الغوطة في فم البركان

 

 

 -1-

 أرى خَلَلَ الرماد وَميضَ جمر   ***   ويوشك أن يكون له ضِرامُ

فإنّ النارَ بالعودَين تُذكَى   ***   وإن الحرب مَبدؤها كلام

فإنْ لم يُطفِها عقلاءُ قوم   ***   يكون وَقودَها جثثٌ وهام

 

هذه أبيات حفظها التاريخ من رسالة أرسلها نصر بن سيّار، آخر ولاة الأمويين على خراسان، إلى مروان بن محمد، آخر خلفاء بني أمية في المشرق، حينما أحس بالخطر القريب والانفجار الوشيك. ولو أن مروان أصغى ووعى لتغير التاريخ، ولكن قضاء الله مضى ولم يَرجع للنداء صدى، فطُويت رايةٌ ونُشرت راية وبادت دولة وسادت دولة. فهل سيجد هذا النداء في عقلاء الغوطة اليومَ سامعين؟

 

-2-

 

التظاهر حق مشروع لكل المواطنين في سوريا الحرة، الآن وفي كل آن، وهو من أهم أدوات المقاومة السلمية التي يملكها الناس لإيصال صوتهم والتعبير عن أنفسهم ولحصار الخطأ والأخذ على أيدي المخطئين، فلا يحق لأي شخص كان مصادرة هذا الحق لأي سبب كان.

 

ولكن لننتبه إلى أمر مهم: إن التظاهر أداة من أدوات التعبير والتغيير، وكل أداة يمكن أن تُستخدَم في الخير والشر، فالسكين التي يُذبَح بها خروف العيد هي السكين التي قطعت بها داعش رؤوس كرام المجاهدين. أفلا يمكن -إذن- استثمارُ المظاهرات في الشر والتخريب؟

 

بلى. فإذا كانت كذلك فهل يحق للسلطة التنفيذية منع التظاهر لدفع المفاسد المحتمَلة؟ لا، لا يجوز، وإلا لفقد الناس أهم أداة من أدوات التغيير السلمي ولم يبقَ لهم إلا خياران: الرضا عن الخطأ والقَبولُ بالاستبداد، أو استعمالُ القوة واللجوءُ إلى الإصلاح بالسلاح، وعندئذ سنقع في ضرر أكبر وندفع المفسدة المحتمَلة بمفسدة محقَّقة.

 

-3-

 

إن غاية ما يُطلَب من السلطة التنفيذية هو الحيلولة دون تحول المظاهرات إلى أداة تخريب وإفساد، فيُمنع المتظاهرون من حمل السلاح، ولا يسمح للمظاهرات بالاعتداء على الأملاك الخاصة والعامة ولا على جماعات وأفراد الناس، ولا يُسمَح لها بإهانة قيم الأمة ومقدّساتها أو الاجتراء على حرمات الله.

 

كما كان لأحرار سوريا الحق في الثورة على تجاوزات النظام فإن لهم الحق في الثورة على تجاوزات الفصائل؛ من حقهم أن يتظاهروا في الغوطة وفي إدلب وفي حلب، فيهتفوا ضد فيلق الرحمن أو جيش الإسلام أو جبهة النصرة أو الجبهة الشامية، ومن حقهم أن ينتقدوا قائد هذا الفصيل وذاك وأن يطالبوا بمحاسبة المخطئين ومعاقبة المفسدين، ولكن ليس من حقهم أن يعتدوا على أحد أو يحوّلوا الانتقاد إلى شغب وتخريب.

 

-4-

 

اختلط الحق بالباطل في مظاهرات الغوطة، ففي المتظاهرين من ينتقد الخطأ ويسعى إلى رفع الظلم، وفيهم من يستغل الاحتقان الناشئ عن الحصار لتحقيق أهداف آثمة. هؤلاء الآخَرون لا يريدون الخير للغوطة وأهلها بل يريدون تحقيق مآربهم وحماية مصالحهم والمحافظة على مكتسباتهم، وهم خليط من عملاء النظام وتجّار الحروب، التقت مصالحهم مع مصالح فصيل يريد أن يحقق مشروعه الخاص ولو على حساب استقرار الغوطة وأمن الناس.

 

فكيف يمكن فصل الحق عن الباطل في هذه المظاهرات، وكيف يمكن حماية الغوطة من عبث العابثين؟ الحل في أيدي أحرار الغوطة المخلصين العقلاء: مقاطعة المظاهرات المجهولة التي تحركها أيدٍ خبيثةٌ من وراء الستار، وترك الفئة المنتفعة لتخوض المغامرة منفردةً بلا ظهر ولا غطاء. وبعد ذلك ينظم الشرفاء الأحرار أنفسَهم ويحددون مطالبهم العادلة، وسوف يجدون معهم كثيراً من الأصوات الحرة التي تدعمهم وتقف معهم، فإن الحق يعلو ولا يُعلَى عليه والخير في الأمة كثير.

 

-5-

 

استمعنا أمس إلى الكلمة المخلصة التي أذاعها شيخنا وشيخ الجميع، الشيخ أسامة الرفاعي، ودعا فيها إلى الإسراع بتبييض السجون، بمعنى إطلاق الموقوفين الذين اعتُقلوا ظلماً ولم تصدر بحقهم أحكام قضائية، أو صدرت وتم تنفيذ العقوبة وبقوا في الاعتقال. وهي دعوة عظيمة خَيّرة ينبغي على المعنيين في الغوطة المسارعةُ إلى تنفيذها، فلا يجوز أن يبقى في السجون بريء، ويدخل فيها إطلاقُ سراح كل من تم اعتقاله أو توقيفه خلال الأيام القليلة الماضية على خلفية المظاهرات، إلا من ثبت أنه عنصر مدسوس من داعش أو النظام.

 

ويتبع ذلك القيامُ بإجراء حاسم طالما دعونا إليه وطالبنا به، وهو إغلاق جميع السجون الخاصة أو نقل الإشراف عليها من الفصائل إلى القضاء، ويشمل هذا الطلبُ سجنَ التوبة وغيرَه من السجون الفصائلية في الغوطة، فإما أن تُغلَق أو تسلّم إدارتها للمجلس القضائي الموحد.

 

وتنطبق هذه القاعدة المهمة على جميع السجون والمعتقلات الخاصة في المناطق المحررة، فقد أساءت هذه السجون إلى الثورة وقدمت صورة سوداء عن دعاة الحرية الذين هتكوها في معتقلاتهم، ومن شاء فليقرأ تقرير "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" الذي صدر قبل ستة أسابيع بعنوان "في انتظار العدالة: أبرز مراكز الاحتجاز التابعة للمعارضة السورية"، فإنه تقرير مؤلم يدفع المرء إلى التساؤل المرير: هل ثار الشعب السوري وقدم التضحيات الجِسام ليستبدل طاغية بطاغية وجلاداً بجلاد؟

 

-6-

 

أخيراً لا بدّ من حزمة إصلاحات تُضاف إلى ما سبق ويتم تنفيذها على وجه السرعة، لكي تحمي الغوطة من احتقانات أخرى في المستقبل وتحفظ لها استقرارها وتماسكها وأمنها، وتتضمن الإجراءات الثلاثة التالية:

 

1- إنهاء الفوضى الأمنية والقضائية التي سادت في الغوطة لوقت طويل والتي أباحت لأي فصيل اعتقال من يشاء في أي وقت يشاء! فلا يُعتقَل أحدٌ إلا بمذكرة قضائية صادرة عن المجلس القضائي الموحد حصراً، فهو الوحيد الذي يملك حق التوقيف والمحاكمة وتنفيذ الأحكام.

 

2- تشكيل لجنة مشتركة "مدنية عسكرية" لإدارة الأنفاق والإشراف على إدخال وتوزيع البضائع والمساعدات، على أن تضم ممثلين عن القيادة المشتركة والمجلس الإغاثي الموحد والمجالس المحلية.

 

3- تفعيل الإدارة المدنية للغوطة وإعادة هيكلة مؤسساتها السيادية -القيادة الموحدة والمجلس القضائي الموحد والمجلس الإغاثي الموحد ومجالس الإدارة المحلية- بحيث تصبح أكثرَ تمثيلاً للقوى الثورية والحاضنة السكانية، واعتماد مبدأ إلزامية الشورى على كل المستويات، فإن الشورى الملزمة هي الضمان الوحيد من الاستبداد، وكل تكريس لسلطة الفرد وتعطيل للشورى الملزمة إنما هو عودة إلى أيام الأسد، ولو اختلفت العناوين والألوان.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين