العلامة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة والتعريف بكتابه (صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل)

"أُلقِيتْ هذه المحاضرة في مدينة (ديار بكر) جنوب شرق تركيا بمناسبة إقامة (مجلس العلم والإحياء الثامن) الذي يُنظِّمه (اتحاد العلماء والمدارس الإسلامية) بحضور جَمْعٍ مِن مدرِّسيه وطلَّابه، في 14 رجب عام 1444هـ، الموافق 5-2-2023م".

 

[مُقدِّمة]

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله رب العالَمين، وأفضلُ الصلاة وأتمُّ التسليم على سيدنا وحبيبنا وقُرَّة أعيننا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومَن اهتدى بهديه إلى يوم الدِّين.

اللهم علِّمْنا ما ينفعُنا، وانفعْنا بما علَّمْتَنا، وزدنا عِلمًا وعملًا وإخلاصًا وفهمًا للدِّين، برحمتِكَ يا أرحمَ الراحمين.

أما بعدُ:

فإني أشكُرُ اللهَ سبحانه وتعالى أوَّلًا أنْ هيَّأ هذا اللقاءَ المباركَ الذي يُعقَدُ بمناسبة إقامة (مجلس العِلم والإحياء الثامن)، وحُضورِ فَوْجٍ مِن الأساتذة وطلَّاب المدارس الشرعية.

كما أشكُرُ ثانيًا (اتِّحاد العلماء والمدارس الإسلامية) على إتاحة هذه الفُرْصة لمشاركةِ الحديث معكم عن سيرةِ عالمٍ ربَّانيٍّ جليلٍ، والتَّعريفِ بكتابٍ مِن كُتُبه النَّفيسة.

وبما أنَّ أكثرَ الحاضرين هُم مِن الإخوة غيرِ العرب، فإني حريصٌ بإذن الله على التكلُّم بلُغةٍ بسيطةٍ وواضحةٍ يفهمُها الجميعُ.

أمَّا عنوانُ هذه المحاضرة؛ فإنه: «الشيخ عبد الفتاح أبو غُدَّة، والتعريفُ بكتابه (صفَحاتٌ مِن صبر العلماء على شدائد العِلم والتحصيل)».

وكما هو واضحٌ مِن العنوان؛ فإن هذه الكلمةَ ستنقسِمُ إلى قسمَين رئيسَين:

القِسْم الأول: الحديثُ عن الشيخ عبدِ الفتاح أبو غُدَّة، والتعرُّفُ على سيرته بشكلٍ عامٍّ ومُختصَرٍ، وسيكون التركيزُ أكبرَ على خِصالٍ منهجيَّةٍ تحلَّى بها الشيخُ في مَسِيرته العِلميَّة.

والقِسْم الثاني مِن الكلمة: التعريفُ بكتابه النافع «صفَحاتٌ مِن صبر العلماء على شدائد العِلم والتحصيل».

ولا شكَّ بأنَّ الحديثَ عن هذين القسمَين لن تفِيَ بحقه نصفُ ساعةٍ قُدِّرتْ مِن الزَّمن، ولكنْ كما قال العلماء: «ما لا يُدرَكُ كلُّه لا يُترَكُ كلُّه».

وقبْل الخوضِ في ترجمة الشيخِ أُحِبُّ أنْ أُشيرَ إلى بعض المصنَّفات التي أفردَتْه بالترجمة، فمِن ذلك:

1- «إمداد الفتَّاح بأسانيد ومرويات الشيخ عبد الفتَّاح» لتلميذه المُحِبِّ المُلازمِ له الشيخ محمد بنِ عبد الله آل رَشِيد.

2- «عبد الفتَّاح أبو غُدَّة ريحانة المحدِّثين وقُدْوة المحقِّقين» للأستاذ الفاضل إبراهيم الأسْطَل، وهو مِن أمْيَزِ ما كُتِب عن الشيخ وأشْمَلِه.

3- «الشيخ عبد الفتَّاح أبو غُدَّة كما عرَفْتُه» لقريبه الدكتور محمد علي الهاشمي، فقد تزوَّجَ الشيخ عبدُ الفتَّاح مِن أخته.

ومِن المصنَّفات التي تعرَّضَتْ لدراسة أعماله العِلمية فضلًا عن ترجمته:

4- «العلَّامة المحدِّث عبد الفتَّاح أبو غُدَّة، آراؤُه وترجيحاتُه واختياراتُه في علوم الحديث» للدكتور رضوان عز الدِّين الحَدِيدي المَوْصِلي.

5- «الفوائد المُستمَدَّة مِن تحقيقات العلَّامة الشيخ عبد الفتَّاح أبو غُدَّة في علوم مصطلح الحديث» لتلميذه الدكتور ماجد الدرويش.

[ولادته ونشأته]:

والآن نأتي إلى ذِكْر لَمَحاتٍ مِن سِيرته العَطِرة، فأقول:

هو العلَّامة المحدِّث، والمُحقِّق المُدقِّق، والدَّاعية الموفَّق، والقُدْوةُ العامل، الشيخ أبو زاهد، وأبو الفُتوح (كنَّاه بذلك شيخُه الكَوْثَرِيُّ)، عبد الفتَّاح بنُ محمد بنِ بشيرٍ أبو غُدَّة الحلبيُّ الخالديُّ، نِسْبةً إلى سيدنا خالد بنِ الوليد رضي الله عنه.

وُلِد الشيخُ في مدينة حلَبَ شمال سورية سَنةَ 1336ه، الموافق سَنةَ 1917م، لأُسرةٍ مُحافِظةٍ عُرِفتْ بالتمسُّك بأهداب الدِّين، وحُبِّ العلماء والصالحين.

وحين دخَل السَّنةَ الثامنةَ مِن عُمره؛ ضمَّه جَدُّه إلى المدرسة العربية الإسلامية الخاصَّة، فدرَس فيها مِن الصَّف الأوَّل حتى الرابع، ثم توجَّهَ إلى مدرسة الشيخ محمد علي الخطيب، فتعلَّمَ عنده حُسنَ الخط، ثم تفرَّغَ للعمل مع أبيه في صناعة الغَزْل والنَّسِيج فأتقنَها، وهذا العملُ أتاح له الفُرْصةَ إلى معرفة مَعادِن الناس، وسَبْر أخلاقهم، وحِيازة مَلَكة التعامل مع مختلف شرائحهم وطبائعهم.

ولمـَّا بلَغ الشيخُ تسعةَ عشرَ عامًا؛ التحقَ بالمدرسة الخُسْرُوِيَّة في حلَبَ سَنةَ 1936م (وهي مِن أشهرِ المدارس العِلميَّة، وقد أمَر بإنشائها والي حلب خُسْرُو باشا)، واستمَرَّ مُتفوِّقًا إلى أنْ تخرَّجَ منها بعد ستِّ سنوات.

 

[شيوخُه، ودراستُه في مصرَ]:

لازمَ الشيخ عبد الفتَّاح أبو غُدَّة كِبارَ علماء عصره في حلَبَ، فانتفَعَ بهم، ونهَلَ مِن علومِهم، وارتوى مِن أخلاقِهم، أذكُرُ منهم: الشيخ المُتَفاني في حُبِّ النبي صلى الله عليه وسلم عيسى البَيانُوني، والشيخ إبراهيم السَّلْقِينيّ الجَدّ، ومُحدِّث حلَبَ ومُؤرِّخها الشيخ محمد راغب الطَّبَّاخ، والشيخ محمد نجيب سِراج الدِّين، والشيخ أسعد عَبَهْ جِي، والشيخ أحمد الزَّرْقا، وولده الشيخ مصطفى الزَّرْقا، وغيرهم الكثير.

ثم رحَل الشيخ إلى مِصْرَ لإكمال دراسته، فدخَل كُلِّية الشريعة في الأزهر سَنةَ 1944م، ونالَ منها الشهادةَ العالِميَّة بعد ذلك بأربعِ سنواتٍ.

كما درَسَ أيضًا سنتَين في تخصُّص «أصول التدريس» في كُلِّية اللُّغة العربية في الأزهر، وتخرَّجَ سَنةَ 1950م، إضافةً إلى حُصوله على إجازةٍ في عِلم النَّفْس.

وفي مِصْرَ أدركَ الطَّبقةَ العاليةَ مِن علماء الأزهر وخارجه، فانتفَع بالشيخ يوسفَ الدِّجْويّ، والشيخ أحمد شاكر، والشيخ عبد الوهَّاب خَلَّاف، ودرَس على شيوخ الأزهر الثلاثة: محمد الخضر حسين، ومحمود شَلْتُوت، وعبد الحليم محمود، كما التقى بالأستاذ حسن البَنَّا، وحضَر مجالسَه، وتأثَّرَ بفِكره.

وهناك تعرَّفَ أيضًا على شيخ الإسلام مصطفى صَبْري التُّوْقادِيّ، وقرأَ عليه كتابَه «القول الفَصْل بين الذين يؤمنون بالغيب والذين لا يؤمنون به»، وتوثَّقَتْ صِلَتُه بالعلامة الشيخ محمد زاهد الكَوْثَرِيّ الدُّوزْجَوِيّ، فلازمَه حتى غدا مِن خواصِّ تلاميذه.

عُرِف الشيخ عبد الفتاح برِحْلاته العِلميَّة الواسعة، فالتقى خلالَها بكبار علماء العالَم الإسلامي ودُعاته؛ كالشيخ محمد زكريا الكانْدهْلَوِيّ، والشيخ أبي الحسن النَّدْويّ، والشيخ أبي الأعلى المَوْدُودِيّ، وأجازه علَّامة كُرْدِسْتان العراق الشيخ عبد الكريم المُدرِّس، واستجازَه أيضًا الشيخُ عبدُ الكريم، فتدَبَّجا، والتَّدبيجُ -كما تعلمون- عند المُحدِّثين: أنْ يُجِيزَ كلٌّ مِن الشيخين الآخَرَ.

وههنا أمرٌ منهجيٌّ ينبغي تسليطُ الضَّوء عليه، وهو كثرةُ شيوخ الشيخ عبد الفتَّاح، وتنوُّعُهم فكرًا وتوجُّهًا ومَشْرَبًا، حتى إن تلميذه الشيخ محمد بنَ عبد الله آل رشيد أحصى شيوخَه، فبلغوا مئةً وثمانين شيخًا مِن شتَّى بِقاع الأرض!

وفي هذا الصَّدَد يقول الشيخ عبدُ الفتَّاح في كتابه «كلمات» (1/38): «تلقَّيتُ العِلمَ عن نحو مئة عالِمٍ -والحمد لله- في بلدي حَلَبَ، وفي غيرها مِن بلاد الشام ومكة المكرمة والمدينة المنورة ومِصْر والهند وباكستان والمغرب وغيرِها، فلي مِن الشيوخ قرابةُ مئةِ شيخٍ، تلقَّيتُ عنهم، وأخذتُ منهم، وكلُّ واحد منهم له مَشْرَبُه ومذهبُه، وما التزمتُ قولَ أحدٍ منهم لأنه شيخي وأستاذي، بل ألتزمُ ما أراه صوابًا، وأعتقِدُه حقًّا أو راجحًا».

 

[مُرورٌ على نشاطه التعليمي والدعوي]

بعد تخرُّج الشيخِ عبد الفتَّاح مِن الأزهر، رجَعَ إلى مَسْقِط رأسه حلَبَ، فدرَّسَ في ثانوياتها المُختلِفة، وتولَّى الخَطابةَ في غيرِ مسجدٍ فيها، وأقام الدروسَ العامَّةَ والخاصَّةَ، ثمَّ انتُدِبَ للتدريس في كُلِّية الشريعة بجامعة دمشقَ، فدرَّسَ ثلاثَ سنواتٍ، ثمَّ تعاقدتْ معه جامعةُ الإمام محمد بنِ سعودٍ للتدريس فيها بطلبٍ مِن المفتي آنذاك، فبقِيَ يعمَلُ فيها مُدَّةَ ثلاثٍ وعشرين سَنةً، انتُدِبَ خلالها إلى عِدَّة جامعاتٍ إسلاميةٍ في بلادٍ كثيرةٍ، وتخرَّجَ به الكثيرُ مِن الأساتذة والقُضاة والعُلماء، واختِيرَ عُضوًا في مجالسَ ومجامعَ علميةٍ مُتنوِّعةٍ، وشارك في مؤتمراتٍ وندواتٍ لا تُحصى.

 

[علومُه وشمائلُه]:

اشتهَرَ الشيخ عبد الفتَّاح بعِلمِ الحديث الشريف والعِنايةِ بالسُّنة النبوية حتى صار مَرجِعًا فيها، كما أتقنَ المذهبَ الحنفيَّ، مع اطِّلاعه الواسع على المذهب الشافعيِّ والفقهِ الإسلامي عامَّةً، وبلَغَ في علوم العربيةِ مَبْلَغًا عظيمًا، واهتمَّ بالشِّعر والنَّثْر على حدٍّ سواء، وفُتِح عليه في الكتابة، فأُوتيَ قلمًا سيَّالًا، رائقًا جذَّابًا، واضِحَ العبارة، قويَّ السَّبْك، تميَّزَ بأُسلوبٍ خاصٍّ به في أعماله العِلمِية وتحقيقاته الرَّصِينة، بحيث مَن اطَّلع عليها تبصَّرَ أنها للشيخ وإنْ لم يَسْبِقْ عِلمُه بذلك.

ازدانَ هذا كلُّه بوَفْرة العقل، ونَقاء الفِكْر، ورَجاحة الفَهْم، فضلًا عما رُزِقَه مِن حِدَّة الذَّكاء، وقوَّة الحافظة، وما امتلَكَه مِن خِفَّة الرُّوح وظَرافة المَنطِق، فكان مَجلِسُه حُلوًا خفيفًا على النَّفْس، لا يمَلُّه جليسُه، تتمثَّلُ فيه أخلاقُ القرآنِ والشَّمائلُ النبوية، فشِيمتُه الحِلمُ وسَعةُ الصدر وضبطُ النَّفْس، وهمُّه إفادةُ الخَلْق، وجمْعُ كلمةِ المسلمين، وأمَّا تواضعُه وزُهدُه وغزارةُ دمعِه وسَخاءُ يدِه؛ فممَّا سارَ بها الرُّكْبان، وعرَفها القاصي والدَّان، وقد لخَّصَ أحدُ العلماءِ -وهو السيد أحمد صقر- أخلاقَه، وصدَقَ في وصْفِه حين قال: «لو قيلَ للأخلاق: تجسَّدِي؛ لَكانت مُتمثِّلةً في الشيخ عبد الفتَّاح».

وأمَّا سَمتُه الخارجيُّ؛ فقد كان جميلَ الصُّورة، مُنوَّرَ الوجه، حسَنَ اللباس، تَعْلوه نَضْرةُ المُحدِّثين وجلالُهم وهَيْبتُهم، وكأنَّ الشاعرَ إبراهيمَ الرِّياحيَّ قصَدَه بقوله:

أهلُ الحديثِ طويلةٌ أعمارُهم             ووجوهُهم بدُعا النبيِّ مُنضَّرة

 

[خِصالٌ نموذجيَّةٌ لطالب العِلم]:

وأحبُّ أنْ ألفِتَ نظرَكم إلى ثلاث صفاتٍ منهجيَّةٍ اتَّسمَ بها الشيخُ رحمه الله تعالى، ويحسُن بطالب العِلم أنْ يتمثَّلَ بها:

أوَّلُها: التواضعُ العِلميُّ والمعرفيُّ

فإلى جانب تواضع الشيخ الخُلُقي والفِطْري مع مَن حوله، ورَغْمَ سَعةِ اطِّلاعه وموسوعيته في العلوم؛ فقد تحلَّى بالتواضع العِلمي؛ إذ إنَّه يحرِصُ على الفائدة العِلميَّة، ويتقبَّلُها مِن أيِّ جِهَةٍ كانت، ويقبَلُ النُّصحَ، ويَرجِعُ عن الخطأ إنِ استبانَ له، ولا يدَّعي الحقَّ المُطلَقَ، وأنَّ القولَ الذي اختاره هو الصَّوابُ لا غيرُ.

وبنَظْرةٍ عابرةٍ إلى ثنايا كُتُبه وتحقيقاته تظهَرُ هذه المعاني جَلِيَّةً واضحةً لا لَبْسَ فيها، بل كان إذا أحسَّ أنَّ مسألةً ما أشكَلَتْ على الطلاب، وعجَزوا عن استيعابها؛ يتَّهِمُ نفْسَه، ويقولُ: «أنا لا أُفْهِمُ... أنا لا أُفْهِمُ»، ثمَّ يُعيدُ المسألةَ، فيَنسِبُ التقصيرَ إلى نفْسِه، لا إلى طلابه.

 

والصِّفةُ الثانيةُ: تحقيقُه للمسائل العِلميَّة وتحريرُها بعيدًا عن الهوى أو التعصُّب المذهبي والحِزْبي

وقد كان الشيخُ أُعْجُوبةً ومَضْرِبَ المثَل في الإتقان والدِّقَّة، وهكذا ينبغي على طالب العِلم أنْ يكونَ دقيقًا في عِباراته، مُتجرِّدًا في مواقفه، حريصًا على تحريرِ مسائل العُلوم والألفاظ والمعاني.

وأذكُرُ هنا حادثةً عجيبةً -وما أكثَرَها في حياة الشيخ!- وهي أنَّ تلميذه الجليل الشيخ محمد عَوَّامة -حفظه الله تعالى- دخَل على الشيخ عبد الفتَّاح يومًا، فرأى الغُرفةَ مفروشةً بالكتب، لا يكاد يجِدُ الرجُلُ مكانًا للجلوس، فسأل شيخَه: «خيرًا إن شاء الله!»، فقال: «مرَّتْ بي كلمةٌ في هذا الكتاب، ومنذ ثلاثةِ أشهُرٍ وأنا أتعَبُ في الكَشْف عنها! وقد انكشفَتِ الآنَ والحمدُ لله؛ فلذلك جئتُ بالكُتُب إلى هنا واحدًا بعد واحدٍ».

كما أنَّ الشيخ كان حريصًا جدًّا على الأمانة العِلميَّة في عَزْو الأقوال إلى أصحابها، ومما يُؤثَرُ عنه قولُه: «قد التزَمْتُ في كُتُبي -صغُرَتْ أم كبُرَتْ- عَزْوَ كلِّ خبرٍ أو جملةٍ -بل كلِّ كلمةٍ- إلى قائلِها؛ أداءً للأمانة العِلميَّة».

 

والصِّفةُ الثالثةُ: الأدبُ مع العلماء والسَّلَف الصالح

وهذه سِمَةٌ بارزةٌ في منهج الشيخ عبد الفتَّاح، فهو يعرفُ قَدْرَهم حقَّ المعرفة، ويُجِلُّهم ويتأدَّبُ معهم وإنْ خالف بعضَهم في اجتهادٍ أو رأيٍ، ولا يَنتقِصُ أحدًا منهم، فكان قلمُه نظيفًا لم يتلوَّثْ بأعراض العلماء، مع أنَّه -رحمه الله- قد تعرَّضَ إلى كثيرٍ ممَّا يتعرَّضُ له أهلُ العِلم، فصبَرَ وتغافَلَ، ولم يرُدَّ الإساءةَ بالإساءة، فحَرِيٌّ بطالب العِلم أنْ يكُفَّ لسانَه وقلمَه عن أعراض العلماء العاملين؛ كي ينفَعَ اللهُ بعِلمه، ويرفعَ منزلتَه عنده.

 

[وفاتُه]:

هذا ما فتَح اللهُ به عليَّ وسمَح به الوقتُ مِن الحديث عن حياة العلَّامة الشيخ عبد الفتاح أبو غُدَّة، ولقد طوَيتُ الكلامَ عن كثير مِن الزوايا المتعلِّقةِ بترجمته، ويكفيه فضلًا وعُلُوًّا ذلك الإرثُ الضَّخْمُ الذي خلَّفه الشيخُ مِن تلاميذَ بَرَرةٍ، وتصانيفَ بديعةٍ، وتحقيقاتٍ رصِينةٍ قاربتْ 80 كتابًا.

وبعد رحلةٍ حافِلةٍ بنشر العِلم وتربية الأجيال وخِدْمة السُّنَّة النبويَّة والعلوم الشرعية، انتقلَ الشيخُ إلى الرَّفيق الأعلى عام 1417هـ/1997م في مدينة الرِّياض عن عُمرٍ ناهزَ الثَّمانين، ودُفِن في مقبرة البَقِيع بالمدينة المُنوَّرة، فرحِمه الله تعالى رحمةً واسعةً، وجزاه عن أمَّة الإسلام خيرَ الجزاء.

 

[التعريفُ بكتاب «صفَحاتٌ مِن صَبْر العلماء على شدائد العِلم والتحصيل»]

والآن أنتقلُ إلى المِحْوَر الثاني مِن هذه الكلمة، وهو التعريفُ بكتابه «صفَحاتٌ مِن صَبْر العلماء على شدائد العِلم والتحصيل».

والحقيقةُ أنَّ ممَّا تميَّزَ به هذا الكتابُ: أنَّه لا يُغني التعريفُ به عن مطالعة كلِّ حرفٍ فيه، بل إدمانِ مُطالعتِه في كلِّ فترةٍ مِن الزمن؛ شَحْذًا للهِمَم، وتنشيطًا للعزائم، وسيكونُ الحديثُ عنه مِن جهاتٍ عِدَّةٍ، أختصرها جدًّا؛ مُراعاةً لما تبقَّى مِن الوقت.

 

أولًا: طبعاتُه وترجمتُه

طُبِع الكتابُ طبعاتٍ كثيرةً، أولُها في بيروتَ سَنةَ 1971م، وقد اعتمَدتُ على الطبعة العاشرة التي صدَرتْ سَنةَ 2012م عن دار البشائر الإسلامية، وتقع في أكثرَ مِن 500 صفحةٍ، وتميَّزتْ بزيادة ترجمةٍ للشيخ عبد الفتَّاح بقلم ولده الشيخ سلمان، واللافتُ للنظَر في جُلِّ أعمال الشيخ أنَّ الطَّبعاتِ اللاحقةَ ليستْ مِثلَ التي قبْلَها، فالشيخُ رحمه الله يزيد ويُعدِّل ويُنقِّح في كلِّ طبعةٍ جديدةٍ تصدُر للكتاب، حتى قيل: «إنَّ كلَّ طبعةٍ لكتابٍ مِن كتبه بمنزلةِ كتابٍ جديدٍ».

والكتابُ قام بترجمة الطَّبعة الأُولى منه إلى اللغة التركية الدكتور فاروق بَشَر faruk beşer، وسماه:

(ilim uğrunda yaşanmış hayat hikayeleri)، كما تُرجِم الكتابُ إلى لغاتٍ أخرى؛ كالأُورديَّة.

 

ثانيًا: الباعثُ على جَمْع الكتاب

وهو ما طلبَتْه إدارةُ كُلِّية الشريعة بالرِّياض مِن إلقاء الشيخ مُحاضرةً عامَّةً، فلبَّى الشيخُ دعوتَهم، ودوَّنَ بعضَ الصفحات، ثم أضاف إليها ما وصَل إليه الكتابُ بصورته الأخيرة على مراحلَ مُتعدِّدةٍ.

 

ثالثًا: جوانبُ الكِتاب

قسَّم الشيخُ رحمه الله كتابَه إلى ثمانية جوانبَ مِن حياة العلماء:

الجانبُ الأولُ: في أخبارهم في التَّعَب والنَّصَب والرِّحلةِ في طلب العِلم وقَطْعِ المسافات:

ومِن اللطائف التي ذكَرها الشيخُ: أنَّ أولَ مَن سعى لطلب العِلم سيدُنا آدمُ عليه السلام؛ لحديثٍ مشهورٍ في «الصحيحَين».

ورحَل كذلك سيدُنا موسى عليه السلام في البَرِّ والبحر لتعلُّم ثلاثِ مسائلَ مِن الخَضِر.

ثم عرَّج الشيخُ على ذِكْر قِصَصٍ عن السلف في رِحلتهم لطلب العِلم، ومِن أعجبِها وأشهرِها رِحلةُ سيدنا جابر بنِ عبد الله رضي الله عنه مَسِيرةَ شهرٍ إلى سيدنا عبد الله بنِ أُنَيْسٍ رضي الله عنه لسماعِ حديثٍ واحدٍ منه، ورحَل التابعيان الجليلان الحسنُ البصريُّ ومسروقٌ لأجْلِ حرفٍ؛ أي: كلمةٍ واحدةٍ.

بل بلَغَ مِن طُول سفرهم أنَّ الحافظ عمر بنَ عبد الكريم الرَّوَّاسيَّ سقطتْ أصابعُه في الرِّحلة مِن شدَّة البَرْد! وبالَ الدمَ مرتين الحافظُ محمد بنُ طاهر المقدسيُّ وهو يطلب الحديث! فللهِ دَرُّهم! بذَلوا أسمى ما يَملِكون لأعَزِّ مقصودٍ.

ثم ختَم الشيخُ هذا الجانبَ بكلماتٍ أشْبَهَ بالزَّفَرات، قارنَ فيها بين دراسة السلف ودراسة طلاب الجامعات اليوم، حيث ينتظر أحدُهم الخمسين دقيقةً بفارغ الصَّبْر حتى ينتهيَ الدرسُ ويخرجَ، ويكتفي بالملخَّصات، ولا يكاد يُتِمُّ كتابًا.

 

الجانبُ الثاني: في أخبارهم في هَجْر النوم والرَّاحة والدَّعَة [أي: السُّكون والاستقرار] وسائر اللَّذَاذات.

وصدَّرَ الشيخُ هذا الجانبَ بقول الإمام يحيى بنِ أبي كثير: «لا يُستطاعُ العِلمُ براحة الجسم»، وختمَه بكلماتٍ نافعاتٍ عن عُلُوّ الهِمَّة نقَلها عن ابن الجَوْزي.

 

الجانبُ الثالثُ: في أخبارهم في الصبر على الفقر، وشَظَفِ العَيش ومَرارتِه، وبيعِ الملبوسات أو المفروشات.

وهذا الجانبُ يُعَدُّ أوسعَ الجوانب في كتابه، والمرادُ بالفقر هُنا -كما ذكَر الشيخُ-: أن يكون الإنسانُ فقيرًا، لكنه راسخُ الطُّمأنينة بالله تعالى، لا يُؤثِّر الفقرُ على عقله وفِكره همًّا وغمًّا؛ كما حصَل لسيدنا أبي هُريرةَ رضي الله عنه، فقد دعاه فقرُه إلى مُلازمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان فقرُه حسَنةً عليه وعلى الناس.

 

الجانبُ الرابعُ: في أخبارهم في الجوع والعطَش في الهواجر [أي: عند شدَّة الحَرِّ].

 قال الشيخُ رحمه الله: «هو يقع لمثل هؤلاء العلماءِ أكثرَ مِن غيرهم؛ لأنهم لحفظِ كرامتهم وشديدِ أنَفَتهم وكراهتِهم المهانةَ والانكسارَ للطلبِ يَصبِرون على الجوع، ولا يَطْرَحون أنفسَهم على الناس...».

 

الجانبُ الخامسُ: في أخبارهم في العُرْي الدائم، ونَفاد المال والنَّفَقات في الغُرُبات.

 

الجانبُ السادسُ: في أخبارهم في فَقْدِ الكُتُب، أو المُصابِ بها، أو بيعِها والخروجِ عنها، أو نحوِ ذلك عند المُلِمَّات، أو تحصيلِها ببيع الملبوسات.

والكُتُبُ في حياة العالِم -كما ذكَر الشيخُ- تحُلُّ منه محَلَّ الرُّوحِ مِن الجسد، والعافيةِ مِن البدن، وساقَ في آخِر هذا الجانب قصةَ حصولِه على كتاب (فَتْح باب العِناية بشرح كتاب النُّقاية) للملَّا علي القاري، وهي قصةٌ عجيبةٌ مليئةٌ بالدُّرَر والفوائد.

 

الجانبُ السابعُ: في تبتُّلهم وتَرْكهم الزواجَ -وهو مِن المرغوبات- في سبيل الازدياد مِن العِلم، والانقطاعِ له، والتفرُّغِ للارتحال والتأليف والاستفادات والإفادات.

وهذا مبحثٌ طريفٌ ظريفٌ، أفردَه الشيخُ بالتصنيف في كتابٍ سماه: «العلماء العُزَّاب الذين آثَروا العِلمَ على الزواج».

وههنا همسةٌ وإضاءةٌ ألخِّصُها مِن كلام الشيخ، فأقولُ: إن الزواج في الإسلام مُرغَّبٌ فيه أتمَّ الترغيب، إلى جانبِ أنه أمرٌ فطريٌّ مركوزٌ في الطبيعة الإنسانية، ولعلَّ سائلًا يسألُ: ما هي الأسبابُ التي دعتْ بعضَ العلماء إلى تَرْك الزواج مع عِلمِهم بأحكام الزواج وفضلِه ومَخاطرِ العُزوبة ومَتاعبِها؟

والجوابُ عن ذلك: أنه مَسْلَكٌ شخصيٌّ فرديٌّ، اختاروه لأنفسهم، حيث أمِنوا على أنفُسهم مِن شرور العُزوبية، ورأوا أن الزواجَ بما يحتويه مِن مشاغلِ الزوجة والأولاد والحياة المادية والمعنوية ستُبعدُهم عن العِلم وتحصيله، فقدَّموا العِلمَ عليه، ولم يدْعوا أحدًا مِن الناس إلى الاقتداء بهم.

وذكَر الشيخُ مِن هؤلاء العلماء العُزَّاب: ابنَ جريرٍ الطَّبَري، وبِشْرًا الحافي، وجار الله الزَّمَخْشَرِي، ومحيي الدين النَّوَوِي، وابنَ تَيْمِيَة، وغيرَهم مِن الأعلام الكبار.

 

الجانبُ الثامنُ: في بَذْلِهم المالَ الكثيرَ، وبيعِ المملوكات والمقتنَيات لتحصيل العِلم، والارتحالِ ولقاءِ الشيوخ، وشراءِ الكُتُب والورَق، وتدوينِ المؤلَّفات.

ثم ختَم الشيخُ هذه الجوانبَ الثمانيةَ بذِكْر خبرَين جامعَين، اجتمعَتْ فيهما جُلُّ الجوانب المتقدِّمة، ثمَّ أتبعَهما بثلاثة أخبارٍ جامعةٍ ورَد فيها كثرةُ التَّطواف في الأرض لتحصيل العِلم، وشدَّةُ الحِفاظ على الأوقات.

وفي آخِر الكتاب أفرَدَ خاتمةً مُطوَّلةً فيها نحوٌ مِن 50 لَمْحةً، لخَّصَ فيها ما يُستفاد مِن هذه الجوانب والصفَحات، وما أنفَسَها مِن كلمات! وأنفَعَها مِن عِظاتٍ بيِّنات!

 

رابعًا: منهجيةُ الشيخ في الكتابِ ومزاياه:

- إنَّ المتتبِّعَ لمصنَّفات الشيخ عبد الفتَّاح وتحقيقاته يلحَظُ مِيزةً فريدةً في أسلوبه، وهي صناعةُ آليَّةِ تخاطُبٍ بينه وبين قارئه، فيشعُر القارئُ وكأنَّ الشيخَ أمامَه يُحدِّثه ويتفاعل مع حديثه، فالتأليفُ والتحقيقُ عند الشيخ ليسا بصَنْعةٍ جافَّةٍ يتكسَّبُ مِن ورائها، أو وسيلةٍ مصلحيَّةٍ يسعى لتحصيل شُهرةٍ خلالَها، بل هُما رُوحٌ وحُبٌّ مُنسَكِبان في هيئةِ كتابٍ، وممَّن شاركَه هذه الخَصْلةَ النادرةَ: الشيخُ علي الطَّنْطاوي، والشيخ محمد الغزالي المصري، رحِمَهم الباري تعالى.

والذي ساهَمَ في إبرازِ هذا المنحى في كِتاب الشيخ: تنوُّعُ التراجم والقِصَص طُولًا واختِصارًا، ومَزْجُه بين النَّثْر والشِّعْر، والأقوالِ المأثورةِ والأخبار والحكايا المرويَّة، فيأنَسُ القارئُ، ولا يمَلُّ مِن قراءته والتفاعُل معه.

- ومِن ميِّزات الشيخ: الانتقاءُ والاختيارُ، وقد قالوا قديمًا: «اختيارُ المرءِ قِطْعةٌ مِن عَقْله»، وهو ما يَنطبِقُ على الشيخ تمامًا، فهو صيَّادٌ ماهرٌ، وجَوْهَرِيٌّ حاذقٌ، يَنتقي مِن بُطون الكُتُب ما يدُلُّ على ذَوْقه الرَّفِيع، وعَقلِه الفَذّ البديع.

- ومِن ميِّزاته أيضًا: جَمْعُ الكتابِ على فتراتٍ مُمتدَّةٍ، حيث جمَعه على مدارِ عشرين سَنةً، كلَّما وجدَ شيئًا يُناسبُ الموضوعَ كتَبَه في قُصاصةٍ، ولذا نجدُ الفَرْقَ بين الطَّبعة الأولى والثالثةِ كبيرًا جدًّا، وصَل إلى ضِعْف حَجْمِ الكتاب.

- كما حرَص الشيخُ على ضَبْط الكلمات وشَكْلها، ولا سيَّما أسماءَ الأعلام والبُلدان والأماكن وكلَّ ما يُشْكِل، ونبَّهَ على ما وقَفَ عليه مِن أخطاءٍ أو تحريفاتٍ في بعض المصادر بدقَّةٍ مُتناهيةٍ، فقد يَرجِعُ لأجْل ضبطِ كلمةٍ أو حرفٍ إلى عشرات المصادر، وربما يأخذُ هذا منه الأسابيعَ والأشهرَ، وعُنِيَ أيضًا بعَزْوِ كلِّ قولٍ أو خبرٍ أو قصَّةٍ إلى مصدرها، وترقيمِ الأخبار الواردة، مع ذِكْر سَنةِ ولادةِ صاحبِ الخبر ووفاتِه عند أوَّلِ موضعٍ ورَدَ ذِكْرُه فيه، مُرتِّبًا الأخبارَ على ترتيبِ السِّنينَ والوَفَيات.

وبعدُ: فهذه قُطوفٌ دانية، وشذَراتٌ عاطرة، ولمَحاتٌ خاطفة، أبحَرْنا خلالَها في سيرة العلَّامة الشيخ عبد الفتَّاح أبو غُدَّة، وعرَّفتُ بكتابه «صفَحاتٌ مِن صَبْر العلماء على شدائد العِلم والتحصيل».

 

ويَطِيبُ لي أن أختِمَ هذه الكُلَيماتِ بتوضيحٍ، ووصيَّةٍ، ووفاءٍ:

أمَّا التوضيحُ؛ فإنَّ الشيخَ ما ذكَرَ ما ذكَرَ في كتابه مِن عجائب النوادر والأخبار إلا لرفعِ الهِمَم، وتبصرةِ طلبة العِلم بقيمة عُلمائِهم، ولا شكَّ بأنَّ التوازن في جميع شؤون الحياةِ مَطْلَبٌ مرغوبٌ، وهو ما تحتاجُ إليه الأمَّةُ في زمانِنا هذا، وهو سُنَّةُ الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قالَ -كما في «الصحيحَين» واللفظُ للبُخاري-: «إنَّ لربِّكَ عليكَ حقًّا، ولنفْسِكَ عليكَ حقًّا، ولأهلِكَ عليكَ حقًّا، فأعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه».

وأمَّا الوصيَّةُ؛ فأُوصي كلَّ واحدٍ مِن الحاضرين بإدمان قراءة هذا الكتاب، وتقليبِ النَّظَرِ فيه، وتلخيصِه، وما خابَ -إنْ شاء الله تعالى- مَن واظبَ على قراءتِه كلَّ عامٍ ولو مرَّةً.

وأمَّا الوفاءُ؛ فقد رجا الشيخُ في خاتمةِ مقدِّمةِ كتابه أنْ ندعوَ له بدعوةٍ صالحةٍ، ووفاءً له وتنفيذًا لرجائِه أدْعو بدعوةٍ جامعةٍ، فأقولُ: جزاكَ اللهُ عنا كلَّ خيرٍ، وجعلَ ما قدَّمْتَه مِن علمٍ ودعوةٍ وتأليفٍ وتحقيقٍ وخدمةٍ للأمَّة في ميزان حسناتكَ، إنَّه وليُّ ذلك والقادرُ عليه، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين.

والسلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاتُه.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين