العلامة المعمر الشيخ محمد الحجوجي

 

 

 توفي ليلة الثلاثاء  23 شعبان الأبرك  سنة 1437 شيخنا العلامة المعمر المسند  محمد ابن الحافظ  محمد الحجوجي الفاسي ثم الدمناتي  ثم الجديدي رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جناته...

 

شيخنا - رحمه الله تعالى - من مواليد نحو عام 1332 للهجرة، في مدينة فاس ثم انتقل إلى مدينة دمنات،رفقة والده وعمره ست سنوات ، ونشأ في بيئة متدينة، فوالدته من بيت برادة الشهيرين، بيت التجارة والحضارة بفاس، ولية صالحة، ذاكرة عابدة، كان يحكي لنا من كراماتها وفضائلها وبرورها بزوجها ما لا يرى إلا في كتب السلف رضي الله عنهم.

 

وأما والده فكان من علماء القرويين، ومن المشتغلين بالحديث والتصوف، ومن شيوخ الطريقة التجانية، بل يعتبر من أكبر علماء الحديث وحفاظه في المغرب، ألف نحو مائة مؤلف جلها في علم الحديث رجالا وجرحا وتعديلا وتخريجا، وبعضها موسوعي، كما ألف في التراجم وغيرها.

 

لازمه شيخنا رحمه الله تعالى طول حياته ملازمة العبد لسيده، والابن البار لوالده، فحفظ سيرته، وكلامه، حتى إنه يستعرض حكمه وأشعاره عن ظهر قلب، وكان يسرد عليه كتب العلم في مجالسه الحديثية بحيث تم له سماع البخاري لوحده نحو اثني عشر مرة تسعة منها بقراءته، بحيث كنا نسرد عليه أحاديث من صحيح البخاري فكان يتمها من حفظه رحمه الله تعالى...

 

تولى العدالة والتوثيق، ثم نظارة الأوقاف بجهة وازان، وعرف باستقامته، وشدة تدينه، وملازمته لأوراده وأذكاره، وصلواته ونوافله، ومحافظته على تراث والده..وكان فقيها مشاركا، لطيف المعشر آية في التواضع والفضل، حكيما هينا لينا...

 

لقي جماعة من كبار العلماء شرقا وغربا، خاصة من كانوا يفدون على والده من أعلام الطريقة التجانية ومحبي العلم؛ كالشيخ أحمد بن العياشي سكيرج، والشيخ عبد الكريم بنيس، والشيخ الحافظ محمد المدني ابن الحسني وغيرهم...وزار هو ووالده الحافظ الشيخ عبد الحي الكتاني بمدينة فاس، قال لنا: "فدخل هو ووالدي غرفة وبقيا يتحدثان سرا بكلام لم أسمعه مدة من ساعة"...كما زارهم الحافظ الكتاني بدمنات أيضا..

 

وكانت له عناية فائقة بنشر تراث والده، فنشرتُ بنصيحته وإذنه بعض مؤلفاته: كـ: "سلافة الصفا، في التعريف برجال الشفا"، و"المنح الوهبية بشرح منظومة السيرة النبوية"؛ كلاهما بتصحيح شيخنا المذكور بالتعاون مع غيره، و"كنز اليواقيت الغالية في بعض الأسانيد العالية"؛ بتحقيقي، و"منحة الوهاب في تخريج أحاديث الشهاب"؛ الأخير بتحقيق الدكتور هشام حيجر...كما أن شرح والده الحافظ على مسند الإمام الدارمي في ثماني مجلدات تحت الطبع بدار الكتب العلمية، وكتابه في رجال وتراجم وقبائل المسند الدارمي في ثلاثة مجلدات تحت الطبع أيضا يسر الله تعالى نشر ذلك..

 

وبفضله وعنايته طُبعت عدة كتب أخرى لوالده؛ منها: "إتحاف بعض أهل المراتب العرفانية بذكر بعض تراجم رجال الطريقة التجانية"، في 8 مجلدات، و"فتح الملك العلام، بتراجم بعض رجال الطريقة التجانية الأعلام" في مجلد ضخم، كلاهما بتحقيق صديقنا الأستاذ المحقق الواعية محمد الراضي كنون حفظه الله تعالى، وحكم والده المسماة: "الحكم النورانية، والفتوحات الصمدانية" طبع بتحقيق الأستاذ المحقق الشيخ محمد بن عبد الله الرشيد...وغير ذلك من المؤلفات التي أقيمت عليها دراسات جامعية؛ كفهرسته الكبرى المسماة: "نيل المراد، في معرفة رجال الإسناد" في أربعة مجلدات...

 

فكان شيخنا المذكور معتنيا بنشر تلك الكتب، وإتاحتها للطلبة والباحثين، بل رتب مكتبة والده بنفائسها، وقال لي في آخر لقاء جمعنا بأنه ينوي جعلها وقفا لعموم المسلمين لينتفع منها أهل العلم والباحثون...جزاه الله على حسن نيته.

 

وكان - رحمه الله تعالى - كريم المائدة، حسن المعشر، يكرم الزوار والواردين، عرفني عليه صديقنا البحاثة محمد الراضي كنون حفظه الله تعالى أثناء بحثي عن تراث والده ومؤلفاته، فلقيته نحو عام 2003، ومنذ ذلك الوقت توطدت العلاقة بيننا، فاستجزته وأجازني، وسمعت عليه بعض المسلسلات التي أخذها عن والده؛ أولها: الحديث المسلسل بالأولية، وقرأت عليه بعضا من مؤلفات والده، وسمعت عليه بعض أشعاره وحكمه، وناولني بعض مؤلفاته، ومكنني من تصويرها، وأذنني في طبعها، كما سمعت عليه طرفا من صحيح البخاري وغير ذلك...وكان يدعو لي كثيرا دعاوى عظيمة...وآخر لقاء لي معه بقي يدعو لي كثيرا ثم يلتفت إلي ويقول لي: "هنيئا لك هنيئا لك"...

 

وقد اعتنيت بتعريف طلبة العلم به شرقا وغربا، وودعته بنشر كتب والده والتعريف به في العالم، فتم ذلك بحمد الله تعالى، وقصده العلماء وطلبة العلم من الدنيا، واستدعي لمجالس الإسماع والسماع في المملكة العربية السعودية، وقطر، وأخذ عنه المئات، وربما الآلاف، وسمعوا عليه صحيح البخاري وغيره، وقصدوه في منزله بحيث كان كعبة الزوار...وأخذوا عنه ما تعذر على الفقير أخذه؛ لكثرة الفتن وقلة الوفاء من الناس...

 

وقد كان - رحمه الله تعالى - يجلني ويحبني كأنني من قرابته، نظرا لإجلاله لجد جدي الإمام محمد بن جعفر الكتاني - قدس سره - الذي كان شيخا لوالده رحمه الله تعالى...وكان يخبرني من كرامات والده، وأخبرني أنه كان صديقا لابن عم جدي العلامة المفسر القاضي الأديب الشهيد؛ عبد الأحد ابن الحافظ عبد الحي الكتاني رحمه الله تعالى وجاره...

 

كان شيخنا - رحمه الله تعالى - صابرا محتسبا، آية في الاحتساب، فقد توفيت بنته وزوجها، وابناه، فصبر واحتسب، وما جزع ولا تأفف، وعندما عزيته لمست منه صبر الصديقين، واحتساب الأبرار...

 

وزرته آخر زورة لي مع جمع من الشرفاء الكتانيين، ومريدي الطريقة الكتانية، فدخلنا عليه بالجلالة الكتانية، وكان غاية في التعب والمرض، وقد ربا سنه عن المائة بنحو خمس سنوات، فلما عرفني هش وبش وفرح، وتحادثنا مدة، لاطفته فيها، وجددت إجازته لي ولزوجتي وأبنائي والحضور؛ فأجاز الجميع، ودعا لي دعوات عظيمة كما أسلفت، ثم رفَعْنا بالدعاء له، وقرأنا اللطيف الصغير، وودعناه، فودَّعَنا هاشا باشا فرحا منتشيا هو وأهله...وكان آخر لقاء لنا معه قبل وفاته بأيام، فكان ممتعا بسمعه وبصره وذهنه كما أنه في قوته ومكنته، غير أن قواه خارت، وجسده بلي...رحمه الله تعالى ونور مرقده، وأسكنه فسيح الجنات...