تهاوتِ البلاد، ووحده بقي منارة شامخة، كان مبعثًا للحياة والطمأنينة في عَالَمٍ رديء، شوهته يد الحروب، وحده بقي امتدادًا حيًا للتَّاريخِ والقيمِ والعلم.
اختلفَ النَّاس في كلِّ شيء، لكنهم أجمعوا على إمامته، وجلاله، ارتضوه عالمًا عابرًا لكلِّ التصنيفات والتحيزات الضيقة، والجماعات المغلقة، وبات العَلمُ الذي رأىٰ الناس فيه هبة الخلاص، وتجسيدًا لحقيقةِ العالِم في زمنٍ تعرت فيه الوجوه!
أعادَ إلى الأذهانِ سيرة علماء القُطْرِ اليماني، وكان ممثِلًا شرعيًا لأساتذته الذين تتلمذ على كتبهم، وأخذَ من أنفاسِ أشياخه أنفاس من سبقوه، لقد سدَّ الفجوة الممتدة، وكان خيطًا ناظمًا منذ حقبة ابن الوزير والشوكاني وابن الأمير، وبرحيله طُويت صفحة من العِلم والتَّاريخ والذَّاكرة!
من نِعم الله أني زرته مرارًا، وفي المرةِ الأولى التي قابلته فيها، اكتحلت عيني برؤيته، ثم وفقتُ في الحصولِ على إجازة عامةٍ منه، تجعلكَ في سربِ من التقطوا الضوء من يديه، كان بابه مفتوحًا للنَّاس من كلِّ مكان، لا يردُّ أحدًا، ويكتبُ بكل حب مقدمة لكلِّ طالب يأمل الوصل به، وشرف الانتماء إليه.. كانت مقدماته عقدًا يزين به الكاتب كتابه باسمِ علامة اليمن ودرتها وقاضيها.
لم يكن مجردَ عالمٍ من علماءِ الدين، بل كان أكبر من ذلك، ما جُمعَ له تفرقَ في غيره، علَّمَ، ونصحَ، وأفتى، ومارس السياسة بطريقته الخاصة، واتخذ موقفًا ارتضاه ووفقه الإله إليه، عفَّ لسانه، وكفَّ يده، ولم يطمع بمغنم، وقفَ ثابتًا في وجه الظلام.. ولم يكن مطيةً لظالم، ولا جسرًا يعبر الظلم من خلاله.. أحاطته عناية الإله إلى أن قبضَه إليه في درةِ الأيام وأعظمها!
اهتزت صورة العالِم كثيرًا في عِقدنا الأخير، ووحده علامة اليمن ومفتيها ازدادَ حبًا ومكانة، في قلوبِ كل اليمنيين، وطلاب العلم في كلِّ المعمورة..!
كعبة العلم التي طافَ حولها طلاب المعرفةِ عقودًا، وجهه يحكي تاريخ الأمجاد والعلم وأهله، وسني عمره تحولت إلى مفخرةٍ نباهي بها، وبموته أغلق باب من أبوابِ العلم والبساطة والجمال نأمل أن يفتحَ في يومٍ ما.
الحزن يخيمُ على كل محبٍّ للعلم، برحيل علامة اليمن ودرتها وقاضيها الأجل، العَلَم الشامخ، والطود الباذخ، والقمة السامقة، والشعلة الوقادة، والهمة العالية، عَلمُ الفقهاء، وبقية الفضلاء، الفقيه، اللغوي، المحقِّق، شيخ القضاة، وإمام الدعاة، شيخ الإسلام القاضي الإمام وجيه الدين أبو عبد الرحمن محمد بن إسماعيل بن محمد العمراني.. طيبَ الله ثراه ورضي عنه.
وداعًا يا بقية الفضلاء..
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول