القَرَافي

لقد ازدان تاريخ علمائنا السابقين بأعداد كثيرة من العباقرة المبدعين، كانوا على درجة عالية من النبوغ العجيب، والعلم الواسع، والتفنن في العلوم، مع الاختراع والابتكار فيما لا يُظَنُّ منهم أنهم يعلمونه، فضلاً عن إتقانهم له وإبداعهم فيه، ومن أولئك العباقرة الأفذاذ الإمام القرافي، الذي اخترت أن يكون الحديث عنه هو حديث السهرة اليوم.

هو الإمام شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن الصَنْهاجيِّ الأصل، المصري القَرَافي المالكي، الفقيه الأصولي، والمفسر المتكلم النظار، والمتفنن المشارك الأديب، ولد بالقاهرة سنة 626، وتوفي سنة 684، وأخذ عن أشهر العلماء في عصره، وفي مقدمة شيوخه: الإمامُ عز الدين ابن عبد السلام الملقب بسلطان العلماء، والإمام شرف الدين محمد بن عمران الشهير بالشريف الكَرَكِيِّ، وقاضي القضاة شمس الدين أبو بكر محمد بن إبراهيم بن عبد الواحد الإدريسي، والشيخ شمس الدين الخسروجاهي، والإمام جمال الدين ابن الحاجب، وغيرهم.

وكان القَرَافي قد آتاه الله من المواهب الفذة النادرة ما أهَّلَه أن يتلقى العلمَ عن هؤلاء الفحول من علماء عصره وجهابذة دهره، وقد لازمَ الإمامَ عز الدين ابن عبد السلام، وأخذ عنه أكثر فنونه، واقتبس منه العقلية العلمية والفكر الحر المتزن المستنير، وكان الشيخ عز الدين قَدِمَ من الشام إلى مصر سنة 639، وكان القرافي حينذاك في مطلع شبابه، يبلغ من العمر نحو 15 عاماً، فلازمه حتى وفاته سنة 660 نحو عشرين سنة.

وقد مَلَكَ الشيخُ عليه قلبه ولبه، بغزارة علمه، وثقابة ذهنه، ومتانة دينه، وقوة شخصيته، وبسالته في نصرة الحق، وكريم تواضعه وورعه وفضله، فألقى القرافي إليه بالمقاليد، ونَهَلَ منه وعَلَّ، وأكثر النقل والحديث عنه في كتبه، وأثنى عليه في كل مناسبة في مواضع كثيرة من تآليفه ثناءَ المرتوي من منهله، والعَابِّ من بحر علمه الغزير النمير، فقال في كتابه الفُروق، بعد أن تحدث عن قاعدة من قواعد الشريعة ودَفْعِ ما يَرِدُ عليها من إشكالات، قال: وهو من المواطن الجليلة التي يحتاج إليها الفقهاء، ولم أر أحداً حرره هذا التحرير إلا الشيخ عز الدين ابن عبد السلام رحمه الله وقدس روحه، فلقد كان شديد التحرير لمواضع كثيرة في الشريعة معقولِـها ومنقولِـها، وكان يُفْتَحُ عليه بأشياء لا توجد لغيره، رحمه الله رحمة واسعة.

وقال أيضاً: ولقد حضرت يوماً عند الشيخ عز الدين ابن عبد السلام، وكان من أعيان العلماء، وأولي الجد في الدين، والقيام بمصالح المسلمين خاصة وعامة، والثبات على الكتاب والسنة، غير مكترث بالملوك فضلاً عن غيرهم، لا تأخذه في الله لومة لائم.

فهو الشخصية الفذة، القدوة التي ملأت من القرافي السمع والبصر والفؤاد جميعاً، ولذا تراه يتأسى به قلباً وروحاً وفكراً، وعلماً وتأليفاً ومنهجاً، وما أكثر التشابه بين هذين الإمامين.

ولقد جَدَّ القرافي في تحصيل العلوم ومعرفتها حتى أتقن جملة من العلوم إتقاناً بلّغه الإمامة فيها، وآتاه الله براعة فائقة وبياناً عجيباً يأخذ بألباب الطلبة والمحصلين في توضيح المسائل وتحقيق الدلائل، وكشف المعضلات وحل المشكلات، وخصم المخالفين، وقطع المكابرين والمبطلين، وقدرة عجيبة في سرعة التأليف، فقد حرر أحد عشر عِلْماً في ثمانية أشهر.

ولقد تحلَّت مصنفاتُه كلها بالابتكار والتميُّز: لغةً وأسلوباً، وبحثاً وتنقيباً، ونخلاً وتحقيقاً، وجمعاً وتنسيقاً، حتى ألزمتْ البعيدَ والقريبَ بالإذعان لإمامته، ولو لم يكن له من التأليف سوى كتابه الفُروق، لكفى دليلاً على عُلُوِّ كعبه في العلم، فهو كتابٌ نسيجُ وحدِه، جاء فيه بالعَجب العُجاب، لم يُسبَق إلى مثله، ولا أتى أحد بعده بشَبَهِه، كيفَ ومؤلفاته أربت على عشرين مؤلفاً في فنون متعددة، وفيها النفائس والدرر!

ومن أجل هذا التفوق العلمي الذي تفرد به في عصره، عدَّه الإمام السيوطي في كتابه حُسْنِ المحاضرة، في طبقة من كان بمصر من المجتهدين وترجم له في عداد أولئك الأئمة المجتهدين.

وكان القرافي - إلى جانب إمامته وتبحره في علوم الشريعة وفنونها - من الفلكيين الرياضيين البارعين النوادر في عمل التماثيل المتحركة في الآلات الفلكية، وقد حكى في كتابه نفائس الأصول في شرح المحصول، وهو يتحدث عن الدَلالة الصوتية، فقال: لا يكفي أن نسمع الصوت فنقول: هذا الصوت لشخص. لأن الصوت يُصنَعُ في غير الإنسان. ثم قال: بلغني أن الملك الكامل وُضِعَ له شمعدانٌ - هو عمود طويل من نحاس مزخرف، فيه مراكز يوضع عليها الشمع للإنارة - كلما مضت من الليل ساعةٌ انفتح باب منه، وخرج منه شخص يقف في خدمة الملك، فإذا انقضت عشر ساعات طلع الشخص على أعلى الشمعدان وقال: صَبَّحّ اللهُ السلطانَ بالخير والسعادة. فيَعلَمَ أن الفجر قد طلع.

ثم قال القرافي عقب هذا الكلام: وقد عملتُ أنا هذا الشمعدان، وزدت فيه أن الشمعة يتغير لونها في كل ساعة، وفيه أسَدٌ تتغير عيناه من السواد الشديد إلى البياض الشديد إلى الحمرة الشديدة، في كل ساعة لها لونها، وتسقط حصاتان من طائرين، ويدخل شخص ويخرج شخص غيره، ويُغْلَقُ بابٌ ويُفْتَحُ باب، فإذا طلع الفجر طلع الشخص على أعلى الشمعدان، وإصبعه على أذنه يشير إلى الأذان، ولكني عجزتُ عن صنعة الكلام، ثم صنعتُ صورة حيوان يمشي ويلتفت يميناً ويساراً، ويُصَفِّرُ ولا يتكلم.

وهذا ذكاء خارق عجيب وإبداع مدهش من إمام أئمة العلم والدين في القرن السابع الهجري قبل أكثر من سبعة قرون.

من كتاب:" أيها المستمع الكريم" إعداد ومراجعة: محمد زاهد أبو غدة

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين