العُسر والابتلاء يعقبه النَّصر والاصطفاء

مقدمة:

لقد خلق الله عز وجل الحياة، وجعل فيها الغِنى والفقر، والقوّة والضّعف، والصّحّة والسّقم، والشّدّة والرّخاء، ليرى مَن يتّقي ويصبر، ومَن يتبرّم بقضائه ويكفر، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام: 165].

وفي هذا الابتلاء عبرةٌ وتذكيرٌ للنّاس بأنّ هذه الدّنيا دار عناءٍ وفناءٍ، لا دار سعادةٍ وبقاءٍ، كما أنّ في هذه المحن حكمةً ساميةً لا يدركها إلّا مَن دقّ فهمه، وسمت فطنته، وهي أنّها تثير ما كمن في القلوب مِن حبٍّ ورحمةٍ، فكم مِن محنةٍ ألّفت بين القلوب المتنافرة، وأعادت قلب الأخ لأخيه! وكم مِن محنةٍ محّصت ما في قرارة النّفوس! فأثبت الحبّ الصّادق، ومحقت تملّق الكاذب المنافق! ولقد جعل الله عز وجل مِن طبيعة هذه الحياة أنّها لا تدوم على حالٍ، فإن صفت يومًا كدّرت أيّامًا، وإن أضحكت لحظةً أبكت ساعاتٍ، وأفضل النّاس مَن كان مع الله جل جلاله في كلّ أحواله، فتراه شاكرًا في النّعماء، صابرًا في البأساء، منيبًا لربّه، قانتًا له متذلّلًا على بابه، لأنّه يعلم علم اليقين أنّ ربّه لا يعامله إلّا بالخير، عَنْ صُهَيْبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ). [ 1 ]

كما يعلم أنّ العُسر يطارده اليُسر، ويأتي بعد الشّدّة رخاءٌ، وخير ما يدفع به الإنسان المكاره ويستجلب به الفرج هو الصّبر واليقين، وحسن الظّنّ بربّ العالمين، كما كان شأن الصّحابة الكرام في ملاقاة النّوازل والمكاره، قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]. 

وإذا ما تأمّلنا مثل هذه المعاني عرفنا طريق النّصر، وعلت الهمّة في نفوسنا، وازدادت قوّتنا لمواجهة عدوّنا، وتقرّبنا لربّنا بالطّاعات والقربات الّتي هي سبب النّصر والنّجاة، قال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطّلاق: 2-3].

ومن توكّل على الله كفاهُ.

 

1- الفرَج بعد الشِّدَّة

إنّ مِن سنّة الله في خلقه أن جعل الحياة تدور بين الضّيق والسّعة، والسّقم والصّحّة، والحزن والفرح، والدّنيا دار ابتلاءٍ، وبوتقة اختبارٍ، إذا حلَت أوحلت، وإذا أفرحت أحزنت، وإنّ هذه الشّدائد تصهر الرّجال، وتظهر الأبطال، وتميّز المؤمنين المتّقين، فيستبشرون عند اشتداد المحن بأنّ نصر الله آتٍ عن قريبٍ، قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].

فكلّما رأى المؤمنون محاولة القضاء على أهل الحقّ علموا أنّ الفرج أصبح قاب قوسين أو أدنى، ولقد ذكر القرآن قصص بعض الأنبياء، وكيف أنّ الفرَج أتاهم مِن دون أسبابٍ، فلقد نجّى الله سبحانه يونس عليه السلام مِن الكرب؛ فقال: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 88].

ويفقد يعقوب عليه السلام أولاده ويبقى منتظرًا الفرج مِن الله تعالى {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} [يوسف: 87].

ويرزق الله زكريا عليه السلام الولد بعدما انعدمت أسباب الإنجاب، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} [آل عمران: 38-39].

وهذا سيّدنا محمّدٌ صلى الله عليه وسلم يعود لمكّة فاتحًا منتصرًا، وإنّ انتظار الفرج عبادةٌ عظيمةٌ، ومِن المحال دوام الحال، فسيكون بعد الجوع شبعٌ، وبعد الظمأ ريٌّ، وبعد الخوف أمنٌ، وبعد المحَن منحٌ، قال سبحانه: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} [المائدة: 52].

فكم مِن ضيقٍ مرّ بالنّاس ولم يكشفه إلا الله! قال عز وجل: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} [النّمل: 65].

وإن كنّا قد أصابنا مِن الشّدّة الكثير، ووقع إخواننا في غزّة في كربٍ شديدٍ مع تآمر العالم ضدّهم، فلنستبشر خيرًا بأن النّصر محتّمٌ وقادمٌ في القريب العاجل إن شاء الله.

 

2- رسائل على طريق النَّصر

لا بدّ للمؤمنين -قبل أن يطلبوا النّصر مِن الله- أن يأخذوا بأسس النّصر والتّمكين، الّذي هو أعظم ما يصبو إليه المسلمون في حياتهم، ولقد تجلّت هذه الأسس في ضرورة الثّبات على الحقّ حتّى الممات، وإنّه لأمرٌ عسير المنال إلّا على مَن وفّقه الله إليه، فإذا ترادفت المحن، وعظمت الكروب، وامتدّت الحروب، كثر المتساقطون مِن جرّائها، طمعًا في الدّنيا، ولا يثبت إلّا مَن كان ذا حظٍّ عظيمٍ، وعندئذٍ لا يصرفهم عن الحقّ صارفٌ مهما كانت قوّته وأثره، حتّى ولو عُذّبوا بالنّار، أو قُطّعوا بالسّنان، كما حكى جل جلاله عن سحرة فرعون عندما هدّدهم بعد الإيمان، قال: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71].

فكان جوابهم: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه: 72].

إنّه الثّبات على الحقّ مهما كلّف الأمر، ففي سبيل الله تهون عظيم المصائب، ولقد رأينا ثبات أهل غزّة اليوم، وهم يسطّرون أروع البطولات، لأنّهم علموا فعملوا فثبتوا، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النّساء: 66].

كما أوصانا ربّنا عز وجل فقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103].

فإذا اعتصم المسلمون بحبل الله وكتابه، كان المجتمع الإسلاميّ قويّ الأركان، متماسك الأطراف، لا يستطيع العدوّ أن يدخل إلى دياره، أو ينال مِن كرامته، ولكنّ التّنازع حول حطام الدّنيا لا يجلب إلّا الخسارة والخذلان، قال سبحانه: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46].

ولقد جعل الله شدّة البلاء مؤذنةً بالفرج، فلقد بلغ المسلمين يوم الأحزاب مِن الكرب الشّديد ما لا يصمد أمامه إلّا مَن كان قويّ الإيمان واليقين، فلقد حاصر المدينة عدوٌّ شرسٌ يروم استئصال المدينة -كما يفعل الصّهاينة بغزّة اليوم- في أعدادٍ كثيفةٍ لا يبلغ المسلمون الثّلث منها، ولقد وصف الله جل جلاله هذا المشهد بأدقّ وصفٍ وأبلغه؛ فقال: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 10-11].

والنّبيّ يبشرّ الّصحابة بفتح الشّام واليمن وغيرها، وإنّها لبشارةٌ في شدّة المحنة وتفاؤلٌ بقرب موعود الله، مع عِظَم الكرب واستحكام الأمر، فيا له مِن يقينٍ بالله -نحن بأمسّ الحاجة إليه اليوم- لا يتزحزح مِن قلب النّبيّ مهما عظمت المحنة، واشتدّ الكرب.

 

خاتمةٌ:

إنّ ممّا يعزي النّفوس عند نزول الشّدائد وحلول المحن: الأمل في فرج الله القريب، والثّقة التّامّة في رحمته وعدله، إذ نعلم أنّ مِن رحمته بعباده، لا يتابع عليهم الشّدائد، بل يُعقب الشّدة بالسّعة {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشّرح: 5-6].

فقد تكرّر اليسر منكّرًا بعد العسر المعرَّف مرّتين، ولن يغلب عسرٌ يسرين، كما علينا أن نعلم أنّ حاجة الأمّة ماسّةٌ إلى مطالعة سيرة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، واليقين بأنّ ما يعانونه مِن أذى اليهود وحلفائهم، وتسلّط المنافقين وإرجافهم بالمؤمنين قد وقع مثله وما هو أشدّ منه لأهل الصّدر الأوّل مِن المسلمين، فصبروا على الأذى، وثبتوا على دِينهم، ولم يبدّلوا إرضاءً لأحدٍ مِن النّاس، مهما كانت قوّته، ومهما بلغ مَكْرُه وتخويفه، فأحسن الله لهم العاقبة في الدّنيا بالنّصر والتّأييد على أعدائهم، ورضي فِعلهم فأرضاهم ورضي عنهم، وما نال أعداؤهم إلّا الهزيمة والحسرة في الدّنيا، والخسارة في الآخرة، فما أحوجنا إلى التّأسّي بالمؤمنين الأوّلين في الثّبات على الحقّ كما ثبتوا، إلى أن نلقى الله غير مبدّلين ولا مغيّرين، فاللّهمّ ثبّتنا على دِيننا حتّى يأتينا اليقين، وانصر إخواننا المجاهدين، وأهلك الكفرة والمجرمين.

 

هوامش:

1 - صحيح مسلم: 2999

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين