العلّامة النفاخ في ذكراه الثلاثين

تمهيد

بسم الله الرحمن الرحيم

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)

في الذكرى الثلاثين لوفاة شيخنا العلامة الأستاذ أحمد راتب النفاخ رحمه الله وغفر له، (وقد اختاره الله لجواره يوم الجمعة 11 شعبان 1412ه= 14/2/1992م) أودُّ أن أعيد نشر إحدى مقالاتي عنه؛ وكنتُ قد كتبتُ عنه أربعَ مقالات – إحداها لابنه الحبيب الأستاذ عبد الله النفاخ – وخصصتُه بما لا أحصي من المحاضرات والندوات واللقاءات والحوارات، كان آخرها تسجيل مساق كامل في برنامج مسارات الذي يعدُّه معهد المخطوطات العربية بالقاهرة.

وما أظنُّ أحدًا من أصحابه أو أصحابنا كتب ما كتبت، أو ذكر ما ذكرت، إذ ما يكاد مجلس من مجالسي العلمية يخلو من ذكر الشيخ والدعاء له، جزاه الله عنا خير الجزاء، ومعاذَ الله أن أمنَّ بهذا فهو جزء من حقِّه علينا معشرَ تلامذته.

وإن تعجب فعجبٌ أن يزعم أحد الحسَّاد المفترين - الذين ضنُّوا بكتابة أي كلمة عن شيخهم المفضال - أني أتمسَّح بذكر الشيخ وأتاجر باسمه، ثم يُمعِن في غَيِّه وضلاله فيزعم أني بعد هذه المتاجرة عُدت أسدِّد إليه سهام النقد انتقامًا منه، بعد أن أقصاني سنواتٍ عدة!!!

أيُّ انتقامٍ؟ وأيُّ نقدٍ؟ وأيُّ سمادير وأباطيل؟ بل أيُّ ظنونٍ يعيش فيها هذا الحسود الظَّنين بخياله المريض، ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾.

لقد صدق المتنبي إذ يقول فيه وفي أمثاله:

إذا ساءَ فعلُ المرءِ ساءَتْ ظُنونُه … وصدّقَ ما يعتادُه من توهّمِ

وعادَى محبّيهِ بقوْل عُداتِه … وأصبحَ في ليلٍ من الشّكّ مظلِمِ

وأنا لم أنكر أصلًا أن الشيطان قد نزغ بيني وبينه، بل أثبتُّ هذا في هذا المقال وغيره، لكن الذي أريد أن أؤكده اليوم هو أني ما قصدت بعبارتي شيطانًا من شياطين الجن، بل قصدتُ هذا الشيطانَ بعينه من شياطين الإنس، فهو الذي كان يسعى في الإفساد بيني وبين شيخي إلى أن تمَّ له ما أراد، ثم هو اليوم يحاول أن يكمل سعيه وأن ينزَغ بيني وبينه ميْتًا كما نزَغَ بيني وبينه حيًّا!

خاب سعيه.. وعليه من الله ما يستحق.

أما أنا فسأبقى على الوفاء لشيخي النفاخ، وأرجو الله سبحانه أن يوفقني إلى استكمال تأليف كتابٍ عنه، إليه المشتكى، وهو المستعان، هو حسبي، وإليه المصير.

*****

أحمد راتب النفاخ .. معلِّم الإتقــــان

إن كنتَ لستَ معي فالذكرُ منكَ معي

يراكَ قلبي وإن غُيِّبتَ عن بصري

العينُ تنظرُ من تهوى وتفقِدُهُ

وناظرُ القلبِ لا يخلو عن النظرِ

جبل علم هوى

كلما ذكرت أستاذنا النفاخ عادت بي الذاكرة إلى أول عهدي بقسم اللغة العربية في جامعة دمشق... كنت أتحسَّسُ طريقي إلى ذلك القسم حين قال لي قائل : عليك بالأستاذ النفاخ فإنه مكتبة متنقلة ، وقال آخر : إياك أن تفوتك محاضرة من محاضرات النفاخ فإنه جبل علم ، وقال ثالث : النفاخ نادرة من نوادر العصر في علوم العربية وهو بقية السلف من علمائها.

ورحت أرقب محاضرته محاضرة المكتبة العربية ــ كذا كان اسمها ــ وجاء الموعد، ودخل الشيخ..

قامة نحيلة..

طلعة بدا فيها أثر السنين ...

شعر وخَطَ الشيب سواده..

عينان زرقاوان لم أر أحدَّ منهما ذكاءً ومضاءً ..

صوت أجشُّ ما إن بدأ بالهدير حتى ران الصمت علينا ..

وتيبَّسنا وأصخنا.. فكأن على رؤوسنا الطير ..

وانطلق الشيخ يحدثنا...عن طريقته في المحاضرة ,ما يأخذ به نفسه .. وما يأخذ به طلبته ..ما يسمح به ومالايسمح.. ما يرغب فيه ومايرغب عنه!!!

ثم أخذ في الكلام على مادة المحاضرة .. المكتبة ِ العربية ..

كان حقاً مكتبة!!

تدفَّق كالسيل الأتيّ..

يحدثنا عن الخليل وسيبويه, والمبرد وثعلب, وينتقل بنا من نوادر القالي إلى أغاني الأصفهاني .. ومن كتب الأدب والأخبار إلى كتب التراجم والرجال ..

يجلو لنا أمر التراث الغابر كأنه العِيان الحاضر .

حاولت تتبّعَ كلماته ..

فاتتني بعض الكلمات ..

كلمات ليست كالكلمات!!

إما لغرابةٍ فيها .. وإما للجلجةٍ في نطقها تبدو جليَّة لمن يستمع إلى النفاخ أول وهلة، ثم ما تلبث الأذن .. أذُن المحب أن تألفها بل تعشقها برغم مافيها من لُكنة وحُكلة.

أما الجزالة في تركيب العبارة فأمرٌ عجب !!حدِّث فيه ولاحرج..

إذ لا تكاد تجد في كلام النفاخ كلمة زائدة أومقحمة ،أو هي حشو في الكلام ولعل هذا مما يزيد الأمر عسراً بادي الرأي ،ثم ما يلبث أن يتحول في أذن السامع الأديب أو المتأدب إلى نمط من البلاغة والبيان قلَّ من يحسنه.. تألفه نفس المتذوق ، فيحاول أن يحاكيه أو يدانيه ...ولكن هيهات هيهات !!ما كل ما يُسمع يحاكى.. ولا كل من قلد يفلح..

في نظام من البلاغة ما شـ * ـكَّ  امرؤٌ أنه نظامُ فريدِ

انقضت المحاضرة الأولى، وبدأ الهمس والتعليق.. وسَرَتْ بين الطلبة أقاويل لا تخلو من بعض التهاويل ..

فمنهم من قال: إن النفاخ أعلم من عليها..

ومنهم من قال: هذا الذي طاول عميد الأدب العربي الأستاذ الدكتور طه حسين وردَّ عليه وأفحمه وغالبه فغلبه..

ومنهم من قال إنه الراهب في محراب اللغة عزف عن الزواج من أجلها. ووهبها كل وقتِهِ وجهِدهِ بل وهبها كل عُمُرِه ..

ومنهم من قال :إن أساتذة القسم يخشون صولته ويحسبون له ألف حساب..

ومنهم من ذهب إل أبعد من ذلك فجعل يسرد القصص ويحيك الطُّرَف عن مواقفَ للنفاخ من بعض رجالات عصره وأساتذة قسمه وتلامذة فصله..

كل ذلك جعلني أشدَّ شوقاً إلى لقاء الرجل, وأكثرَ عزماً على الإفادة منه.

وكان لي بفضل الله ما أردت، فقد نعمت بصحبة شيخنا النفاخ نحواً من خمسة عشر عاماً كنت فيها التلميذ والمريد..والطالب والتابع..والجليس والأنيس.. والمتتبع الحريص على كل ما يصدر عن الشيخ.. إلى أن نَزَغَ الشيطان بيني وبينه.. فأقصيتُ عنه على كُره مني.. وقلبي مطمئنٌّ بحبه .. وعقلي مستنير بعلمه.. وخيالي هائم بطيفه. حتى توفاه الله بعد فجر يوم الجمعة 11 من شعبان سنة1412 هـ الموافق 22 من شباط ( فبراير ) سنة 1992. رحمه الله وغفر له.

مدرسة في الإتقان

تعلمت من أستاذنا النفاخ إتقان العمل العلمي، والصبر على تجويده, ومحاولة الوصول إلى الكمال في إعداده وترتيبه، وكأنه المثل الحيُّ لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه " فقد كان يعدُّ لكل عمل عدّته، بدءاً من تحضير الأوراق وانتقاء أجود أنواع الأقلام والأحبار، ومروراً بالاستقصاء والتقصي لكل مسألة علمية، واستقراء ما جاء فيها وعنها وحولها في كل كتب التراث، وانتهاءً بصياغة العبارة صياغةً أين منها صياغة الذهب ؟

لقد كان يَتَنَوَّقُ في عبارته ،وينفي عنها كل حشو،فلا تكاد تقع فيما يكتب على كلمة زائدة أو مقحمة. وما يزال يبدي ويعيد فيما يكتب حتى يبلغ حدَّ الرضا، لا يهمه في سبيل ذلك ما مزَّق من ورق ،أو ما أنفق من وقت ،أو ما بذل من جهد, أوما أكدَّ من ذهن, أوما أتعب من جسد.

أذكر أن الدكتور محمد مرياتي ــ وهو من كبار المهتمين بالدراسات الصوتية وله فيها نظريات وبراءات اختراع ــ طلب إليه حين كان يشرف علينا في مركز الدراسات والبحوث العلمية بدمشق أن يوافيه بتوصيف الأصوات العربية من وجهة نظر القدماء من علماء اللغة والتجويد والقراءات ، فلم يدع مصدراً أو مرجعاً إلا رجع إليه ،ولم يدع لوناً من ألوان الأحبار إلا استعمله, ثم صاغ ذلك التوصيف بأدقِّ عبارة وأوجز إشارة ،على نحوٍ لا أعلم له مثيلاً فيما وقفت عليه من توصيفات.

وإن أنس لا أنس الذهول الذي اعترى الدكتور نبيل حرفوش ـ وكان قد كلِّف بتجهيز غرفة لعملنا في مركز البحوث بإشراف أستاذنا النفاخ ـ عندما استصغر النفاخُ المكتب الكبير الذي خصص له طالباً أن يوضعَ في الغرفة طاولةٌ تتسع لفتح ثلاثين مجلداً في وقت واحد، ففغر الرجل فاه .. ولمّا يغلقه !!!.

وكلفته مرة جامعة في الأردن أن ينظر في كتاب لأحد أساتذتها فكان أن نظر.. وأمعن النظر .. ثم استمر به ذاك النظر شهوراً.. يراجع ويدقق، ويصحح ويحقق، ليخرج تقريراً يكاد لا يقل حجماً عن ذلك الكتاب.

على أن أطول مدة شهدتُها في حياتي لمراجعة كتاب، كانت في مراجعة شيخنا النفاخ كتاب "الصاهل والشاحج " للمعري بطلب من أستاذه الدكتور أمجد الطرابلسي محقق الكتاب, فماذا كان؟ كان أن مكث في تلك المراجعة سبعة عشر عاماً، وهو يبدي ويعيد، ويدقق ويحقق، ويراجع ويتساءل، إلى أن مات رحمه الله دون أن تنجز المراجعة على النحو الذي كان يؤمّل...

وأنا على يقين أن الذي حال بينه وبين مناقشة أطروحة الدكتواره التي عكف عليها نحواً من ثلاثين عاماً في الأحرف السبعة والقراءات القرآنية إنما هو الإتقان ومحاولة بلوغ الكمال وأنى يُبلغ هذا الكمال؟ وهو لله وحده سبحانه..

ومع كل هذا التوخّي للإتقان, والتأنّي في العمل, والتدبر في الرأي, وجدناه يقول - بعد ذلك كله - في تقديمه لديوان ابن الدمينة الذي صنعه فأتقن صنعه :

" وبعد فما أشك أن بين عملي وبين ما أريد له بوناً بعيداً، وإني لآمل أن أجد من آراء الزملاء الدارسين ممن ينظرون في هذا الديوان ما يعين على استكمال أسباب التحقيق من تقويم عوج أو تصحيح خطأ أو تلافي نقص ".

ولم يكن أستاذنا النفاخ يقصر هذا الإتقان على نفسه وإنما كان يأخذ به من حوله، فلا يرضى بالعمل المتعجل، ولا يقبل بالتحقيق المتسرع، وما أكثر ما كان ينعت عمل المحققين غير المجوّدين بالمسخ والإفساد والعبث بتراث الأمة، وكان أحب إليه أن يصور المخطوط تصويراً على هيئته التي وصلت إلينا من أن تعبث به يدُ محقق جاهل، أو أن يُفسده ناسخ أو ماسخ، ولهذا ما كنت تراه يعلق على كل كتاب يقتنيه, يصحح ما فيه من خطأ، ويراجع ما اعتمد عليه من أصول، ويقيم ما انآد من عباراته ، ويحيل إلى مصادره ومراجعه . وقلما يخلو كتاب في مكتبه من تعليقاته، فإذا ضاقت الهوامش بها عمد إلى دسّ أوراق بين صفحاتها يستكمل فيها ماكان بدأه في الهوامش ..

فيا تِربَ العلومِ ومَنْ إذا ما= دُعيْ للعلمِ بادرَ بارتياحِ

لقد قلدتَ جيدَ العلمِ عقداً= يروقُ نضارةَ المقَلِ الصحاحِ

إذا العلماءُ أقعدَها كفاحٌ= لنيلِ العلمِ قمتَ بلا كفاحِ

فحزتَ الجلَّ منه بلا سلاحٍ= فكيفَ وأنتَ شاكٍ بالسلاحِ

بين التراث والمعاصرة

لقد عاش النفاخ في زماننا هذا بجسمه، وعاش مع الأوائل بعقله وعلمه ومنهجه وفكره، فكان من هؤلاء الذين قال فيهم أمير الشعراء:

هم في الأواخر مولدًا=وعقولهم في الأولين

وأنا لا أعني بذلك أنه انصرف عن هموم عصره وقضايا أمته, وإنما أعني السلوك الذي أخذ به نفسه، والطريقة التي اختطها لحياته، والنمط الذي ارتضاه لدربه، والكلام الذي ألزم به لسانه. وأما قضايا أمته وهموم عصره فقد كان منها في الصميم، ما يخلو مجلس من مجالسه من الكلام فيها ومناقشة ما استجد من أمورها.

ومع كل ما أشرت إليه من سلفيّته ــ إن جاز التعبير ــ وعيشه مع الأوائل فإنه كان يتطلع نحو التطور ويستشرف التجديد، ويؤمن بالإفادة من الدراسات اللسانية الحديثة في رفد لغتنا بكل مفيد وجديد. ولا أدلّ على ذلك من صداقته الوطيدة وتواصله الدائم مع الأستاذ الدكتور عبد الرحمن الحاج صالح رائد اللسانيات العربية في عصرنا، آية ذلك إلحاحه على استضافته كل عام ليحاضر على طلبة الدراسات العليا في قسم اللغة العربية بجامعة دمشق ، حيث عرفناه أستاذاً كبيراً وعالماً جليلاً ونهلنا من علمه وعللنا من فضله.

وإن تعجب فعجب أنه كان يحضر معنا محاضرات الحاج صالح، ويوافقه في كثير من آرائه وهو _ أي الحاج صالح _ اللساني الذي درس سبعة عشر عاماً في جامعة السوربون بفرنسا!. ولكنه والإنصاف شريعة بنى دراساته اللسانية الحديثة على قاعدة عربية أصيلة ومعرفة لغوية واسعة لاتلتوي بها ريح الحداثة الهوجاء ، ولاتضلّها أو تُزيغها الآراء الفطيرة والأهواء الفاسدة. وإنما تفيد من الأواخر دون أن تنسى فضل الأوائل.

ولعل خير ما يجلو هذا المعنى في شخصية شيخنا النفاخ كلمة الأستاذ الدكتور حسني سبح رئيس مجمع اللغة العربية بدمشق فيه, وهي الكلمة التي استهل بها حفل استقبال أستاذنا النفاخ عضواً عاملاً في المجمع وقد جاء فيها: " فالأستاذ النفاخ سلفي المنبت عصري المنهج، ويُتَوَسَّمُ فيه أن يسد ثلمةً طالما تراءت منذ افتقاد المجمع الأساتذة الأعلام طيب الله ثراهم من أمثال المغربي والتنوخي وغيرهما . ولاغرو إن عدّ الأستاذ ثبَتاً من الأثبات في علوم اللغة العربية لافي قطرنا فحسب بل في الوطن العربي الكبير أيضا."

مفتاح شخصية النفاخ

وجملة القول فإن شخصية الأستاذ النفاخ رحمه الله تعالى تتلخص في ظني بثلاث نقاط :

الأولى: حب للعربية أورثه التمكن منها, بل جعله واحداً من نوادر الزمان في معرفتها .

والثانية : إتقان للعمل بلغ حدّ الوسوسة في كل ما نهد له من أعمال وتحقيقات وتآليف, حتى لقد حال دون إصدار كثير منها لنزوعه فيها نحو الكمال .

والثالثة : استقامة في الحياة أخذ بها نفسه أخذاً حازماً صارماً, وحاول أن يأخذ بها مَن حوله فلم تدع له صاحباً إلا ما رحم ربك, وقليل ما هم!! .

ولما كان الأسلوب هو الرجل ــ كما قالوا ــ فإنني سأختم كلمتي بقطعة فريدة من كتابات أستاذنا النفاخ أحسب أنها خير معبّرٍ عن شخصيته ومَكِنَتِهِ وإتقانه، وهو يصف فيها أسلوب شيخه الشيخ محمد بهجة البيطار فيقول :

" وإذا كان لابد لي أن أعقب على ما قدمت بكلمة في لغة الشيخ وأسلوبه ، فمجمل القول في ذلك أنه جرى في الفصاحة والبيان على عِرق من سلفيه: أبيه وجده، فكان يصدر في كتابته وخطابته عن طبعٍ مواتٍ ترفده معرفة بأحكام العربية وأساليبها محكمة. وقد كان في أول أمره يجنح فيما يكتب إلى التزام السجع، ثم أخذ يتخفف منه إلا ما أطفّ له من غير ما تعمُّل، وخلص في كتابته وخطابته وأحاديثه إلى أسلوب سهل عذب، له من إشراق ذهنه إشراق، وفيه من صفاء نفسه صفاء. وكان - رحمه الله - قد راض لسانه على الفصحى منذ حداثته، حتى صارت له طبعاً فما يحسن الكلام بغيرها، وكان إذا ما ارتجل - وما كان أكثر ما يرتجل - لا يكاد يُتعلق عليه مهما امتدّ به نفس الكلام بسقطه، ولا يطوع لسانه بلحنة، وهو أمر تفرّد به من بين أقرانه أو كاد".

رحمك الله ياشيخنا، وغفر لك، وأعلى مقامك، وجزاك عن العربية وأهلها خير ما جزى عالماً عن قومه ولغته.

وأما أنا فلا أزال أردِّد فيك قول الشاعر:

وَكَيفَ أَنساكَ لا أَيديكَ واحِدَةٌ * عِندي وَلا بِالَّذي أَسدَيتَ مِن قِدَمِ

********