الفقيه العلامة مصْطَفَى الزَّرْقَا رَحمَهُ اللهُ تَعَالى

مقدمة:

واحد من رواد النهضة الإسلامية في القرن الماضي، ولا شك أنه سيكون في سجل أعلام الأمة، على مدار الأيام بإذن الله تعالى، أديب مطبوع، ذو موهبة ظاهرة، وقلم رشيق، وعبارة مشرقة أخاذة جذابة، وشعر عذب هادف.

أصولي دقيق متعمق، منحته أصوليته انضباطاً نادراً، وقدرة على الربط والتحليل، والغوص في أعماق النصوص والنقول، ليستخرج منها الجواهر والدّرر.

سعة في المعرفة التراثية، وهضم لكلمات الفقهاء، من خلال الدراسة على الفقهاء، والمطالعة لدواوين وأمهات كتب الفقهاء، حتى صار بهذا بحراً من بحور الفقه، أعطاه هذا الأمر قدرة على معرفة الغث من السمين، والضعيف من القوي، والصالح من غيره، وسعة الأفق، وتوسع الذهن، وصياغة عالية لملكته الفقهية، حتى ملك ناصية الفقه بقوة وجدارة، وآفة الأمة أنصاف الفقهاء، الذين لا يقل ضررهم عن أنصاف الأطباء، فالأول في الدين والثاني في البدن، وشتان. لذا صار الفقيه المتبحر المتعمق كالكبريت الأحمر، ومترجمنا واحد منهم بإذن الله تعالى.

إنه واحد من (سلسلة الذهب) كما يحلو للشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله تعالى- إطلاق هذا على هذه العائلة الكريمة، فهو فقيه، وكذلك والده، وأما جده فهو الفقيه العلامة الذي لا يشق له غبار، فالشيخ المترجم له، سليل بيت علم وصلاح وفضل.

ولم ينس عصره وواقعه، فتعلم في المدارس النظامية، والجامعات المعاصرة، والقديم والجديد، حتى صار من المعدودين.

سخر مواهبه في سبيل نشر العلم صافياً رقراقاً، بعيداً عن الإفراط والتفريط، وصاغ نظريات فقهية مستمدة من أدلة الشرع، تمثلت بتلك الكتابات العظيمة التي ذاع صيتها، وانتشرت في أرجاء المعمورة، وتلقفها طلاب العلم، وبحق أصبح الشيخ مدرسة تشد لها الرحال.

إنه العلامة مصطفى الزرقا رحمه الله.

يقول الدكتور القرضاوي: علماء الشام أربعة:

مصطفى السباعي ـ ومصطفى الزرقا - ومحمد المبارك –ومعروف الدواليبي.

هو الشيخ مصطفى بن الشيخ أحمد ابن الشيخ محمد بن السيد عثمان بن الحاج محمد بن عبد القادر الزرقا الحلبي.

ولد بمدينة حلب عام 1322هـ الموافق 1904م، في ظلال هذه العائلة الكريمة العلمية.

بدأ دراسته في كتاتيب القرآن الكريم، وعلى يد الشيخ أحمد الحجار رحمه الله تعلم القرآن الكريم، ثم قرأ على الشيخ محمود سعيد السنكري علوم اللغة العربية، وتلقى بعد ذلك تعليمه الابتدائي في مدرسة فرنسية.

وصار أمره إلى المدرسة (الخسروية)، وفي هذه المدرسة التقى كبار العلماء وأخذ عنهم، من أمثال الشيخ العلامة المؤرخ المحدث محمد راغب الطباخ، والشيخ العلامة محمد الحنيفي، والفقيه النحوي أحمد المكتبي، والشيخ أحمد الكردي الذي قرأ عليه النحو والفقه الحنفي، والشيخ إبراهيم السلقيني قرأ عليه الفقه والحديث النبوي، وقرأ التفسير على الشيخ أحمد الشماع، والبلاغة وعلوم العربية على علامة عصره في هذا الميدان الشيخ محمد الناشد، وأكثر من أفاد منه والده العلامة أحمد الزرقا درس عليه الفقه الحنفي، وقواعد المجلة.

التحق بالجامعة السورية، حتى تخرج فيها عام 1933م، حاصلاً على شهادتي الحقوق والآداب معاً، وفي هذه الفترة كان يتردد على دروس المحدث محمد بدر الدين الحسني رحمه الله، ثم رحل إلى مصر وحصل على (دبلوم الشريعة الإسلامية).

وعاد إلى سورية وعمل في مجالات متعددة:

- عمل مدرساً في كلية الحقوق عام 1944م في الجامعة السورية إلى 1966م حيث أحيل للتقاعد.

- وفي عام 1954 عمل محاضراً في كلية الشريعة.

- تولى رئاسة لجنة موسوعة الفقه الإسلامي في كلية الشريعة بجامعة دمشق (1955م).

- اختارته وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في الكويت سنة (1966م) خبيراً للموسوعة الفقهية فيها، وبقي في الكويت خمس سنوات قائماً بهذه المهمة.

- درس في الجامعة الأردنية في كلية الشريعة، وذلك عام 1971م وظل بها حتى عام 1989م.

كما شارك في عدد من المجامع الفقهية، واللجان القانونية منها:

- مجمع الفقه التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي.

- المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي.

- مجلس المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية.

- (مؤسسة آل البيت- في عمان).

- كان عضواً في اللجنة الثلاثية التي وضعت مشروع قانون الأحوال الشخصية السوري عام 1952م.

- كان رئيساً للجنة الثلاثية التي وضعت مشروع قانون موحد للأحوال الشخصية لمصر وسورية خلال عهد الوحدة عام 1959م.

أما نشاطه السياسي، فله جوانب متعددة، منها أنه تولى وزارة العدل عام 1956م، ووزارة الأوقاف عام 1962م.

كما أن العلامة الزرقا رحمه الله تعالى منح جائزة الملك فيصل العالمية للدراسات الإسلامية عام 1404م تقديراً لجهوده الطيبة والمميزة والإبداعية في مجال الدراسات الفقهية عامة، ولكتابه (المدخل إلى نظرية الالتزام في الفقه الإسلامي) خاصة، وهو الجزء الثالث من سلسلة (الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد)، والحق أن هذا الكتاب فيه الإبداع باهر، والاجتهاد فيه ظاهر، والتجديد فيه واضح، وفعلاً إنه الثوب الجديد الذي يظهر فيه الفقه الإسلامي، ويستحق بجدارة هذه الجائزة التي أخذها (جائزة الملك فيصل) بل أكثر من ذلك يكفي هذا الكتاب جائزة هذا القبول في الأوساط العلمية والأكاديمية والمشيخية التي جعلته في الصدارة ضمن قائمة المراجع الإسلامية الفقهية، بالإضافة إلى تكريم الوجيه والأديب السعودي المعروف الأستاذ عبد المقصود خوجة، في إحدى (إثنينياته) التي أقامها احتفالاً به في جدة عام 1996م.

ومما لا شك فيه أن العلامة مصطفى الزرقا -رحمه الله- ركيزة من ركائز الفقه الإسلامي في الأعصر المتأخرة، ومدرسة تشد لها الرحال في عطائها وأدائها.

وكان من ثمار هذه المدرسة، أن خلّف أجيالاً من العلماء وطلاب العلم والدعاة إلى الله تبارك وتعالى، في أي مكان نزل به، وفي أي بقعة حلّ بها.

ولا مرية أن وراء هذا الأمر جهد وجهاد، وبذل وتضحية، ودأب وحمل رسالة، وسهر وسفر، وعزيمة وتصميم، ولا يطيق هذا إلا من احتسب أمره لله تبارك وتعالى.

ومن أبرز تلامذته:

- الشيخ العلامة المحدث عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى.

- الشيخ العلامة الفقيه محمد الملاح رحمه الله تعالى.

- العلامة الأديب الدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا رحمه الله.

- العلامة الدكتور فوزي فيض الله (حفظه الله).

- الشيخ أحمد مهدي الخضر.

- الشيخ طاهر خير الله (رحمه الله).

- وغير من ذكر كثير ممن تتلمذ عليه في حلب أو دمشق أو غيرهما من المدن السورية كافة، وكذلك من درس عليه في عمان، وغيرها من البلدان.

وكان من ثمار هذه المدرسة تلك الكتب القيمة، والمقالات الرائعة، والفتاوى النافعة، التي سارت بذكرها الركبان، وانتشرت انتشاراً كبيراً، وتلقفها الفقهاء والقانونيون والباحثون، ينهلون من معينها، ويغترفون من بحرها الرائق.

ومن أبرز هذه الرسائل:

1. سلسلة الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد في أربعة أجزاء هي:

- المدخل الفقهي العام – الجزء الأول.

- المدخل الفقهي العام – الجزء الثاني.

- المدخل إلى النظرية العامة للالتزامات في الفقه الإسلامي- الجزء الثالث.

- العقود المسماة في الفقه الإسلامي عقد البيع- الجزء الرابع.

2. شرح القانون المدني السوري في ثلاثة مجلدات.

3. الفقه الإسلامي ومدارسه.

4. الاستصلاح والمصالح المرسلة في الفقه الإسلامي.

5. أحكام الوقف.

6. الفعل الضار والضمان فيه.

7. عقد الاستصناع وأثره في نشاط البنوك الإسلامية.

8. صياغة شرعية لنظرية التعسف في استعمال الحق.

9. نظام التأمين، والرأي الشرعي فيه.

10. في الحديث النبوي.

- وله ديوان شعر، نشر بعنوان (قوس قزح).

- وله فتاوى متناثرة وموضوعات فكرية وغيرها، طبع جزءاً منها بعد ما قام بجمعها وترتيبها والاعتناء بها، والتقديم لها أخونا الشيخ مجد مكي حفظه الله وبارك في جهده.

أبرز سمات مدرسة العلامة مصطفى الزرقا رحمه الله ما يلي:

أولا: سعة العلم، وعمق المعرفة الفقهية:

إذ هو كما علمنا سليل بيت علم وفقه (فلا غرو أن يشبّ علامتنا في هذه البيئة المباركة، وأن يرضع من لبانها، ويتزود من ثمارها، ويغترف من بحارها، وقد آتاه الله البصيرة المتفتحة، والعقل النقاد، والذهن الوقاد، والذاكرة الواعية، والقدرة على الاستنباط والموازنة والتحليل والتعليل والنقد، مع غاية في التدقيق، وبراعة في التمحيص والتحقيق، ونفس سمحة تميل إلى التيسير لا التعسير، والتسهيل لا التعقيد، فكان ثمرة ذلك كله تلك الكتب الأصيلة النافعة، التي جمعت بين أصالة القديم، ونصاعة الجديد، والتي شرقت وغربت، واستفاد منها الداني والقاصي في العالم الإسلامي على امتداده، استفاد منها رجال الفقه، ورجال القانون، بل ورجال السياسة، ورجال الدعوة) إ.هـ.

ثانياً: التمييز بين المتشابهات، وإدراك الفوارق الدقيقة بين الأشياء:

لأن هناك كثيراً من الذين يحفظون لا يفهمون، بل ربما إذا طلبت منه شرح بعض ما يردد تراه عاجزاً عن ذلك، لأنه فقد خاصية التمييز بين المتشابهات، التي تحتاج إلى غوص في أعماق النصوص، وفهمها بدقة، وإعمال فقه الموازنة فيها، وفي كثير من الأحيان يكون الفرق بين صورة وأخرى شعرة، ولكن يحتاج هذا إلى من يدرك هذا ويستوعبه.

يقول الدكتور القرضاوي في مقدمة الفتاوى ص 8: (قد يختلف بعض العلماء مع الشيخ فيما انتهى إليه من نتائج وأحكام، ولكن لا يمكن أحدهم أن يشك في أصالة ملكته الفقهية، وقدرته على التأصيل والتفريع، وبراعته في المناقشة والاستدلال، فهو لا شك فقيه الأمة في هذه المرحلة: فقيه في فهم النصوص، فقيه في فهم المقاصد، فقيه في فهم الواقع.

والحقيقة أني رأيته نسيج وحده في فقه الواقع – ولا سيما في المعاملات- وله بصيرة متميزة في التمييز بين المتشابهات وإدراك الفوارق الدقيقة بين الأشياء التي يغفل عنها كثير من العلماء).

ثالثاً: التيسير، وعدم التعسير:

لكن بفقه دقيق، وفهم سليم، والتزام بأهداب الدين، تسهيلاً على الناس، وأخذاً ببعض الرخص التي تحمي الأمة من الانزلاق، وإعمالاً لمنهج الفقه الذي تأخذه الأمة كل الأمة، مراعياً بذلك الضعف العام، (عموم البلوى) وتنوع الناس، وتفاوت القدرات والاحتمال.

وتيسيره لا يعني مغالبة النصوص، أو الخروج عنها، أو التفلت من الحكم الشرعي المجمع عليه، أو الواضح الجلي، كل ذلك لم يكن، وإن اتهمه بعض الناس بالتساهل.

يقول القرضاوي في مقدمة الفتاوى ص 9: (ولقد رأيت بعض الناس –سامحهم الله- يتهمون الشيخ بالتساهل في الدين، ونسي هؤلاء أن هذا الذي يسمونه [التساهل] هو [التيسير] الذي أمرنا به نبيّنا -صلى الله عليه وسلم- فقاال فيما رواه عنه أنس – رضي الله عنه-: ((يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا)) [متفق عليه] وقد قال لأبي موسى ومعاذ – رضي الله عنهما- حين أرسلهما إلى اليمن: ((يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا)) وكأن شيخنا -رحمه الله- قد جعل نصب عينيه تلك الكلمة المضيئة التي قالها الإمام سفيان الثوري – الذي انعقدت له الإمامة في الفقه والحديث والورع- رضي الله عنه، ونقلها عنه الإمام النووي في مقدمات المجموع: ((إنما الفقه الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد)) وأود أن أنبه على أن هناك فرقاً كبيراً بين التيسير لدى بعض العلماء المعتبرين، والتسيب لدى بعض الدخلاء على العلم، فالتيسير له أسبابه، وله أصوله وقواعده، وله شروطه وضوابطه، أما التسيب فليس له أصول وضوابط، إلا اتباع الهوى، ومجاراة العصر، والعمل على إرضاء الخلق، ولو بسخط الخالق).

رابعاً: سلاسة الأسلوب، والبعد عن التعقيد اللفظي أو المعنوي:

ولا شك أن هذه ميزة عظيمة لمدرسة الزرقا، ذلك لأن بعض الكتاب أو الشارحين، أصابهم ولع باختيار العبارات الغامضة، والألفاظ المعقدة، والتقسيمات والأنواع التي ربما لا يفهمها كبار العلماء، وظن هذا الصنف بأن الأمر إذا كان على هذه الصورة، فإنه يمثل حالة الأصالة والقوة والبعد عن السطحية وهذا خطأ.

نعم نريد عمق العبارة وعلميتها، ولكن دون تعقيد، يقول د/ القرضاوي في مقدمة الفتاوى ص14: (ومن حسنات الشيخ الزرقا في فتاويه هذه – بل في سائر كتبه– أنه كتبها بأسلوب الأديب الضليع، واللغوي البليغ، فتجد فيها السلاسة والجزالة، والإبانة والفصاحة، بعيداً عن وعورة المصطلحات، وتعقيدات المتأخرين من المصنفين، وألغاز المتون، التي حاول أصحابها أن يضعوا فيها أهم مسائل العلم بأسلوب البرقيات، بل أخصر، وكم للشيخ من عبارات أنيقة وصياغات رائعة، وتشبيهات معبرة، وأمثال موضحة، تقرب المعنى البعيد إلى النفوس، وتظهر المعقول في صورة المحسوس، وهذا لا يقدر عليه إلا عالم متمكن، ثم هو أديب وشاعر).

انظر إلى قوله في حكم التهرب من ضريبة الدخل: (فالضرائب بوجه عام إذا كانت عادلة في فرضها وجباتها وإنفاقها: لا يجوز شرعاً في نظري أن يتهرب المكلف منها، وإلا لَتوقف عمل الدولة، وقعد الجمل عن الحمل! وقديماً قالوا: إن السفينة لا تمشي على اليبس!! ولكن يبدو في حياة البشر: أن النظريات شيء، والواقعيات شيء آخر).

خامساً: اتباع الدليل، ونبذ التعصب المذهبي والجمود:

الأصل في العالم خاصة والمسلم عامة، أن يتمسك بدين الله تعالى من خلال العض بالنواجذ على كتاب الله تعالى وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- والإجماع والقياس.

وجهود الأئمة في فهم الأدلة واستنباط الأحكام منها، كون جملة من المدارس والمذاهب الفقهية التي تقبلتها الأمة من حيث العموم بقبول حسن، ونظرت إليها نظرة تفاؤل وإيجاب، وصارت الأمة تنهل من معينها، وتتفقه على أصولها وفروعها، ويتعاملون معها على أنها ثروة عظيمة، لها مكانتها الكبرى في البحث الفقهي والفتوى، مع التأكيد على أنه لا عصمة إلا للكتاب والسنة، وكل يؤخذ من كلامه ويرد عليه إلا المعصوم -صلى الله عليه وسلم-، وإذا صح الحديث فهو مذهبي. إلا أنه طرأ على هذا الأصل أمران قاتلان:

الأول: التعصب المذهبي: الذي أدى في مجموعة من صور، إلى كوارث وطامات، فتحول الخير إلى شر عند هؤلاء المتعصبين الذين جاؤوا (بالدُّبّ إلى كَرْمِهِمْ)، فأساؤوا كثيراً، وأدخلوا إلى ثقافتنا ما لا يمت إليها بصلة.

الثاني: الجمود وإغلاق باب الاجتهاد مطلقاً: فتعطلت الجهود، وقبرت المواهب، وحرمت الأمة من خير كثير، وطاقات مبدعة، فأدى هذا إلى شيوع لغة (استرجاع الماضي) (والوقوف على الموجود) حتى صار الأمر مسلماً به لدى بعض كبار الباحثين من أنه (لم يبق الأول للآخر شيئاً)، وهذه طامة وإعاقة.

والعلامة المترجم له، رغم أنه ينتمي إلى مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى - بحكم النشأة والدراسة والبيئة والعائلة- إلا أنه لم يكن متعصباً للمذهب، بل كان يحب كل الأئمة ويثني عليهم، ويذكر محاسنهم، ويعتبرهم خيراً وبركة، ويتعامل مع الفقهاء القدامى والمحدثين بروح واحدة، على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم.

كما أنه لم يكن جامداً على نقول المذهب، بل نظر إلى كل المذاهب بمنظار الفقيه المحقق الذي يبحث عن الراجح من أقوال أهل العلم، من خلال إعمال قواعد الترجيح عند الأصوليين، فتراه في كثير من الأحيان – لهذه المنهجية المتحررة من الجمود والتعصب- يرجح غير مذهبه، وهذا غاية الإنصاف، ومنتهى المطلوب من الناحية العلمية الشرعية.

يقول الدكتور القرضاوي حفظه الله تعالى: ((والشيخ الزرقا وإن كان من فقهاء الحنفية المعدودين – بحكم النشأة والدراسة- ليس من المتعصبين للمذهب الحنفي، فكثيراً ما يخرج عليه إذا رأى غيره أرجح من ناحية الدليل، لمراعاته للنص، أو لتحقيقه مقاصد الشرع، ومصالح العباد.

وهو يرى أن الشريعة لا يمثلها مذهب واحد، وإنما يمثلها مجموع المذاهب والمدارس الفقهية على اختلاف مشاربها، وتعدد مسالكها، كما يتجلى ذلك بوضوح في عدد من فتاويه، وهو يرى أن العصبية المذهبية سجن ضيق في جنة الشريعة الفيحاء))إ.هـ.

سادساً: فقه الواقع (والمعاصرة):

لم يعش العلامة الزرقا رحمه الله منطوياً على ذاته، أو معتزلاً في معتكفه، أو تاركاً الحياة في زاوية من زوايا الإهمال.

ولم يقتصر على كتب الماضي والمشكلات القديمة، ونوازل الأعصر السابقة، كما يفعل بعض الشيوخ الذين لا يعيشون عصرهم، ولا يفقهون واقعهم، ولا يدرون ما يدور حولهم، فإذا خطبوا أو كتبوا، فكأنهم – وهم في القرن الرابع عشر الهجري- في القرن الثامن أو التاسع أو العاشر.

العلامة الزرقا، هضم ثقافة العصر من خلال الدراسة النظامية، إضافة إلى دراساته الفقهية المتعمقة على الشيوخ الكبار من أمثال والده وجده.

حصل على إجازة الحقوق والآداب من الجامعة في عام واحد، كان يتقن اللغة الفرنسية تحدثاً وكتابة، ويجيد اللغة الانجليزية، ويعرف شيئاً من اللغة الألمانية، وهذه المعرفة لهذه اللغات جعلت حضوره العالمي واضحاً وجلياً ونافعاً، ورحلت به إلى العالمية، ومن ضمن المؤتمرات التي حضرها:

- في عام 1937م حضر مؤتمر (الحقوق المقارنة) في لاهاي عاصمة هولندا، وكان لحضوره أثر فاعل.

- في عام 1948م انعقد في باريس مؤتمر المحامين الدولي، وانتهى المؤتمر إلى نتائج مهمة كان لحضور الزرقا دور مهم.

- وفي عام 1951م عقدت شعبة الحقوق الشرقية من (المجمع الدولي للحقوق المقارنة) في كلية الحقوق من جامعة باريس للبحث في الفقه الإسلامي تحت اسم (أسبوع الفقه الإسلامي) برئاسة المسيو ميليور Millior أستاذ التشريع الإسلامي بجامعة باريس، وكان لحضور الزرقا أكبر الأثر في لفت الأنظار إلى أهمية الفقه الإسلامي، وسعة الشريعة ومرونتها، وصلاحها لكل زمان ومكان.

- حضر كثيراً من المؤتمرات، وهو عضو في عدد من المجامع العلمية والفقهية، كان فيها الحاضر الأبرز.

- كان العلامة الزرقا من أكبر الدعاة إلى توجيه البنوك الإسلامية، ووضع أنظمتها في ضوء الشريعة الإسلامية، وكان ساعده الأيمن في ذلك ولده الدكتور محمد أنس الزرقا حفظه الله (المتخصص في الاقتصاد الإسلامي)، ومن الأمثلة على ذلك، أن الشيخ الراجحي صاحب المؤسسة المالية الضخمة في المملكة العربية السعودية، والتي تتعامل مع معظم المؤسسات المالية العالمية، ويشترك فيها آلاف المتمولين الحريصين على أن تكون معاملاتهم المالية ربحاً وخسارة على وفق الشريعة الإسلامية، قد أنشأ في مؤسسته مكتباً سماه (مكتب البحوث والدراسات) وجعل على رأسه العلامة الزرقا، وجعله مستشاراً دينياً لجميع المعاملات التي تجريها مؤسسته، فكان نعم المستشار المؤتمن.

- إضافة إلى هذه الكتابات الكثيرة التي كتبها بلغة العصر المفهومة المعلومة، حتى سهلها وجعلها في متناول الباحثين وطلاب العلم، وهذه ميزة تدلك على فقهه للواقع، ومعرفته باحتياجاته.

- قال الأستاذ عبد القادر عودة –رحمه الله تعالى- عن كتاب الزرقا (المدخل الفقهي العام): اعتصم الفقه الإسلامي من طالبيه في المتون، وتحصن في الشروح، واستعصى على طلابه في اللغة المغلقة، والأسلوب العقيم، وكان كل من له إلمام بالفقه الإسلامي، وكل من عانى من قراءة كتبه، يود أن توطأ للناس هذه الكتب حتى يتيسر لهم قراءتها، وتسهل عليهم دراستها، وحتى يستطيعوا أن يوازنوا بين الفقه الإسلامي العتيد، ذلك الفقه الغني بموضوعاته ونظرياته واصطلاحاته، المتميز بدقته وقوته، ليكون لهم من هذه الموازنة ما يزيد ثقافتهم، ويوسع آفاقهم، ويفتح أعينهم، ويوجههم إلى الطريق المستقيم.

وتابع يقول: لقد نقل الزرقا الفقه الإسلامي بخطوة واحدة جبارة من العصر العباسي إلى عصرنا الحديث، فإذا هذا الفقه الغني القوي الذي كان ملتفاً في ثوبه العتيق القديم يخرج على الناس في ثوبه الجديد فتيّاً مشرقاً، يزاحم الفقه كله بمنكبيه، ويعلن للناس أن فقه الإسلام هو الفقه، وأن شريعته هي الشريعة، وأن ما اختاره الله للناس هو الخير للناس لو كانوا يعلمون.

يضاف إلى كل ما سبق، محور من أبرز محاور المعاصرة، وفهم الواقع، هذا المحور هو محور الدعوة إلى الله تعالى، فحمل همها، ولقي كثيراً من قادة الدعوة إلى الله تعالى، وكان يشاورهم في شأن الدعوة، فيساند، ويسدد، وينصح، ويرشد، ويساعد، وتهفو نفسه إلى كل جميل إيجابي، فيرتاح له مباركاً، ويؤلمه أي خلل يحصل فيسده ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، بالحكمة المعهودة، وأسلوبه الذي يجمع بين المتانة وقوة التأصيل إلى جانب الهدوء وضبط النفس، فيكون محل قبول السامعين، والموجهة إليهم النصيحة.

فالعمل الإسلامي، واحد من مفردات البناء، في شخصية علامتنا الزرقا، متمثلاً قول القائل: (من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم).

*****

وبعد حياة مديدة، مليئة بالعطاء والبناء، وحافلة بالجهاد والعمل الدؤوب، يرحل عنا العلامة الزرقا في مدينة الرياض عصر يوم السبت:

19ربيع الأول 1420هـ

الموافق 3 تموز 1999م.

رحمه الله تعالى رحمة واسعة، ونسأل الله تعالى أن يتقبله في العلماء الصالحين، وأن يدخله جنات النعيم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، آمين اللهم آمين.

الخاتمة:

العلامة الزرقا ليس معصوماً، بل يخطئ ويصيب، ويؤخذ منه ويرد عليه، ويساند ويؤيد، كما أنه يخالف ويعارض ويتعقب، وهذا لا ينقص من قدره، ولا يقلل من شأنه، بل مثاب وله أجران إن أصاب، وأجر واحد إن أخطأ، مصداق هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه البخاري ومسلم: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب، فله أجران، وإن حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر)) وهذا منهج أهل الحق من أهل العلم المعتبرين، على مر العصور، وكرّ الدهور، خالف في هذا أهل البدعة الذين يقولون بعصمة الأئمة، وأهل العصبية الذين يعطون صفة العصمة لكن بصورة مبطنة، ومغلفة بأغلفة ما أنزل الله بها من سلطان، وهذا الأمر من الكوارث التي جرت علينا الويلات.

- يقول العلامة الزرقا في (المدخل الفقهي العام 8/2): ((وفهم كل فقيه مهما علا قدره يحتمل الخطأ والصواب، لأنه غير معصوم، فالفقه هو فهم الفقيه ورأيه، ولو كان مبنياً على النص الشرعي، وهو قابل للمناقشة والتصويب والتخطئة، ولكن التخطئة تنصرف إلى فهم الفقيه لا إلى النص الشرعي، ومن ثم اختلفت آراء الفقهاء، ورد بعضهم على بعض)).

من هنا، فإن الناس انقسموا إلى فريقين أساسيين في شأن اجتهادات العلامة الزرقا:

- الفريق الأول: رأى فيها من حيث العموم أنها آراء وفتاوى واجتهادات قوية ومؤصلة وعصرية وشرعية، مليئة بالأدلة الشرعية، والمقاصد الربانية، والقواعد الفقهية، وفقه الواقع، لكن من غير عصمة، ولعل من أبرز هؤلاء العلماء العلامة القرضاوي حفظه الله تعالى، كما أن الفريق لا يرى بأسا أن يخالف الزرقا، كما حدث في بعض المسائل المعاصرة، في بعض المجامع الفقهية.

- الفريق الثاني (وهم قلة): هاجموا هذه الآراء بعنف، حتى وصلوا إلى التهمة بالتساهل رغم أن بعض هؤلاء من العلماء.

وأما أن يردوا عليه ويتعقبوه، ولا يأخذوا ببعض آرائه، فهذا حق لا يماري فيه إلا جاهل أو متعصب، وهو من إثراء الفقه والفتوى والاجتهاد، فلا نريد من علمائنا أن يكونوا نسخة واحدة في الأمور والمسائل كلها.

أما الثانية فلا، لأنه يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه من مسائل الاجتهاد، التي يكون الإنكار فيها ليس سائغاً، وقديماً قالوا: خلاف الرأي لا يفسد للود قضية، وأدب الخلاف من لوازم الخلق الإسلامي.

والعلماء من الصدر الأول إلى يومنا هذا، يختلفون، ولكن لا يتهمون، فإن إشاعة خلق إحسان الظن بالمسلم عامة، وبالعالم العامل خاصة أمر مطلوب من الناحية الشرعية.