(الفوضى الخلّاقة في مقال :

 

بِسْم الله ، الحمد لله ، و الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم :

إنّ أحدنا عندما يتصدّى للإصلاح فعليه قبل كلّ شيء أنْ يحرّر نيّة بينه و بين الله عز وجل أنّه يبتغي فيما يكتب أو يقول وجه ربه الأعلى ، لذلك يجتهد في أن لا يقع في تجريح أو تشهير أو افتراء أو بهتان ، و في أن يحرص على أن يجمع في مقولته  كلمة الأمة و لا يفرِّق ، و يلملم ما تناثر من شتاتٍ و لا يمزِّق ، بل  يحرص كلّ الحرص على أنْ لا ينساق في موقفه أو نقده وراء العصبية أو الحزبية أو الهوى ، و هو الأمر المجمع عليه في كافة العصور الإسلامية أخذاً من قوله صلى الله عليه وسلم "إنَّما الأعمال بالنيّات ، و إنَّما لكل امرئ ما نوى" . 

و إذا كنّا بطبيعة الحال لا نتدخل في النوايا ، لكنه من غير النزاهة العلمية في المحاكمة العقلية أن نرى هجوماً مسعوراً يشنّ على العلماء كل العلماء ، و على المناهج الدراسية التي تخرّج عليها جهابذة العلم و الجهاد و التجديد على اختلاف العصور الإسلامية ، ثم ننسب صاحبة المقال إلى سلامة القصد و النية ، لا سيما و أنّها ضمّتْ إلى هجومها اللاذع لغة التعميم التي لم تستثن أحداً ، علماً أنّ التعميم في العرف الأدبي و الأخلاقي هو أسلوب الحمقى الذين لا يلتفت إليهم ، و طريق أصحاب الأهواء الذين لا يسلم لهم قصد !.

لو كان صاحب المقال علمانياً ملحداً لوجدنا له العذر في تلك الغشاوة التي جلّلتْ عيني رأسه و قلبه ، و لقلنا له : ليس بعد الكفر ذنب ، لكن أما و  إنّ صاحبة المقال قد تخرجت من تلك المعاهد الشرعية فليس أمامنا في هذه الحالة سوى أن نحدد موضع الخلل في شخصيتها و سلوكها و فكرها ، دون أن نهجم عليها على النحو الذي هجمتْ فيه على علماء الأمة دونما تفريق أو تمييز ، و لن نتهمها بالجمود على نحو ما اتهمتهم .

لا أدري لماذا توجّهتْ  الكاتبة في نقدها إلى من أقام في استانبول هرباً من بطش النظام ، بعد أنْ  أيَّد الثورة و  الجهاد العادل في سوريا ، و عرّض حياته في سبيل الله للخطر ،  وبعد أنْ  وقف في وجه المتنفذّين من القائمين على المدارس التي تربّى فيها الكثيرون ممن تنعتهم بالجامدين ، لكنّ أحدهم لم يقف  أمام هؤلاء و أسيادهم تابعاً ذليلاً جامداً على نحو ما رمتْه به  ظلماً و زوراً وبهتاناً، وإنَّما وقف حرّاً عزيزاً ذَا رأي و حيوية !.

ولا أدري لماذا ضربت في حديثها صفحاً عن المعاهد التي مازالت توالي النظام النصيري الفاسد في دمشق ، وصبّتْ جام غضبها على الأحرار الذين سامهم النظام أشدّ العذاب ، ثم سامهم رؤساء تلك   المعاهد الموالون للنظام أفظع الهوان ، ثم جاء دور تلك الكاتبة لتلصق  بهم من خلال قلمها الطائش أسوأ التهم و أفظع البهتان !.

اتهمتهم بالجمود مع أنّ المظاهرات التي وقفت في وجه إرهاب طاغية الشام التي غرّدتْ بصيحات "الله أكبر" خرجت من مساجدهم ، و تحت رايتهم ، وبدفعٍ حثيث من تحريضهم " وَحَرِّض المؤمنين"!.

اتهمتْ  خرّيجي معاهدهم بـ" المشوّهين نفسيّاً"  مع أنّ روّاد العلم في دمشق الزاحفين إليها من أنحاء الأرض كان لهم الفضل في الحفاظ على الهوية الإسلامية لأكثر شعوب الإسلام في شتى بقاع المعمورة بما فيها تركيا ، بل  كان لهم دورٌ في نشر الشريعة الغرّاء في بلاد لا عهد لها بالإسلام من قبل .

زعمت أنّهم أغلقوا باب الاجتهاد مع  أنّ   باب الاجتهاد مفتوح وباقٍ إلى قيام الساعة ، لكن الاجتهاد له  شروطه المعتبرة التي لا يقتحم غمارها إلا من تمكّن من فنونها ، وإنّها لبدهيّة مسلّمٌ بها في سائر العلوم ، فهل وجدنا في عالم الطبّ مثلاً من يجيز له الأطباء العمل في مهنة الطَّبّ إِنْ لم يبحر  في غمار علومه ، ويتمكنْ من فنونه  ، ويمتلك تصريحاً بمزاولة مهنته  ، فضلا في أن يجتهد في تطويره ، فهل  هان ديننا علينا إلى هذا الحدّ حتى نسمح لأيّ دعيٍّ أن يعتدي على حرمته بذريعة حرية الرأيّ و ما شابه ؟ 

و الحق أنه لم يُعلِّمنا شيوخنا، و لَمْ نعلّمْ تلاميذنا سوى أنّ من بلغ شأْو? الاجتهاد لم يجزْ له أنْ يقلّد البتة ، وأنّ ذلك يصدق على المجتهد ولو لم يكن اجتهاداً مطلقاً ، أي : حتى وإِنْ كانت القدرة على الاجتهاد هي في مسألة واحدة ، فلا يجوز له أنْ يقلّد في تلك المسألة .

بعد هذا البيان لسائل أن يسأل :

هل كل ما تعرّضتْ له الكاتبة هو محض خيال و افتراء؟.

الجواب : بالطبع لا ، 

ولا شك في أنّ الذي تناولتْه الأخت الشابة من نعتٍ مزعوم ليس مقطوعاً عن الواقع ، لكنّها كانت كمن قامتْ بزيارة إلى مستشفى للأمراض العقلية والنفسية  في مدينة عريقة وكبيرة جداً ، ثمّ ما إِنْ غادرتْ المشفى المعهود حتى أخذتْ تتحدّث على الملأ عن أمراض شاهدتْها بأمّ عينها ،وعاينتها بنفسها ، لكنها لغاية في أعماقها   أخذتْ تعمّم كلامها ليشمل  كافة أهالي المدينة العظيمة  مدّعيّة نعتهم  بالمرض  ، مدنّسة سمعتهم بالخلل ، محذّرة خلق الله قاطبة من منهجهم ! فهل تنتظر بعد عدوانها عليهم سوى أنْ تنبري   في وجهها منابر بلدتهم ، في 

غضبة تقصي مصداقيتها ، و تبخّر سمعتها ، و تجعلها _ لاحقاً _  في زاوية النسيان .

في المقابل : 

بالتأكيد هناك جمود عند بعضهم ، 

وتعظيم وتبعية عمياء عند آخرين ، 

وتقوقع عند صنف ثالث ، 

وتقديس مطلق عند فريق ، 

وعزلة عن الحياة السياسية عند فريق آخر ، 

وجهلٌ بكيفية قيادة الحياة المعاصرة واللعبة السياسية عند شريحة من الشرائح ، 

فكل هذا أمرٌ مؤلم و مؤسف ومرفوض ، وندينه ، بل نطالب بإصلاحه ، ونسعى لذلك ، لكنّه في تقديري مع إنكارنا التام له  هو أمرٌ طبيعي في هذه المرحلة بالذات ، لا سيما بعد خمسين سنة من سيطرة النظام النصيري البعثي الحاقد على مقاليد الأمور في سوريا الشام وما ترتب على ذلك من ثقافة مظلمة يحتاج من ابتلي بمرضها وقتاً للتعافي منها ، 

ولا سيما أنّ هذه الحقبة السوداء من تاريخ شامنا جاءت عقب مرحلة الاستعمار الفرنسي الصليبي الذي أعقب بدوره فترة انهيار الخلافة العثمانية ، وتمزق الجسد الإسلامي إلى أقطار متباعدة ومتناحرة بعد أنْ كانت جسداً واحداً متآلفاً ، وكل ذلك بالبداهة له آثاره وانعكاساته ومضاعفاته التي لا ينكرها عاقل بحال ، لكنّ معالجة ذلك لا تكون بهذا الأسلوب الغاشم من التعميم غير اللائق ، والعمى الكامل عن أصحاب المواقف والجهاد الذين دفع بعضهم ثمن ذلك  من أرواحهم ، ودفع آخرون  الثمن باعتقالهم و تعذيبهم  ، وآخرون من تشردهم وغربتهم وفقرهم  وآلامهم !

ثم إنّ المعالجة لا تكون بتسليط الضوء على أهل المواقف والجهاد في مهجرهم ، والإعراض عن مناصري النظام في جحورهم !.

الإخلاص في القول ، والحكمة في النقد لا تجيز لصاحبها نسف جهاد أمة من أجل أهواء لا ندري من يتلاعب بدفتها!.

النقد البنّاء لا يستهدف الثوابت الإسلامية التي صارت هدفاً لكل ناعق في عملية خلط بين مسيرتنا التي هي مسيرة أمة ، والتي كانت موجودة بداهة قبل وصول النظام إلى سدة الحكم في الشام ، وبين نشاطات كان لا بد من أن توجد وأن تتعثر وأن تتشوّه في زمن النظام ، فإذا بالنقد العشوائي ينسف المرحلتين معاً مستهدفاً الإسلام من حيث لا يشعر العاطفيون بزعم أنّ ما يستهدفه إنَّما هو نتاج النظام و حقبته البائدة !.

الإصلاح الصادق يعرف صاحبه لذي قدر قدره ، و لذي جهد جهده ،و لذي علم علمه ، و لذي بذل بذله ، و لذي انفتاح انفتاحه .

و النصح المخلص تشتمّ منه رائحة الغيرة على الأمة ومصيرها ، لا رائحة الشماتة والشتيمة على الدعوة و رجالاتها!.

النقد البناء يرتفع صوته ليبني لا ليهدم .

والمقال الهادف يؤصل على مرجعية الكتاب والسنة ، فيشخّص المرض الذي لا ننكره ، ويحدد الدواء الذي نبحث عنه ، ويعرض الأنموذج الذي حقق نجاحاً لنتبنّاه ، ويقلّب المسألة من كافة زواياها من دون إسفاف أو تسفيه ، 

 وليت شعري هل وجدنا طبيباً يعامل مريضه بمثل تلك الحملة الكاسحة التي مارستها صاحبة المقال مع علماء وطلاب علم ودعاة استانبول من السوريين في استخفافها بهم ، وإنزال  أمراض الأمة مجتمعة فيهم ،واختزال القضية برمّتها في ذواتهم ، وكأنّه لا يوجد في الساحة غيرهم ، بل في إنكارها المتعمَّد لفضلهم وكأنها تقف في برج عاجي من السلطة المطلقة  توزّع عليهم  الأمراض التي انتشرت في دنيا الناس  وفق ما تشتهي ، ثم تتبع ذلك بالعقوبات التي تلحقها بهم دونما خشية من الجليل ، أو انضباط بالتنزيل ، أو استعداد ليوم الرحيل !.

أما ما زادني ألماً وحسرة فهو انجرار بعض الناس لهجومها اللامنضبط ، وادعاء أنّ ذلك من فورة الشباب ! 

و لا والله لا خير في شباب الأمة إِنْ لم تتقدمْها خبرة وغيرة الشيوخ ، 

كما  لا نهضة لأمة لم تحيّ وجودها همّة الشباب .

كما أنّ الأسلوب الذي انتهجته صاحبة المقال بكل ما تخلّله من أمراض وعيوب- سبقت الإشارة إلى بعضها -إنّما يمهد لفوضى خلّاقة في الخطاب والعلاقات  داخل شرائح المجتمع السوري لا تبشّر بخير إِنْ هي استشرتْ في مفاصل مجتمعنا -لا قدّر الله -،

و هي لا تسيء إلى من يقيم في استانبول فحسب ، بل تهدد أولئكم الذين صفّقوا للمقال وتهدد حركاتهم الإسلامية ، ومشروعهم الإسلامي من حيث شعروا أو لم يشعروا ، 

بل  تسيء إلى صاحبة المقال ذاتها أدركت ذلك أو لم تدرك ، 

وبالتالي فلا منجى من تلك الفوضى وآثارها التخريبية إلا بالعودة إلى طاولة الحوار بشروطه من الإخلاص لله تعالى في الخطاب والكتابة ، 

والتشخيص الموضوعي للمرض دون مجاملة لأيّ إنسان ،     

وتوقير لأهل العلم دون نسبة عصمة لأحد ، 

والحديث الشفاف الهادئ دون تعميم ، 

واللقاء على ما اتفقنا عليه ، ومناقشة ما اختلفنا فيه دون بهتان أو تشفّ أو تجريح .

خاطرة كتبها من مكة المكرمة نزيل المدينة المنورة محمد محيي الدين حمادة الدمشقي الميداني .

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين