَمْ، فَدَعَانِي فَاضْطَجَعْتُ مَعَهُ فِي الخَمِيلَةِ).

فقال الحافظ: (قال الـمُهلَّبُ وغيرُه لـمّا لم يجد المصنّفُ نصَّاً على شرطه في النفساء، ووجد تسمية الحيض نفاساً في هذا الحديث، فهم منه أن حكم دم النفاس حكمُ دم الحيض، وتُعقّبَ بأن الترجمةَ في التسمية لا في الحكم، ونازع الخطابيُّ في التسوية بينهما من حيث الاشتقاق كما سيأتي، وقال ابن رُشيد وغيره: مرادُ البخاري أن يُثبتَ أن النفاسَ هو الأصل في تسمية الدم الخارج، والتعبير به تعبيرٌ بالمعنى الأعم، والتعبير عنه بالحيض تعبيرٌ بالمعنى الأخص، فعبَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالأول، وعبَّرتْ أمُّ سلمةَ بالثاني، فالترجمة على هذا مطابقةٌ لـما عبَّرتْ به أمُّ سلمة والله أعلم).

ولو كشف عنه في أصل أبي علي الـمُنتسَخ من أصل أبي ذرّ أو عند أبي ذرّ أو الكُشميهني الذي سمع أبو ذرّ (الصحيحَ) عنه، ما احتاج إلى تكلُّف توجيه هذا النقل عن الـمهلب بـمثل ما أورده، فإنه في أصل أبي ذرٍ هكذا (باب من سمَّى النفاسَ حيضاً والحيضَ نفاساً) كما في النسخة السلطانية من (الصحيح) وقد سقط من أصل اليونيني تتمة هذا الحرف من الباب فاستدركه الناسخُ في الـهامش ورمز إليه برمز أبي ذرّ والكُشميهني.

وهو يدل على أن الحافظَ لم يعتمد أصلَ أبي عليٍّ في شرحه مطلقاً، وإنـما رجع إليه في مواضع بقدر ما تـهيّأَ له النقل عنه، وقد يكون ذلك لعُسر الوقوف على نسخة أبي عليّ وكونـها عزيزة الوجود إذ ذاك، ومن هنا قال أبو العلاء العراقي ما قال فهذا وجه قوله، والله أعلم.

ولذا فإن القسطلاني حين أورد هذا الاعتراض على البخاري في (شرحه) وذكر الجوابَ عنه بنحو ما أجاب الحافظ، ختمه بذكر هذه الزيادة الساقطة من نسخة الحافظ ابن حجر في الترجمة عن نسخة الكُشميهني، وهي تنقض هذا السؤال الذي اُعترض به على البخاري.

والذي يظهر مما مرَّ أن أصلَ أبي عليّ هذا قد انتقل من غرناطة الأندلس إلى فاس بالمغرب، ثم يحتمل أنه صار إلى مصر، حتى نقله مَنْ نقله في عهد سلاطين آل عثمان إلى اصطنبول، إما من مصر كما يظهر لي، وإما من المغرب كما قاله الدكتور عبد الهادي التازي رحمه الله.

ثم عاد منها إلى طرابلس الغرب بواسطة أبي العباس أحمد بو طبل ويقال له (الطبولي) فإنه الذي اشتراه من اصطنبول كما أخبر الكتانيُّ عن ظهوره بـها سنة 1211 بوقوف أبي العباس الفاسي عليه.

وما ذكره الناصري أنـه بذل مالاً في اشترائه من الطبولي فأبى وتمنَّع، حتى كاتب في شأن شرائه منه ملكَ المغرب المولى سليمان فوجَّه بـمن يشتريها منه، فتمَّ الشراءُ على ما قال التازي رحمه الله، لكن حال دون وصول النسخة إليه ما نشب من الحرب بين ولاة الجزائر وباي تونس حمودة باشا.

ثم إن هذا الأصل انتقل من الشيخ أحمد الطبولي المشهور بـ(أبو طبل) المتوفى باصطنبول سنة 1258 إلى الجغبوب في عهدة الإخوان السنوسيين وآل إلى خزانة الإمام العلامة المجدّد أبي عبد الله محمد بن علي السنوسي رحمه الله، وهو تلميذ الطبولي، فلا يبعد أنه عهد به إليه لـِمَا تحقَّقه من نبوغه وعلمه وحرصه على جمع الكتب وميله للحديث.

ثم منه إلى الشريف أحمد السنوسي الذي كتب إليه الكتاني في شأنه، فأجابه الشريف أحمد بأنه عنده لكن حال دون ظفر الكتاني به موتُ الشريف.!

ثم آل إلى خزانة ملك ليبيا السيد إدريس السنوسي الذي يحتمل أنه حمله معه إلى الإسكندرية، ويحتمل أنه بقي في خزانة كتبخانة الإخوان السنوسيين بجغبوب، فتسامع الغماريُّ الكبير بوصول الملك إدريس إلى الإسكندرية، وكان الغماريُّ إذ ذاك بالقاهرة، فرحل إلى الملك بالإسكندرية للحصول على نسخة أصل أبي عليّ هذا من (الصحيح) لكن دون طائل.

ثم استقرّ هذا الكنز المفقود بـمكتبة أوقاف بنغازي، ومنها استعاره عالمُ تونس الطاهر ابن عاشور على ما ذكر التازي أنه رحل سفيراً للمغرب إلى ليبيا صيف سنة 1976 وفي خاطره مهمة البحث عن أصل أبي عليّ الصدفي، فاجتمع بالملك إدريس وفاوضه في شأن هذا الأصل، فدعاه الملك لزيارة مكتبة الجغبوب وساعده عليه أن بعض فضلاء ليبيا أكَّد له وجودَ النسخة الصدفية بالجغبوب.

فوصل إلى واحة الجغبوب سنة 1968 وشرع في البحث دون طائل، إلى أن وقف على وثيقة تفيد باستعارة العلامة ابن عاشور لنسخة البخاري الصدفية التي برقم 2159 من هناك سنة 1958، وحملها معه إلى خزانة المكتبة العبدلية بالزيتونة بتونس، ليُصحّح عليها نسخته من (الصحيح) وفي ذلك أنشد التازي لنفسه اقتداءً بالناصري:

هذا الكتابُ الذي تاقَ الملوكُ له...من خطِّ فخرِ الرواة الحافظِ الصدفي

وعنه زاويةُ الجغبوب في كنفٍ...........فصانـها اللهُ في عزٍّ وفي شرفِ

ثم إن الملك إدريس على ما أخبر به التازي وجَّه سفيراً إلى تونس بغرض استقدام النسخة الصدفية من (الصحيح) واتَّفق وجود أم كلثوم بتونس، فظنَّ بعض الناس أنه إنـما قدم إلى تونس لدعوة أم كلثوم لإقامة حفل غناء بطرابلس وبنغازي، وليس بحثاً عن الكأس الـمُقدّسة.!

وقد أفاد التازي رحمه الله بأن السفيرَ عاد من تونس ومعه الأصل الصدفي، فسُرَّ الملك به حتى قال إن الكشفَ عنه يفوق اكتشاف النفط.!

واعترف الملك رحمه الله بأن المغربَ أحقُّ به من غيره لوقوع الشراء كما مرَّ، وتعهَّد بطبعه وتوزيع نسخٍ منه على العلماء والرؤساء.

وأجاز التازيَّ بكافة مروياته ومسموعاته ومنها (الصحيح) وعهد بـمهمة طبع أصل أبي عليٍّ إليه، لكنَّ التازيَّ سافر إلى العراق في مهمٍّ، وبقي يكاتبُ الملكَ إدريس بالأمر حتى علم أن الأصلَ رحل مع الملك إلى مقرِّ إقامته بطبرق في الشرق الليبي، فعزم التازي على الرحلة إليه لكنَّ الملكَ تحوّل إلى غرب ليبيا ثم منه إلى الإسكندرية، واستظهر التازي أن الملكَ لم يحمله معه إلى الإسكندرية، وأن أصل أبي علي لا يزال بطبرق في الشرق الليبي.!

وهذه الرحلة الملكية إلى الإسكندرية هي الثانية، وليست هي الأولى التي تقدَّم ذكرها، وهي التي رحل فيها إليه الحافظُ الغماريُّ لطلب أصل أبي علي منه، بدليل أن الغماري توفي سنة 1960، وكانت هذه الرحلة التي ذكرها التازي بعد لقائه بالملك إدريس سنة 1967-1968 كما مرَّ، أي قبل الانقلاب عليه بنحو سنة، وبعد وفاة الغماري بـمدة كما ترى، وغير بعيد أن يكون الملكُ إدريس رحمه الله قد احتمل أصلَ أبي علي معه للبركة كما هي عادته.

وعليه يقال بأن الأصلَ الصدفيَّ للبخاري لا يخلو أن يكون بليبيا، إما بطبرق في شرقها كما استظهره الدكتور التازي، أو في غربـها بطرابلس أو بعض أعمالها، وإما أنه انتقل إلى الإسكندرية مع الملك، أو يكون في بعض مكتبات أوربا كما ألـمح إليه الحافظ عبد الحي الكتاني، ويقويه أن الملكَ بعد الانقلاب رحل من مصر إلى اليونان فأقام بـها مدَّة، ثم عاد إلى مصر، وهل عاد إلى حيث اشتراه الطبوليُّ أول مرة.!؟

ويحتمل أنه آل إلى بعض ورثة الملك إدريس كالسيدة فاطمة امرأته، وهي ابنة الشريف أحمد السنوسي، أو السيد نافع بن العربي ابن الشريف أحمد أو غيرهما، فيكون إما بـمصر وقد كانت السيدة فاطمة رحمها الله بـمصر وظفرنا منها بإجازة في مروياتـها عن والدها وزوجها الملك، وأجازني أيضاً ابن أخيها السيد نافع بـمروياته عن والده السيد العربي وزوج عمته الملك إدريس، كلاهما عن الشريف أحمد بإسنادهم في (الصحيح) وغيره.

أو يكون هذا الأصل قد وصل إلى بعض بلاد الحجاز كالمدينة النبوية أو غيرها لوجود بعض الإخوان السنوسيين هناك، وقد يحتمل أيضاً أن الملكَ إدريس أعاده إلى المغرب قبيل رحلته، من حيث إنه يرى استحقاقَ المغرب به دون ليبيا أو غيرها والله أعلم.

وليت أن بعض أهل الاعتناء والتحصيل من المقتدرين، أو من أهل الفضل والخير المقرَّبين من الملوك والرؤساء يتحلون بـهمة الطبولي رحمه الله، فينتدبون للبحث عن هذا الأصل النفيس حسبة في خدمة الحديث وأهله عامة و(صحيح البخاري) خاصة، ولاسيما أننا سمعنا عن انعقاد مؤتمرٍ خاصٍ بتراث البخاري في الكويت على نفقة بعض أعيانـها وفضلائها، ومن الناس من يقول إن الهالك القذافي استلبها لنفسه، وقيل أعادها للمغرب أيا الحسن الثاني، والله أعلم.

ومن عجائب الاتفاقات أن أبا علي الصدفي هو نفسه فُقِدَ حين توفي شهيداً في وقعة (قتنده) سنة (514) كما فُقِدَ أصلُه النادر هذا من (الصحيح) ولم يُعثر لا على جُثَّتِهِ، كما ذكر القاضي عياض في (فهرس شيوخه) ولا على نُسختِهِ، فاليوم (لا أبو علي ولا نسخته) على حد المثل البغدادي العامي: (لا أبو علي ولا مسحاته).!

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين