الفقيه الحنفي الشيخ محمد الملاح رحمه الله

 

 
 
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا، محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد:
 الشيخ محمد الملاح: فقيه مفسر حافظ لكتاب الله عز وجل، شيخ الحنفية بحلب بلا منازع، أسمر قصير القامة طوله 165سم , لحيته قصيرة لا يحف شاربه, يلبس الطربوش الأحمر ويلف عليه عمامة بيضاء، وجبته ما بين الغامق والفاتح.
 
ولد العلامة الشيخ محمد الملاح رحمه الله سنة 1328هـ 1910م، وكان والده خادماً لمقام النبي زكريا عليه السلام في الجامع الأموي، وكان الشيخ يقطن في حي باب النيرب ثم انتقل الى حي المحافظة فيما بعد ،وهذا يدل على يسر حاله المادي إذا لا يقطن في ذلك الحي إلا من وسّع الله عليه، وكان الشيخ يمشي على قدميه من المحافظة إلى الجامع الكبير، وإلى الخسروية، ولم يكن يتخلف عن درس قط، ولم يكن يستعمل وسائط النقل العامة، وكان مثالاً يحتذى في دقة المواعيد.
 
دفع به والده إلى الكتاتيب لتعلم القرآن الكريم، ثم اتصل بالشيخ أحمد الأبوتيجي، وأخذ عنه القراءات، وبدأ يتعلم الفقه على الشيخ أحمد الزرقا رحمه الله، وقرأ عليه حاشية ابن عابدين في ثلاثين سنة، وكان يستحضر نصوصها، ولا يكاد يفوته منها شيء، وأجازه الشيخ بالحاشية وبكل مروياته، كذلك أخذ الفقه الحنفي عن الشيخ المفتي أحمد الكردي صاحب الفتاوى الحلبية جد الشيخ الدكتور أحمد الحجي الكردي.
  انتسب إلى الكلية الشرعية الخسروية، وتتلمذ على شيوخ كبار فيها، ومن أبرز شيوخه في الخسروية: مؤرخ حلب الشهباء الشيخ محمد راغب الطباخ الذي كان يدرس آنذاك الحديث والمصطلح والتاريخ، وقرأ على الشيخ مختصر صحيح البخاري وشمائل الترمذي، ومن أساتذته في الخسروية: الشيخ أحمد الشماع ت 1953م الذي قرأ عليه التفسير، وأخذ التوحيد من الشيخ فيض الله الأيوبي، وأخذ الفرائض عن الشيخ عبد الله المعطي، وأما علوم العربية في النحو والفقه والبلاغة فقد أخذها عن الشيخ محمد الناشد، والشيخ عبد الله حماد، ومن شيوخه أيضاً والد الشيخ عبد الرحمن زين العابدين ، والشيخ محمد السلقيني ، والشيخ سعيد الإدلبي رحمهم الله جميعا.
 كان الشيخ من المتميزين ومن المثابرين على طلب العلم، وكان له جلد على طلب العلم والقراءة وقد أوتي فهماً وذكاءً، و ويقول عنه الأستاذ أحمد تيسير كعيد في كتابه (موسوعة الدعاة والأئمة والخطباء في حلب): كان كثير المطالعة والقراءة، فكان يقرأ الفقه والحديث والتفسير، ويكثر من قراءة الشعر وخاصة ديوان المتنبيّ، فلقد كنت أراه مواظباً على قراءته بشروحاته المتعددة في المكتبة الوقفية وحين سألته عن السبب؟!! قال: لا يمكن أن تتقن اللغة العربية إلا بإتقان أساليبها من صور واستعارات ومحسنات بديعية, وتشبيهات.. والمتنبي أحسن وأجاد. ا.هـ
 تخرج الشيخ في الخسروية سنة 1951م ، ثم انتقل إلى دمشق مع ثلة من طلاب العلم من خريجي الخسروية، والتحقوا بكلية الشريعة في جامعة دمشق، وقد عني أساتذة الجامعة بطلاب الخسروية، وأولوهم اهتماماً خاصاً لما تتمتع به الخسروية من مكانة علمية مرموقة، وتتلمذ الشيخ على علماء دمشق في الجامعة ،كأمثال الشيخ مصطفى السباعي، ومحمد المبارك، ولا سيما الشيخ الفقيه مصطفى الزرقا، وتعلق بالشيخ الزرقا ولعل اهتمامه بالفقه الحنفي يعود لتعلقه بالشيخ الزرقا ولأبيه من قبل، ولاعتقاده أن الفقه الحنفي يتعامل مع الواقع بصورة إيجابية، ويعالج أمور العباد بواقعية، واستفاد الشيخ كذلك من بقية العلماء وكان كثير النقاش لأساتذته وشيوخه في الجامعة.
 شخصية الشيخ وصفاته
  كان الشيخ ممن يعظّمون شعائر الله سبحانه وتعالى, وكان يقطع الدرس عند الأذان، ويقف على قدميه احتراماً للأذان ، ويأمر طلابه بالوقوف عند الأذان، وينسب ذلك إلى المذهب الحنفي، وكان يحضُّ الأساتذة الآخرين على هذا الفعل، وينكر على الأساتذة في الصفوف الأخرى عندما يسمع أصواتهم وقت الأذان، وكان يجلّ أهل العلم، وكان يحث بشدة على تقبيل أيدي أهل العلم والفضل، وربما يجعل ذلك من الواجبات، ولم يكن يرغب بالنقاش والجدال وكثرة السؤال، ويغضب إذا انتهكت حرمات الله عز وجل ، وكان الشيخ يتمتع بشخصية قوية، وكان عنده اعتداد بالنفس ، ومن القصص الطريفة التي رواها الشيخ عن نفسه أنه ذهب بجبته وعمامته للتدريس في إحدى المدارس وكانت هي الزيارة الأولى للمدرسة، ولم يكن الطلاب قد عهدوا مثل هذا الزي فضحكوا لمنظر الشيخ! فأراد الموجه تهدئة الطلاب وتأنيبهم، فقال للطلاب: اسكتوا ولا تضحكوا من أي شخص كائناً من كان، فانزعج الشيخ من قول الموجه، ثم قال له: أنا دخلت الصف فعد أنت إلى عملك، وبأسلوب الشيخ الغضوب مع ضبط للنفس سيطر على الموقف واحترمه الطلاب، ويقول الشيخ: لو ألقيت إبرة على الأرض لسمع صوتها، ويقول الشيخ: وتركت الكلام الكثير للموجه، فعدت إليه بعد الدرس، وعملت له اللازم، ثم قال له: كيف تقول (كائناً من كان)، واعتبر الشيخ أن هذه الكلمة إساءة لشخصه.
 عمله في التدريس:
 بعد تخرجه في جامعة دمشق أوفد الشيخ للدراسة في جامعة الأزهر، لكنه لم يتمّ دراسته فيها، فعاد إلى حلب وأقبل على التدريس في المدارس العامة ، ودرّس الفقه الحنفي في الشعبانية، ودرّس في المدرسة الخسروية الفقه الحنفي ومصطلح الحديث والتجويد، وكان له اهتمام بالغ بطلاب الخسروية، وقد تأثر الشيخ لإلغاء المبيت الداخلي في المدرسة في الستينيات، فقد كان لإلغائه سلبيات كثيرة لأن الطالب في المبيت يكون متفرغاً للدراسة والتحصيل بشكل كلي، وإلغاء المبيت سبب عبئاً على الطالب القادم من الريف ولا سيما الطالب غير الميسور الحال، وكان يقول الشيخ: بعض الطلاب يوفرون على أنفسهم شيئاً من المال حيث أن بعضهم يبيع ما يفضل عن حاجته من طعام ولا سيما المأمونية، وبهذا العمل قطعوا مورداً من موارد الرزق على الطلاب.
 وكان الشيخ ينكر على إلباس الطلاب العمائم والجبب في سن مبكر لتصدرهم للإمامة والخطابة في المساجد في زمن مبكر ، ولصدور بعض التصرفات من الشباب اليافعين وهم في سن ميال للهو واللعب، فكان يرى في ذلك إساءة للباس الشرعي لعدم نضوج شخصيتهم، وقد رؤي الشيخ ذات مرة منزعجاً لما رأى أحد الفتية المعمَّمين يؤم الناس في أحد المساجد وجهر بالتعوذ في الصلاة، فقال : هذا يدل على جهل الطالب في بدهيات الفقه فكيف لمثله أن يؤمَّ الناس؟!!.
 دروسه العامة في المساجد:
 كان الشيخ خطيباً في جامع القرناصية ثم العثمانية، وكانت له عدة حلقات علمية مسجدية، ومن أهم هذه الدروس : دروس الجامع الكبير، وأكثر الحضور من تجار سوق المدينة والسويقة، حيث كان يدرّس فيه حاشية ابن عابدين في الفقه الحنفي، وكانت له غرفة في الجامع الكبير يقرأ فيها بالصيف الحاشية من بعد صلاة الفجر إلى صلاة الظهر، وفي الشتاء يقرأها في الحجازية، وكتب الشيخ تعليقات كثيرة على الحاشية، وهي لا تزال مخطوطة لم تبصر النور بعد، ومن دروس الجامع الكبير :كان له درس في تفسير البغوي، وله درس آخر في جامع العثمانية في يوم الجمعة، وكان هو شيخ المدرسة البهائية، وكانت له غرفة خاصة فيها، وكان يجلس عنده في البهائية الأستاذ أحمد مهدي الخضر رحمه الله، وكان معجباً به وشهد له بأنه يستظهر عن ظهر قلب متن تنوير الأبصار للتمرتاشي رحمه الله ت1004ه.
 علاقته بشيوخ حلب:
 كانت علاقته بالمشايخ متوترة، وكان الشيخ انطوائياً على نفسه ربما يعود هذا لاعتداده بنفسه وبعلمه، وكان يحزُّ في نفسه أن يتصدَّر بعض المشايخ المتصوفة في حلب ممَّن ليس لهم علم، وأن تكون لهم الشهرة، ولكن بالمقابل كان يجل الشيوخ من أهل العلم والفضل كالشيخ عبد الرحمن زين العابدين ،ويعتقد أنه هو على شاكلته، وأنه عالم موسوعي، وأنه مغموط حقه لكونه لم يعرف بتصوفه فلم يشر إليه بالبنان بين مشايخ حلب، وكان الشيخ عبد الرحمن يبادل الشيخ الملاح ذات الاحترام فكان الشيخ الملاح يعتز باحترام الشيخ عبد الرحمن له إذ لم يعهد عن الشيخ عبد الرحمن المجاملة للأشخاص.
 كان الشيخ الملاح يكثر من ذكر الشيخ أحمد الترمانيني، والشيخ سعيد الإدلبي، والشيخ مصطفى الزرقا وقد توطدت العلاقة بينهما كثيراً، وكان الشيخ الزرقا يستفتي الشيخ الملاح في المسائل الفقهية الدقيقة عن طريق المراسلة, والشيخ نجيب خياطة، وكان الشيخ أحمد ابن الشيخ سعيد الإدلبي يجل الشيخ، ويحاول أن يقبّل يد الشيخ الملاح، فكان الشيخ يرفض أن يعطيه يده.
 ومما أثر عن الشيخ رحمه الله أنه لم يكن يرغب لطلابه أن يحضروا عند غيره من الشيوخ لا سيما إذا كان الشيخ الآخر شافعياً، بل ربما يعنف ويؤنب الطالب إذا حضر عند غيره، وإذا أراد أحد طلابه الحضور عند غيره يحاول كتمان أمره حتى لا يعاقب بمقاطعة الشيخ له وتأنيبه وأمثل على ذلك بحالتين:
 الأولى: كان الشاب الشهيد جمال الدين الأشرفي - تقبله الله -من طلاب الشيخ في الخسروية، وهو من أخص تلاميذه في الجامع الكبير أيضاً، ويقوم على خدمة شيخه، فتغيب ذات مرة عن درس الشيخ وحضر عند شيخ آخر فغضب منه الشيخ وقاطعه فاجتهد جمال الدين كثيراً لإرضاء شيخه وقبّل يده عدة مرات حتى رضي عنه على مضض.
 والحالة الثانية: حصلت مع الشيخ محمود ميرة حفظه الله كما يرويها هو في مقابلة له مع الشيخ مجد مكي حفظه الله نشرت على موقع الرابطة، فيقول الشيخ: بعد عام 1952 صرت أقرأ على أربعة مشايخ في آن واحد، فقد كنت أدرس الفقه الحنفي على الشيخ محمد الملاح من حاشية ابن عابدين فقد قرأ لي المجلد الأول والثاني، وبدأنا بالثالث من كتاب البيوع، وبعدها حدثت قصة أخذها علي وصرفني من الدرس، ويذكر الشيخ القصة فيقول: حصلت لي مشكلة مع الشيخ الملاح رحمه الله تتلخص في أني كنت أقرأ عند الشيخ عبد الفتاح مع بعض زملائي كما تقدم، وعند غيره، وما أدري من نقل له أني كنت أقرأ خارج الدراسة عند بعض الأساتذة ، فقد قالوا له: إننا نحضر درس الشيخ عبد الله سراج الدين في جامع بانقوسا، فجئت أنا إلى المدرسة وأنا الإمام والمؤذن في المدرسة البهائية فرأيته ينتظرني لأصلي المغرب، فقلت له: خير إن شاء الله، فقال: أنت تحضر درساً للحديث عند غيري، ولا يجوز لك أن تروي الحديث حتى تبلغ سنَّ كذا، ولا يجوز لك أن تقرأ بقية المتون حتى تبلغ سن كذا، وأتى بنصوص من كتاب كان يحمله وقرأه لي ثم قال في الأخير: نستفتي الشيخ مصطفى الزرقا في هذا , وفي اليوم الثاني جاء الشيخ مصطفى الزرقا إلى الجامع الأموي وأفطر عنده ،وسأله فقال لي الشيخ الزرقا بيني وبينه :أنت تريد أن تستفيد من الشيخ الملاح أم لا تريد؟ قلت: بل أريد قال: لا تقل له أقرأ على أحد، قلت له : أنا لم أقل له شيئاً لكن لا أدري من أين عرف، والشيخ الزرقا كان حكيماً وعاقلاً، والشيخ الملاح يعد الشيخ مصطفى شيخه، وكان له حظ عند الشيخ أحمد الزرقا والد الشيخ مصطفى ويستفاد منه والشيخ مصطفى كان يحترمه إكراماً لوصية والده الشيخ أحمد به، فكان يحترمه ويداريه لأنه يعلم عقليته والشيخ قال لي: عقليته صعبة وكانت بعض كتب الشيخ أحمد الزرقا التي علق عليها بخط يده كانت عند الملاح يقرأ لنا فيها منها: حاشية ابن عابدين، وكانت محشّاة بخط الشيخ أحمد وهي نسخته الخاصة، وكانت عند الملاح وهي الطبعة البولاقية من القطع الكبير، وبعده أوصانا الأستاذ الزرقا أن نسايره ولا نخبره بشيء يتعلق بدراستنا عند غيره.
 تلاميذ الشيخ:
 تتلمذ على يديه الكثير من طلاب العلم أذكر منهم: الشيخ الأستاذ الفقيه فوزي فيض الله، والشيخ المحدث محمود ميرة ، والأستاذ الكبير أحمد مهدي الخضر رحمه الله، والدكتور الفقيه أحمد الحجي الكردي، والشيخ فاروق عتقي، والشيخ محمد عبد المحسن الحداد، والشيخ عاكف علبي مدير الخسروية السابق، والأستاذ المهندس محمد عادل فارس ،والدكتور عبد السلام الراغب أستاذ البلاغة في جامعة حلب، والأستاذ عدنان كاتبي، والمؤرخ والمترجم محمد فوزي يوسف فرّج الله عنه، وإبراهيم درويش، وطعمة طعمة، والدكتور صهيب الشامي مدير أوقاف حلب السابق، ومفتي حلب الدكتور محمود عكام، والشيخ محمد مجاهد شعبان رحمه الله، والشيخ نوري إبراهيم الكردي، والطبيب محي الدين حمو المقيم حالياً في ألمانيا، والشيخ علاء الدين القصير مدير الخسروية وأخوه الشيخ محمد القصير، وشاعر الخلافة الإسلامية الأستاذ يوسف عبيد المنبجي رحمه الله، والدكتور فاروق بطل الأمين العام لرابطة العلماء السوريين، وأحمد محب الدين أبو صالح، والشهيد جمال الدين الأشرفي تقبله الله، والشيخ أحمد تيسير كعيد المفتش الديني في مديرية أوقاف حلب سابقاً، وغيرهم كثير.
 وفاته:
 بقي الشيخ مواظباً على التدريس والعطاء إلى أن أصيب بشلل نصفي، فأقعده المرض، وتوفي رحمه الله سنة 1408هـ، 1987م، ووري ثراه في مقبرة الصالحين عليه من الله الرحمة والغفران.
  حررت الترجمة في 17شوال 1434هـ
نشرت 2013 وأعيد تنسيقها ونشرها 10/2/2020