العقل والفقه في فهم الحديث النبوي

العقل والفقه في فهم الحديث النبوي

 

مصطفى أحمد الزرقا

 

التقديم للبحث:

من المقرر الثابت عند علماء الإسلام أنه لا يوجد في عقيدته وأحكامه ما يصادم العقل بل بالعكس، إنه دعا الناس الضالين من وثنيين ومشركين وأهل الكتب السماوية السابقة إلى استعمال عقولهم التي جعلها الله تعالى في الإنسان ميزاناً، وأن يُحكموها فيما يدعوهم إليه الإسلام من الإيمان والأسس التي ترتكز عليها عقيدته وشريعته، فيتركوا ما هم عليه من انحرافٍ وتحريف وتخريف وأوهام لا يقبلها عقل عاقل بصير.

والآيات التي تناولت ذلك في القرآن الكريم أكثر من أن تحصى، كقوله تعالى: { إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، { لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، { أَفَلَا تَعْقِلُونَ}، {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا}، وهنا يجب التنبيه للتمييز بين مفهومين متقاربين في ظاهر التعبير لكنهما متباينان كل التباين في الحقيقة والآراء، وهما:

ما يصادم العقل ويناقضه من العقائد والمفاهيم والأحكام والآراء، وما تخفى على العقل حكمته وعلته فلا يستطيع العقل معرفة حكمته وتعليله. لكنه لا يصادم العقل .

فالنوع الأول (المصادم لحكم العقل) لا يمكن أن يأتي في دين إلهي (سماوي) أصلاً وبخاصة في الإسلام. وإذا وجد شيء من ذلك في دين إلهي ذي كتاب منزل جاء به في الأصل رسول بوحي من عند الله تعالى فمعنى ذلك أنه قد دخل عليه التحريف والتغيير ولم يبق سليماً نقيأ كما جاء به رسوله.

وأما النوع الثاني، وهو ما تخفى على العقل حكمته وتعليله ولكنه لا يصادم العقل، فهذا لا يخلو منه دين سماوي. ذلك لأن كل دين إلهي موحى به إلى رسول من رسل الله تعالى إنما جاء لإصلاح حياة من أرسل إليهم ذلك الرسول بعدما فشا فيهم الفساد وانحرف الاعتقاد إلى الوثنية أو الشرك أو الخرافات. وإن كل إصلاح لحياة البشر بعد فسادها لا يمكن أن ينجح في التغلب على دواعي الفساد والانحراف والانجراف مع الأهواء والأطماع. وسائر المغريات إلا بترسيخ عقيدة أساسية هي الإيمان باليوم الآخر يوم الحساب والثواب والعقاب.

وهذا مرتبط تمام الارتباط بالإيمان الجازم بالله تعالى العليم القدير وسائر صفاته الكمالية. فكل دين سماوي جاء به رسول لابد فيه من التركيز الشديد على هذا الأساس، لكي يقاوم الإنسان أطماعه وأهواءه الانحرافية؛ خشية سوء مصيره في ذلك اليوم الآخر.

وكل هذا من المغيبات التي لا بد للمؤمن بدين سماوي أن يعتقد بها جازماً مُتيقناً دون أدنى ارتياب، وتدعمها في كل دين سماوي عبادات يوجبها الدين على أتباعه. لتذكيرهم بربهم وباليوم الآخر بصورة مستمرة، ليحاسبوا أنفسهم في هذه الدنيا فيصلحوا سلوكهم إذا استهوتهم الأطماع والشهوات، وأحدثت لهم غفلة عن الله تعالى ويوم الحساب.

أي أن كل دين سماوي لابد أن يرتكز على الإيمان بالغيب الذي لا يستقل العقل البشري بإدراكه، ولا بإدراك ما يستتبعه ويستلزمه من العبادات وحكمة أحكامها التفصيلية وترتيباتها التي أوجبها الله تعالى على المكلفين بلسان رسله ولكنها في الوقت نفسه لا تصادم العقل، فلا يستطيع العقل أن ينفيها أو يحكم بعكسها.

وميزان التمييز بين ما يصادم العقل الإنساني فلا يجوز أن يوجد في دين سماوي صحيح. وبين ما يخفى على العقل فيجب قبوله وإن لم يستطع عقل المكلف معرفة سره وحكمته إن ميزان هذا التمييز: أن ما يصادم العقل هو كل ما يكون للعقل حكم أولي بخلافه ينافيه ويرفضه .

ومعنى الحكم الأولي للعقل أنه من المسلَّمات التي يدركها العقل الإنساني بالفطرة ولا يحتاج إلى استدلال وإثبات، بل ينطلق للاستدلال بها على ما سواها من المدارك العقلية .

مثال ذلك: حكم العقل باستحالة اجتماع النقيضين، كالحركة والسكون في مكان واحد ووقت واحد. فلا يمكن عقلاً أن يكون شيء ما متحركاً وساكناً في وقت واحد، بل هو إما أن يكون متحركاً في لحظة ما أو ساكناً فيها، وقد يكون متحركاً في لحظة أخرى .

ومثل ذلك أن يكون أحد الكائنات مخلوقاً وخالقاً للكون، فهذا مرفوض في أوليات العقل .

ومثل ذلك أيضاً حكم العقل بأن جزء الشيء أصغر من كله، وأن الواحد نصف الاثنين من حيث العددية. فقد يكون أحد الاثنين أكبر من الآخر مادة وكمية، ولكنه من حيث العددية المجردة هو واحد فهو نصف الاثنين حتماً.

فما يصادم العقل لا يمكن أن يوجد في الإسلام، ولا في دين إلهي منزل لم يطرأ عليه تغيير وتبديل. أما ما يخفى على العقل إدراكه من المغيبات ومعرفة حكمته. فلا يخلو منه دين إلهى منزل، وهو موجود أيضاً في الإسلام الذي قامت عقيدته وشريعته على العقل والعلم.

فالعقل لا يستطيع أن يدرك: لماذا كانت صلاة الفجر مثلا في العبادات الإسلامية ركعتين، وصلاة الظهر أربعاً، وصلاة المغرب ثلاثاً؟ فحكمة ذلك عند الله الذي له أن يفرض على عباده المؤمنين عبادته كما هو يريد، وإن لم يعرفوا سرها، ولا يعتبر ذلك في الإسلام أمراً مصادماً للعقل، إذ ليس للعقل حكم أولي مسبق يوجب خلاف هذا الترتيب في الصلوات .

إن تجلية هذا الفرق بين ما يصادم العقل وما يخفى على العقل مهمة جداً لدفع الالتباس على من ليس لهم رسوخ في علوم الشريعة، كيلا يفتنهم المضللون بأسئلة لا يُحيرون فيها جواباً.

ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية الذي وضع كتابه العظيم الذي سماه (موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول) في أحد عشر جزءا فأوضح وجلى كثيراً من الحقائق، وأزال كثيراً من الشبهات والالتباس .

بعد هذا أقول: إن عنوان بحثى هذا وهو: (العقل والفقه في فهم الحديث النبوي) هو إطار عام له عندي حلقات عديدة . وأقدم الآن في هذه الرسالة الصغيرة عدداً من هذه الحلقات، التي أرجو الله عز وجل أن ينفع بها أهل العلم والدعوة إلى الله والحمد لله أولاً وآخراً.

تحميل الملف