العلامة الفقيه الشافعي الشيخ محمد أديب كلكل

وداعاً أيها الشيخ الجليل وإلى اللقاء بإذن الله تعالى

 

 

لكل عالمٍ سمتُـه الخاصة ، وميزاته الفريدة، وشمائله الرائعة : ولكن لهذا الشيخ المبارك انطباع خاص في مخيلتي وأنا في مرحلة الشباب : وقارٌ يكسوه تواضع ، وهيبةٌ مشوبةٌ بأُنس ، واتزانٌ يخالطه انبساط ، ومُحيا تزينه أنوارُ الإيمان، ونفسٌ مطمنئة واثقة تغلغل في كيانها تَعشُّق تعاليمِ الإسلام، وعِلمٌ عنوانه التحقيق ، واعتدال مقرون بقيود معالم الشريعة ، وتصوفٌ منضبط وتهذيبٌ، وآدابٌ رفيعة تحلى بها ، فكان له منها من اسمه أوفى نصيب ، ومتابعةٌ لأحوال أمته ببصيرة واعية ورؤية متوازنة .

أخذ مساراً لم يحِـد عنه طيلة حياته : خدم أمته بعلمه من خلال دروسه الرائعة - فكانت مميزةً بحضور نخبة من الشباب المثقفين- ، وبمؤلفاته التي أخذت طابعَ التحقيق العلمي الرصين والدقة في النقول، وعندما صودرت الكلمة ، ومُنِـعت الدروس: أخذ مساراً علمياً يتناسب مع الظروف المحيطة به ، فلا هو انقطع عن التعليم والإفتاء ، ولا هو تنازل عن مبادئ عاش لأجلها ، فكان حكيماً في بثِّ رسالته بلا مسجد ولا مدرسة، وطوداً شامخاً في ثباته ، يظن من لا يعرف حقيقة حاله أنه معتزلٌ عما يدور حوله،  أوغائبٌ عن شؤون أمته.

ولشدة حرصه على الفتوى المسددة يراسل العلماء الذين يثق بعلمهم وتقواهم، ويشاروهم فيما أفتى به ، ويأخذ منهم موافقات كتابية يضمها لفتواه ، لتكون ممهورة بأقوالهم ، ورصينة بموافقاتهم . 

كنت دائماً أسأل عن هذا الشيخ بعد أحداث جسيمة وأليمة وإذا بأحد من أحسبهم من أهل التقوى والإلهام يجيبني قائلاً : ( لهذا الشيخ المبارك سرٌ خاص بينه وبين ربه، وعلاقة راسخة ، فحفظه الله لهذه البلدة وبقي فيها طوداً شامخاً ). 

صلتي مع هذا العالم كانت عجيبة وغريبة ، فكانت صلة علمية وروحية ، تلقيت عنه القليل من العلم في دروسه، والكثير من مؤلفاته،  وبعد انقطاع في الأجساد دام لأكثر من خمس وثلاثين سنة : عادت قوية من خلال قراءة شيخ لتلميذه، فأفاجأ أنه يتابع ما أكتب ، ويعلق تعليقاً جميلاً يكتبه على صفحتي في الفيس قبل وفاته بفترة وجيزة ، أنقل لكم بعض ما جاء فيه ، حيث يقول : 

(  يا أخي يا خلدون عرفتك جندياً من جنود الاسلام ،على ثغر من الثغور وما أكثرها في هذا الزمان ،عرفتك مكافحاً مناضلاً بقلمك ولسانك في ميدان هذه الهجمة الشرسة على الاسلام والمسلمين عامه وأهل السنه والجماعة خاصة ، هذه الهجمة لم يشهد التاريخ الاسلامي مثلها أبدا هجمة شرسة سياسية واقتصادية وثقافية وعسكرية وتخريبية لكل القيم الانسانيه وتشكيكيه في مبادئ الاسلام وأصوله : ومنها الكتاب والسنة النبوية الشريفة والتراث الفقهي ورجال الاسلام الصادقين المخلصين من قديم وحديث ، كل ذلك باسم العَـلمانيه والتطوير والتحديث والتنوير ، ومن المؤسف جداً أن يتبنى هذه الهجمة رجال من جلدتنا ، ويتكلمون بألسنتنا : قد باعوا دينهم وأمتهم وتراثهم بعرض من الدنيا ، لا أقول دنياهم ولكن باعوا ذلك كله بدنيا غيرهم، بارك الله لك في علمك وعملك وقلمك ولسانك فأشكر الله سبحانه وتعالى أن أقامك على هذا الثغر جنديا مكافحاً مناضلاً وهذه فيما اعتقد أعلى درجات الجهاد ، وقد سمعت من شيخنا الحامد رحمه الله تعالى حديثا يقول فيه : يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :  إذا ظهرت البدع، وسُـبَّ أصحابي : فليظهر العالم علمه ، ومن لم يفعل فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين .

يا أخي خلدون إذا أردت ان تعرف عند الله مقامك فانظر فيما أقامك .

اللهم أصلح أمة سيدنا محمد . اللهم ارحم أمة سيدنا محمد ، اللهم كف أيدي الظالمين عن أمة سيدنا محمد ، واجعل لهذه الأمة من أمرها فرجا ومخرجا ، وحل أزماتها ،واجعل لها من أمرها يسراً ، اللهم خذ الظالمين بالظالمين وأخرجنا من بينهم سالمين ، وارحم أمة سيدنا محمد رحمة عامه شاملة، اللهم أقر عين حبيبك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بكشف هذه الغمه عن هذه الأمة .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

أخوكم محمد أديب كلكل ) .

#فكان_ردي_عليه :

( سيدنا الشيخ الجليل، العلامة الفقيه، المربي الفاضل محمد أديب كلكل حفظه الله ورعاه.

يا سيدي أن تخاطبي بالأخ فهذا مقام لي عظيم ، وشرف لي كبير ، فما أنا إلا بمثابة أحد أبنائك وتلامذتك.

وأن تصفَـني بأنني على ثغر من ثغور الإسلام : فهي شهادة أفخر بها ، ولكن يا سيدي أسألك - وأنا العبد الفقير- أن تخبئها لي شهادة تشهد لي بها عند الله ، فعسى أن يمنحني بهذه الشهادة الغفرة والقبول ، وعسى أن يحشرنا بمعيتك المباركة ومعية شيخنا أبي عبد الرحمن الشيخ محمود الشقفة رحمه الله تحت لواء الحبيب صلى الله عليه وسلم ، وأن يزجنا بفراديس جناته ، ويمنَّ علينا بالرضا والقبول.

يا سيدي لي الشرف أن قرأتم : وأي عز أن يقرأ أمثالكم لمثلي ، فما هذه المقالات إلا من غراسكم اليانعة ، وثمرة من بساتين مؤلفاتكم العامرة.

وكم كانت سعادة الوالد رحمه الله تعالى برفقتكم في أداء مناسك الحج، فيحدثنا عنها في غبطة وسرور، رحمه الله وجزاه عني خير ما جزى والداً عن ولده.

متعنا الله بكم ، وبارك الله بعلمكم وأعمالكم، وجعلكم ذخراً للإسلام والمسلمين.

فأنتم العرين ، والحصن الحصين.)

ياسيدي أي توافق هذا أن أكتب في صفتحي عن جلسة إيمانية مباركة شهدتها في حضرة شيخنا العارف الرباني الشيخ محمود الشقفة رحمه الله تعالى : في اليوم الذي اصطفاهم الله تعالى فيه : وإذا أنتم تُـدفنون بجواره ، فهنيئاً لكم هذا الجوار المبارك.

وإنها لمصيبة عظمية أصيبت بها الأمة بفقدكم ، ونقص عظيم في كيانها وكما قال حبر الأمة سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ﴿ أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ﴾ :  "خرابها بموت علمائها، وفقهائها، وأهل الخير منها". وأنتم بلاشك أحد علمائها وفقهائها، وقال الحسن البصري - رحمه الله -: "كانوا يقولون: موت العالم ثُلمة في الإسلام، لا يسدها شيء ما اختلف الليل و النهار".

وأنتم جديرون بقول القائل :

الأرضُ تحيى إذا ما عاش عالمُها  ***متى يمت عالمٌ فيها يمت طرف 

كالأرض تحيى إذا ما الغيث حلَّ بها ***وإن أبى عاد في أكنافها التلف 

رحمكم الله ، وأعلى مقامكم في العلماء العالمين ، وأجزل مثوبتكم عن الإسلام والمسلمين .

وعزاؤنا لأسرته الطيبة المباركة ، ولأهل حماة وأهل الشام والأمة الإسلامية ، وأسأله سبحانه أن يعوض هذه الأمة خيراً.