العقل في المعرفة الإسلامية ضرورة (1)

لقد فزع ابن حبان ما رآه في زمنه من بداية ظهور بعض الأمور المناقضة للعقل، فأراد أن يُنبِّه إلى ذلك، ويضع الأسس والمبادئ التي تكفل للممارسة العقلية طريقها المستقيم، لوعيه بدور هذه الأداة الجبَّارة في رفع شأن المسلمين، إذا أعطوها ما تستحقُّ من عِناية.

إنك إذ تقرأ كلمات ابن حبان ناعياً فيها بعض مظاهر (اللاعقل) في عصره، تأخذك من الحسرة، إذ أن عصره هو من أزهى عصور الحضارة الإسلاميَّة، ونشير إليه دائما بآيات التقدير والإعجاب، وتعدُّد مظاهر التقدم والتطور والعقلانية فيه.. فماذا كان الرجل سيقول لو قدر له أن يعيش في أواخر عصر المماليك مثلا، وأواخر العهد العثماني، بل وفي عصرنا الحالي، وما يشيع فيه من أساليب تفكير ومناهج سير.

يقول ابن حبان: 

(أما بعد: فإنَّ الزمان قد تبيَّن للعاقل تغيره، ولاح للبيب تبدُّله فنبغ فيه أقوام يدَّعون التمكُّن من العقل باستعمال ضد ما يوجب العقل من شهوات صدورهم، وترك ما يوجبه العقل بهجسات قلوبهم، جعلوا أساس العقل الذي يعقدون عليه عند المعضلات: النفاق والمداهنة، وفروعه عند ورود النائبات حسن اللباس والفصاحة، وزعموا أنَّ مَن أحكم هذه الأشياء الأربع فهو العاقل الذي يجبُ الاقتداء به، ومن تخلَّف عن إحكامها فهو الأنوك - الأحمق - الذي يجب الازورار عنه ! 

ذلك هو المرض الذي أفزع ابن حبان: النفاق والمداهنة، وكلاهما لطبيعة الحال يفتقدون شروط التعقل، وما لا يقل عنهما خطورة، أن يكسيا لباساً يغر السُّذَّج والبسطاء من الناس: حسن اللباس والفصاحة، والمظهر واللفظية.

من أجل هذا كان لابد من إشهار سلاح التزييف في وجه اللاعقليين من المنافقين والمداهنين، من أصحاب اللفظيَّة الفارغة والشكليَّة الخاوية!

من الرجل؟

هو أبو حاتم محمد بن حبان البستي، الإمام العلامة، الفاضل، المتقن، كان مُكثراً من الحديث والرحلة، والشيوخ، عالماً بالمتون والأسانيد، أخرج من علوم الحديث ما عجز غيره عنه، ومن استقرأ كتاباتِه أدرك من غير شك، أنَّه كان طويلَ الباع، واسع الأفق الثقافي.

طاف العديد من البلدان، من كلٍّ يأخذ من أعلم علمائها، من وراء النهر حتى الإسكندرية بمصر، قال عنه الحاكم أبو عبد الله الحافظ أبو حاتم البستي القاضي: كان من أوعية العلم في اللغة والفقه والحديث والوعظ، ومن عقلاء الرجال، صنَّف فخرج له من التصنيف في الحديث ما لم يُسبق إليه، وولي القضاء بسمرقند وغيرها من المدن، ثم ورد (نيسابور) سنة 334هـ.

من بين تصانيفه العديدة، كتاب (الهداية إلى علم السنن)، قصد فيه إظهار الصناعتين اللتين هما صناعة الحديث والفقه، يذكر حديثاً، ثم يذكر من ينفرد بذلك الحديث، ومن أي بلد هو، ثم يذكر كل اسم في إسناده من الصحابة إلى شيخه بما يعرف من نسبته ومولده وموته وكنيته وقبيلته وفضله وتيقظه، ثم يذكر ما في ذلك الحديث من الفقه والحكمة، فإن عارضه خبر، ذكره وجمع بينهما، وإن تضادَّ لفظه في خبرٍ آخر تَلطَّف للجمع بينهما، حتى يعلم ما في كل خبر من صناعة الفقه والحديث معاً. 

وقد توفي عام 354 هـ في شهر شوال.

أهمية البحث في العقل:

والكتاب الذي نريد أن نقف عنده تحليلاً لأفكاره وإبرازاً لاتجاهاته وتعميقاً لفلسفته، هو المعنون بـ (روضة العقلاء ونزهة الفضلاء) والذي قام بتحقيقه وتصحيحه المحقق المعروف محمد محيي الدين عبدالحميد وكل من محمد عبدالرزاق حمزة، الذي كان مدرساً بالمسجد الحرام، ومحمد حامد الفقي الذي كان رئيساً لجماعة أنصار السنة المحمدية بمصر، وطبع في مطبعة السنة المحمدية بالقاهرة عام 1369 هـ الموافق عام 1949م.

والذي يشدُّ انتباه القارئ لهذا الكتاب، هو هذا (الاحتفاء) الكبير الواضح بـ (العقل) مما يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أنَّ الحضارة التي تقوم على احترام العقل وحسن استثمار إمكاناته وتوظيفه، وإزالة الحواجز التي تحول بينه وبين الانطلاق إلى آفاق البحث الحر والتفكير الناقد، إنما هي حضارة رشيدة، لديها من مقوِّمات القوة الذاتية ما يجعلها لا تخشى إطلاق سراح العقل، بل نرى في ذلك إظهاراً لقوتها وقدحاً لزناد القدرات المعرفية لأبنائها.

وكان هذا هو بالفعل حال الحضارة الإسلامية، مما يبدد ذلك الوهم الشائع عند بعض المعاندين، من تعارض بين العقل والشرع، ففي هذه الحضارة تعانق طرفاها: العقل والشرع، فكانت عظمتها، وكانت إنجازاتها التي ستظل محيِّرة للباحثين.

ما هو العقل؟

يُعرِّف ابن حبان العقل بأنَّه (اسمٌ يقع على المعرفة بسلوك الصواب، والعلم باجتناب الخطأ، فإذا كان المرء في أول درجته، يسمى أديباً، ثم أريباً، ثم لبيباً، ثم عاقلاً، كما أنَّ الرجل، إذا دخل في أول الدهاء، قيل له: شيطان، فإذا عتا في الطغيان قيل: مَارِدٌ، فإذا زاد على ذلك قيل: عبقري، فإذا جمع إلى خُبثه شدَّة شر، قيل: عفريت.

وكذلك الجاهل، يقال في أول درجته: المائق، ثم الرقيع، ثم الأنوك، ثم الأحمق.

ويفرِّق ابن حبان بين ما هو فطري وما هو مُكتسب بالنسبة للعقل، ذلك القدر المعبر عنه بالقدرات والاستعدادات الفطريَّة، وما يحدث لهذه القدرات والاستعدادات من نمو نتيجة ما تتعرض له من مؤثرات البيئة والتربية، وهو يعبر عن هذه المعاني بلفظه قائلا: 

(العقل نوعان: مطبوع ومسموع، فالمطبوع منهما كالأرض، والمسموع كالبذر والماء، ولا سبيل للعقل المطبوع أن يخلُص له عمل محصول دون أن يَرِدَ عليه العقل المسموع، فينبهه من رقدته، ويطلقه من مكامنه، يستخرج البذر والماء ما في قعور الأرض من كثرة الريع.

فالعقل الطبيعي من باطن الإنسان بموضع عروق الشجرة من الأرض، والعقل المسموع من ظاهره كتدلي ثمرة الشجرة من فروعها.

وفي ذلك قال محمد بن إسحاق بن حبيب الواسطي: 

رأيت العقل نوعين = فمطبوع ومسموع 

ولا ينفع مسموع = إذا لم يك مطبوع 

كما لا تنفع الشمس = وضوء العين ممنوع 

فليس المهم إذن مقدار ما يملك المرء من استعدادات وقدرات عقلية فقط، وإنما لابدَّ من استثمار هذه الاستعدادات والقدرات. إنها مثل أي مصدر من مصادر الثروة، لابدَّ لها من (تشغيل)، لابدَّ أن تسير في دورتها، وكلما تسارعت دورتها، كلما جاءت بالعائد المطلوب، بل وبأكثر مما هو مطلوب. 

وليس من المتصور بطبيعة الحال أن يتمَّ ذلك (آلياً) وإنما لابدَّ من الفعل القصدي.. لابدَّ من إثراء البيئة المحيطة بالإنسان، إثراء ثقافياً يفتح آفاق التعلم والتعليم، فذلك من شأنه أن يتيح للعقل فرصة العمل وفرصة النمو، والأهم من هذا وذاك أن يتيقَّن من أنَّ هذا الثراء الثقافي لن تكون له فاعلية إذا عاش جواً خانقاً بقيود الرأي !

والعدو اللدود للعقل هو (الهوى)، ومن ثَمَّ فإنَّ من واجب المرء أن يَسير معهما بمنهجين مختلفين، فما هو مطلوب للعقل، يسرع في تلبيته، وما هو مطلوب إشباع الهوى، يسوف في تلبيته، ذلك أنَّ مثل هذا الأسلوب من شأنه أن يُتيح للعقل نمواً أسرع من نمو الهوى، وبذلك يزداد قوة وقدرة عليه، فتستقيم حياة الإنسان.

الضرورة والأهمية:

ولكي يبين ابن حبان فضل العقل وأهميته، كان من الضروري أن يستعين على ذلك بأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن المشكلة التي واجهته، أنَّ الأحاديث التي أشاد فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بفضل العقل قد رواها نفرٌ من الرواة الذين لا يثقُ صاحبنا فيهم، مثل: أبان أبي عياش، وسلمة بن وردان، وعمير بن عمران، وعلي بن زيد، والحسين بن دينار، وعبَّاد بن كثير، وميسرة بن عبد ربه، وداود بن المحبر، ومنصور بن صفر وذويهم.

لكنه يروي لنا حديثاً، لا تأتي فيه لفظة (العقل)، بيد أن دراسته وتحليله تؤكد أنه يحتوي على المعاني المرادة من هذه الكلمة. أما الحديث فهو: (إنَّ الله يحبُّ مكارمَ الأخلاق ويكره سفاسفها)، فهنا نجد أنَّ محبة مكارم الأخلاق بالنسبة للفرد وكراهته سفاسفها، هو نفس العقل، فالعقل به يُكَوَّن الحظ، ويؤنس الغربة، وينفي الفاقة، ولا مال أفضل منه، ولا يتم دين أحد حتى يتم عقله.

ولا أدري حقاً لماذا لم يستعنْ ابن حبان بآيات القرآن الكريم، وهي أكثر من أن يتسع لها هذا المقال تنبيهاً إلى ضرورة التعقل والتفكر والتدبر والعلم والفقه، إلى غير ذلك من مرادفات ووظائف يستطيع القارئ أن يقرأ عنها المزيد في كتيب للدكتور أحمد الحوفي: (القرآن والتفكير)، وكتاب عباس محمود العقاد: (التفكير فريضة إسلامية)، والعديد من كتبنا في التربية الإسلامية.

(للمقالة تتمة في الجزء الثاني)

المصدر: (مجلة منبر الإسلام، السنة الحادية والخمسون، رمضان 1413 - العدد 9).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين