القلم الأمين

لقد تعلمت أن لكل نظرية مدروسة، محاور إسقاط عملية تطبق فيها مادة تلك النظرية وفحواها.. ليصدق الخبر اليقين، وليقايس الكلام منظوره في الواقع..

غير أني عندما حاولت إسقاط روح نظريتي في الأدب الإسلامي على محاوره من الواقع تعثرت خطوتي وارتبكت معالمها، وبدت النظرية ضئيلة مختصرة أمام محور شامخ راسخ تمثل في واقع الأديب المسلم وهو يتحمل الراية بشموخها ورفعتها، رغم واقع قد كبله بقيود وسلاسل، وكمّم منافذ التعبير عن أن تبلغ حروفه مسامع المتنصتين .

ذلك أن المفهوم العام الذي يدور في فلكه منظري ونقاد الأدب الإسلامي بدا ضيقاً محصوراً في قماقم مصطنعة مسدودة، لم يلبث أن انتبه إليها مارد يحمل القلم هويته الإسلام فانتضى روحه ودمه وعمره نذراً ليحد قلمه من عزماته قوة تكسر القماقم وتفك الأغلال، وتبلغ النداء..

إني لألمحه اليوم.. بعدما أودعوه في سجون عفنة ظنوا معها موات روحه. يجتاز الدروب بروح منافحة دؤوب.. قد تملصت من إسارها فمضت تعلن في المدى الرأي السديد البليغ من غير محاباة.. وتنادي بالمبدأ الرشيد من غير طمع بالثمن.. وتحذر وتنذر عن أن يغتال القوم بالوهن أو بالوسن .

أراه يلمح الفجر وليد الدعاء حضين الأمل.. رغم أنه يضيء الظلمة وقد أمضت ليله في السحر .

وإذا ما ذبلت لمعات روحه . أوقد من آماله الشموع.. وألهبها الدعوات والعزمات، وأجج من وهج وريقاته وكلماته ما يضرم جُذوتها إلى أن ينبلج صبحه الموعود.

إنه لا يقيد انطلاقة روحه بفن مصطنع معلب، ولا يعقلها إلى فكر مقلد أو مستورد.. ليس له من الزاد إلا ما يحسه من واقع أرضي ممض يلتهم ذريرات الثرى إزاء عالم شفاف تتطلع إليه أحداق روحه تعب منها عبير السماء.

لم يفكر ذات يوم أن يكون مهراجاً مضحكاً، ولا نادياً منتحباً.. وإنما أطلق الروحه هفهفاتها تحمل المعاني الكبيرة لتؤديها بصدق وواقعية.

لقد أيقن أن الكلمة حضارة قائمة بنفسها تدعمها شمولية الهدف وتنهض بها الآمال المشرقة التي تتحسسها في عتمات الواقع ووجومه. إنه لا تشطح بخياله الأحلام الكاذبات، ولا تعبث بناعسيه العرائس اللعوب، وقد أمضت أسماع روحه تنهدات المستغيثين، وآهات المستصرخين وويلات العذاب تنصب شراكها مجازراً، مشانقاً، محارقاً، لكل من فهم ووعى حضارة الكلمة وقيمة الإنسان.

ليس له إلا أن يحمِّل سطوره، قصائده، أشعاره، قصصه، رواياته كل ما تقوم به حضارة الإنسان النقية على أرض ثابتة قوية.. قد جانبتها الظلمات، وهربت من حولها آثام الشياطين .

إنه يعلم أن ما يحيا في روحه يجب أن يجريه على الورق، وإنما كان إمساكه بالقلم ليس نافلة ذاته ووجوده وإنما أصلها وحياتها.

فكما يمسك الطبيب بالمبضع يستأصل به شأفة مرض مستفحل، وكما يتفنن المحارب بالإعداد لإنقاذ جيشه، واكتساب نصر جديد مستحثاً شجاعة النفوس، منادياً عزائم القلوب والأرواح.. قد وعى طريقه وسدّد الهدف.. كما يكون ذا وذاك كل في ميدانه.. كان الأديب المسلم في ميادين الحياة يحيا محنة زمانه ووجوده، ويغلي صدره بمجموع ما تحتويه الصدور من حوله آلاماً وهموماً وأحزاناً أو أفراحاً وآمالاً ومطامح .

لقد عرف أن صانعي حضارة الإنسان ليسوا أولئك الذين يكتبون وقلوبهم من وراء أقلامهم تنفح الأقلام دماء الحياة.. بل هم الذين يكتبون وأقلامهم من وراء قلوبهم تستنزفها دماء الحياة .

دواتهم دموع أرواحهم مدادهم دماؤهم الساخنات قد رفضت مسيرتها في شعاب العروق فانتفضت بها العروق لتحيي من صخبها نشيد الحياة .

لقد أطفئت في مؤتمراته كل الأنوار، وتسلّل الحضور للحضور وكأنهم لصوص الكلام.. يستمعون خلف الجدران، أو من وراء القضبان، غير أنه لم تهن عزيمته، ولم ينتظر أن يدوي التصفيق خلف وقفات تنهل فيها دموعه.. بل مضى يقرأ كل المقاطع، والقصائد، لتضيء الحروف من ذات روحه حنيناً إلى الكلمة وقد زرعت الصمت القائم، روحاً ونوراً وحياة لا تنطفى لم يحزنه اغتيال كلماته قدمها من نبضه غير أنها باغتيالها تحيا.

 

ولم ترعبه المسودات يكتبها خلف قرار حكم الإعدام، فالحاكمون هم المحكومون وهو الذي قد كتبت له الحياة.. وإن علقوه أو ذبحوه.. لأن الكلمة حينما تمهر بالدم السخي طيباً، صادقاً، تكون قد أعلنت أن الورق ما عاد يحتمل ثقل الأمانة. فتخرج بهذا إلى عالم النور ليصبح الكون كله هاتفاً مردداً كلمات الحياة.. لحظات الزمان هي السطور.. وأجياله هم الكلمات.

إنه ليس تاجر الكلمات. يبيع ويشتري.. إنما يبيع حينما يكتب - بيته، وخبز أبنائه، ودراجة الصغير، وعروس الصغيرة، ليشتري لهم بكل ذلك هماً، وبعداً عنهم، وآلاماً لا تنام مع المساء.. لكنما يهدهدهم بالفرح القادم يوم أن تنتصب كلماته.. قامات خضر، وشباباً نضر، تحيي في هيعتها روح الأحرف، ووقفات الفواصل.

إنه الأديب المسلم لا تحده القوالب، ولا تحجزه اللغات، ولا تمنعه تأشيرة دخول، أو تخرجه تأشيرة الإبعاد.. إنما هو يحيا ولو دفنوه من زمن بعيد.. بل تحيا خلف حياته الأموات .

فليفعلوا به وبسطوره ما يشاؤون.. يغالطونه يحاربونه، يضربون من حوله الأسوار.. إن ذلك كله مدعاة لمضائه.. مصابراً.. مرابطاً خلف مواجد أمته.. إلى أن يأذن الله بانبلاج الصبح.. أليس الصبح بقريب.. بلى وإنهم بحول الله لمنتصرون.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين