العالم المصلح والي بغداد  داود باشا  وشيخ الوزراء وشيخ الحرم المدني

حدث في الخامس من ربيع الآخر 1232

 

 

في الخامس من ربيع الآخر من عام 1232=1817 دخل داود باشا بغداد والياً عليها من قبل السلطنة العثمانية بدلاً من سعيد باشا، وليدخل العراق بولايته عهداً من النهضة والتقدم لم يشهده من زمن طويل.

 

ولد داود باشا سنة 1188=1774 في تفليس، وهي تبليسي عاصمة جورجيا اليوم، وكان يقال لها بلاد الكَرَج ولذا قيل له الكرجي ويقال له كذلك الدفتري، وجلبه بعض النخاسين إلى بغداد وعمره 11 سنة فاشتراه واليها آنذاك سليمان باشا الكبير، وهو كرجي الأصل كذلك، والذي كان والياً على العراق منذ سنة 1193حتى وفاته سنة 1217.

 

وتلقى داود باشا تربية حسنة من لدن الوزير سليمان باشا الذي زوجه ابنته وعلمه على أحسن وجه، ووجهه إلى صفوة العلماء في بغداد فقرأ عليهم القرآن الكريم والنحو والصرف، وعلم البلاغة والبيان والمعاني، وعلم آداب البحث والمناظرة، وكان أكبر أساتذته العلامة أسعد بن عبيد الله بن صبغة الله بن إبراهيم الكردي مفتي الحنفية والشافعية في بغداد، وعليه تخرج في سائر العلوم، وتوفي الأستاذ بعد سنة 1233.

 

ويبدو أن الله تعالى كان قد حبا الشاب داود حبَّ التعلم ومَلَكة العلم، لأن المراجع تذكر أنه بعد دراسته على أعلام عصره أصبح هو من العلماء الموصوفين بالدقة وعلو الفهم والمباحثة والمناظرة، وأن أغلب علماء عصره أجازوه إجازة الخاصة والعامة، وأن عدداً من علماء العراق قد أخذوا عنه بعضاً من العلوم.

 

وفي سنة 1228=1813 تولى ولاية العراق سعيد باشا ابن سليمان باشا الكبير، وجاءت ولايته بقصة ينبغي ذكرها لارتباطها بما سيأتي، فقد أراد القبض عليه عبد الله باشا والي العراق آنذاك، فهرب منه إلى البادية ولجأ إلى أمير الـمُنْتَفق حمود بن ثامر بن سعدون الشبيبي، وكان هذا الأمير فارساً محارباً شجاعاً كريماً، وطلب عبد الله باشا منه أن يسلمه سعيد باشا، فأبى أن تلحق به معرة تسليم من استجار به، فعزله الوالي عن إمارة المنتفق وعشائرها، وجرد  جيشاً لقتاله في سنة 1227، واستطاع رجال حمود السعدون هزيمة جيش عبد الله باشا وأسره مع بعض قواده، فقتلهم حمود، وسافر إلى بغداد ومعه سعيد باشا، وكتب سعيد إلى الآستانة فجاءته التولية على العراق سنة 1228.

 

وصار سعيد باشا شديد الامتنان لحمود السعدون لكونه كان السبب في مقتل خصمه وتمهيد الطريق له لتولي الولاية، فأعطاه سعيد باشا إمرة كل القرى التي في جنوب البصرة، ويقارب إيرادها ثلث إيراد العراق، فاغتنى حمود غنى لا مثيل له،  واتسعت أمواله وأموال عشيرته، وقصده الشعراء بالمديح وكان يجيزهم عليه بما يفوق جوائز الملوك، وصارت سمعته بين الناس أكبر من سمعة الوالي.

 

وكان حمود رجلاً ذكياً صاحب مكر وتدبير، فعمل على تثبيت مكانته لدى سعيد باشا حتى أصبح صاحب تأثير طاغ عليه، فلا يفعل سعيد باشا شيئاً إلا باستشارته ورضاه، وكان لهذا أثر سلبي في الناس الذين اعتبروا سعيد باشا ضعيفاً لا يستحق الولاية، وبخاصة أن البدو من عشيرة حمود زادوا من خيلائهم وتجبرهم، وامتدت أيديهم بالظلم فاغتصبوا أموال الناس واعتدوا عليهم دون خوف من عقاب، وحذت حذوهم العشائر الأخرى فامتنعت عن أداء الضرائب وعادوا إلى سيرة الجاهلية في الغزو والنهب.

 

وتفاقم عدوان البدو حتى أصبح ظاهرة تشمل العراق وتهدد المقيمين والزوار، وفي سنة 1229 وقعت حادثة خطيرة حين حاصرت قبائل خزاعة وزُبيد وشمر وآل الضفير كربلاء بهدف الاعتداء على المراقد المقدسة وأخذ كنوزها، ونهب الزوار القادمين إليها، وكان إذ ذاك في كربلاء نحو أربعين ألف من زوار العجم، ومعهم زوجة الشاه، فلما بلغ الوالي تحرك البدو إلى كربلاء، خشي أن يصيب الزوار ضرر ينتج عنه احتجاج الشاه لدى السلطان العثماني فيرتد ذلك عليه بالويل والثبور، وعظيم الأمور، وتلومه الدولة على إهمال الأمن في البلاد هذا الإهمال الجسيم.

 

وكان داود باشا يعمل خازنداراً مع سعيد باشا الوالي الجديد، فلما بدا في الأفق خطر الهجوم على كربلاء، رقاه في سنة 1229 وجعله كَتخُداه، وهي كلمة تركية تعني الوكيل أو الأمين، وهنا تعني النائب، وأرسله على رئيس جيش لقمع العصاة وتأديبهم، فتوجه داود باشا من بغداد جنوباً إلى الحلة ونشبت بينه وبين القبائل المتمردة معارك كان له فيها الظفر، ثم أرسل بعض قواته غرباً إلى كربلاء للحفاظ على الأمن بها وردع من قد تسول له نفسه الهجوم عليها، وقام جنوده بمرافقة الإيرانيين إلى حدود فارس سالمين آمنين.

 

 ثم توجه داود باشا بعساكره إلى مناطق القبائل العاصية فأغار وأسر، وعزل وولى، وعاقب وصادر، فخضعت له القبائل وأبدت له الخضوع والطاعة، وصارت هيبته تسبق عسكره، و لم يقبل رشوة أو هدية من رئيس أو مرؤوس، ومنع قادته من ذلك، وضبط عسكره فلم يتعد الحدود، فصارت له سمعة حسنة في كافة أنحاء العراق، فقد رأى الناس من عدالته وشهامته وشجاعته ومروءته ما لم يروه من غيره من الأمراء، وتميز هو بمحبته الخير للناس والنصح للأمة، والعفة عما في أيدي العامة والخاصة، مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحث على التقوى والديانة، وكان لا يُرى في وقت فراغ إلا وهو مشتغل بالمعارف والعلوم مع تلامذته الملازمين له في السفر والحضر.

 

وأثار نجاحه في قمع التمرد وضبط الهجمات البدوية حسد كثير من الحاشية الفاسدة الملتفة والتي كانت تستفيد مما يقدمه لها هؤلاء من أموال وصلات، فصاروا يثيرون عليه سعيد باشا ويصورونه خطراً عليه لإجماع الناس على محبته ووجود العسكر تحت إمرته، وكان آخر الأمر أن ادعوا أن داود باشا يريد قتل الوالي والاستيلاء على بغداد، وأتوا بشهود زور على ذلك، ولهزالة شخصية الوالي وضعفه الإداري لم يكن غريباً أن يصدق هذه الدعاوي، ويتملكه خوف شديد من داود باشا فقرر قتله والاستراحة من تهديده، وخطط الوالي مع بعض أعوانه أن يطلب داود باشا إلى ديوانه بحجة المذاكرة في قضية ما، فإذا جاء ألقوا القبض عليه وقتلوه بتهمة الخيانة.

 

ولكن بعض العاملين في الديوان أبلغ داود باشا بالمؤامرة، فهرب من بغداد في جماعة من عسكره لا تتجاوز مئتين شخص، وسار منها شمالاً حتى وصل كركوك واستقر بها، وبدأ في تجنيد قوة من أكرادها، أما سبب ذهابه لكركوك وحصوله على تأييد أكرادها، فلعله أنه كان قد درس أيام طلبه العلم على عدد من المشايخ الأكراد، وأرسل داود باشا رسالة إلى الباب العالي بما حصل بينه وبين سعيد باشا، وشكا لهم من تسلط حمود السعدون عليه وتحكمه بقراراته، وقارن بين ذلك وبين ما فعله هو من ضبط الأمور واستتْباب الأمن وإعادة هيبة الدولة.

 

وكتب داود باشا الرسالة بلغة تركية راقية بليغة، فقد كانت له اليد الطولى في التركية والفارسية والعربية، ويتقن فيها كلها النظم والنثر والكتابة، فكانت رسالته موضع الإعجاب في الباب العالي لفصاحتها وبلاغتها ولتصويرها الواضح لوضع ولاية العراق سابقاً وحالاً ومآلا، فعلموا مكانته السياسية والعلمية والإدارية وأدركوا أنه أحق بالولاية من سعيد باشا الضعيف المتردد، فأرسلوا فرماناً بعزل سعيد باشا وتعيين داود باشا مكانه.

 

فلما وصل الفرمان إلى داود باشا قرأه على ملأ من كبار رجال الدولة محبهم ومبغضهم، وأرسل صورته إلى حمود بن ثامر السعدون الزعيم الحقيقي في أرض العراق، فلم يقبله بادئ الأمر وسخر منه مغتراً بقوته، ولكن أعمامه وإخوانه بينوا له عواقب التمرد على الدولة العثمانية ورفض الأمر السلطاني، وبخاصة أن خصمه رجل دولة اتسم بالحنكة والشجاعة، ونال محبة العسكر والعامة فدانوا له بالطاعة والولاء، وما زال أقارب حمود يبصرونه حتى قبل رأيهم وأرسل إلى سعيد باشا يعلمه أنه لن يقاتل الوالي الجديد وينصحه بطاعة أوامر السلطان والقبول بتعيين داود باشا، ولم يأخذ سعيد باشا بهذا الرأي وأصر على قتال داود باشا ولو تخلى عنه شريك الأمس حمود السعدون.

 

وجاء داود باشا من كركوك إلى بغداد في نحو ألفين من الأكراد، وخرجت لاستقباله البلاد التي مر عليها مبدية السرور بتعيينه، ولما اقترب من بغداد ثار أهاليها على سعيد باشا مؤيدين للوالي الجديد، فما كان من سعيد باشا إلا أن انسحب إلى القلعة ليتحصن فيها، وأرسل أهالي بغداد وفداً يرحب بداود باشا، فدخلها بعد الظهر خامس ربيع الآخر سنة 1232، ووفد عليه كبار القوم من علماء وفضلاء مهنئين ومباركين، ومدحه الأدباء والشعراء، واستقرت له الأمور، فعزل وعين وكافئ وعاقب، واستتبب الأمن بعد اضطراب، وارتدع كثير من مثيري الفتن والفاسدين، لعلمهم بحزمه وقوته، وما لبث سعيد باشا أن استسلم وجاء الأمر السلطاني بإعدامه جزاء على عصيانه.

 

وبعد توليه الأمور بحوالي سنة واجه داود باشا مشكلة كبيرة مع الدولة القاجارية في إيران، وكان سببها الأسرة البابانية التي كانت تحكم في كردستان العراق، فقد وقع خلاف بين أمراء هذه الأسرة استغله الأمير عباس ميرزا حاكم كرمانشاه وابن الشاه فتح علي القاجاري، فسار في جيشه وغزا العراق وهزم داود باشا في معركة شهرزور، وكان في مخططه أن يسير إلى بغداد ليستولي عليها ولكنه عند وصوله إلى ضواحيها تفشى وباء الكوليرا في جيشه ومات أكثرهم، ومرض هو كذلك فعاد إلى إيران وسلمت بغداد.

 

وقامت قبيلة شُمَّر يقودها زعيمها الفارس المقاتل صفوق بن فارس الجربا بالإغارة على عسكر ابن الشاه وهزمته، فأقطعه داود باشا عانة وما يتبعها، وصار واثقاً من أن ولاء شمر لا تشوبه شائبة، وصار للحكومة من العشائر قوات بمنزلة جيش متأهب للطوارئ إن اقترب الفرس من حدود العراق

 

وهنا برزت مقدرة داود باشا الإدارية والتنموية، فقد بدأ في ترسيخ سلطة الدولة لتكون سلطة فعلية لا تتغولها قبيلة أو جماعة، وكانت السلطة الحقيقية في العراق لأحقاب طويلة متركزة في أيدي الأسر الحاكمة في مدنه، وفي أيدي شيوخ القبائل القوية في باديته، فوجه داود باشا عنايته لاستبدال سلطة بغداد بسلطات هؤلاء المتنفذين والذين كان كثير منهم يستغلون مناصبهم في العدوان والظلم دون رادع يردعهم، ومن المدن التي أراد داود باشا فرض سيطرته عليها مدينة كربلاء لأهميتها الدينية وارتباطها بالعلاقات مع إيران، ورغم أن الوالي العثماني كان يعين حاكمها إلا أن الحكم الحقيقي فيها كان لنقيب الأشراف وسادن الحضرة الحسينية، وعيّن داود باشا حاكماً جديداً على كربلاء هو فتح الله خان، وزوده بحامية ألبانية من 500 جندي، وبالطبع لم تكن الزعامات التقليدية في المدينة راضية عن هذا التغيير، واغتيل الحاكم الجديد في أول سنة 1237.

 

وتوعد داود باشا القتلة وطلب من الزعامات التقليدية أن تتحرك للقبض عليهم، وتلافياً لاضطرابات تقع في المستقبل اقترح نقيب الأشراف تعيين سادن الحضرة الحسينية معاوناً لحاكم البلد، ثم طلب تعيين زوج ابنته في منصب سدانة الحضرة الحسينية، فوافق داود باشا مشترطاً أن يتعاونا مع الحاكم الجديد علي أفندي، وأن يسلموا قتلة الحاكم السابق، إلاّ أن الحاكم الجديد تنازع مع السادن والنقيب، ثم اغتيل علي أفندي نفسه في أوائل 1238، مما جعل داود باشا يصمم على فتح المدينة وإخضاعها بالقوة، فشن حملة تدعى وقعة المناخور حاصرت كربلاء واستولت عليها وأخضعها داود باشا لحكم الدولة.

 

وعلى صعيد البادية أدب داود باشا العصاة وأجرى تغييرات في مشايخ قبائل البدو حتى يكونوا جميعاً ممن يثق بطاعتهم ويطمئن لولائهم، وخلال سنوات لم يبق له معارض أو عاص في العراق في الحواضر والبوادي ومن الأكراد أو العرب، ولم ينس أمر حمود الذي كان مركز قوة لا يستهان به، فعمل على إضعافه شيئاً فشيئاً حتى عزله في سنة 1242، وولي ابن أخيه عقيل بن محمد بن ثامر، فغضب حمود وجاهر بالعصيان، فاحتال عليه عقيل واعتقله، وأرسله إلى السجن في بغداد وخضدت شوكته إلى الأبد.

 

وليوازن قوة إمارة المنتفق وعنفوان أميرها حمود السعدون، قرّب داود باشا قبيلة شُمَّر وزعيمها صفوق بن فارس الجربا، فقد كان يثق بولائها، وكان لها ثأر قريب مع السعدون فقد كان قد قتل زعيمها السابق بُنَيَّةَ بن قرَيْنِيص قبل تولي داود باشا.

 

وفي سنة 1232=1817 شنت الدولة العثمانية حملة عسكرية للقضاء على الدولة السعودية الناشئة في نجد، والتي توسعت توسعاً هدد السيادة العثمانية على الحرمين الشريفين، وقام بالحملة محمد علي باشا الحاكم الفعلي والمطلق في مصر، ووالي الدولة العثمانية على مصر في الصورة، وقاد الجيش المصري إبراهيم باشا الابن الأكبر لمحمد علي باشا، وجاء من غرب الجزيرة العربية حتى وصل إلى نجد، وفي نفس الفترة أعد داود باشا حملة عراقية جاءت من الشمال فاستولت على الأحساء.

 

وشهد العراق والجزيرة العربية هذه الأحداث في عهد السلطان العثماني محمود الثاني الذي تولى السلطنة سنة 1223=1808، وجرت في نفس الوقت أحداث جسام أخرى في المقاطعات العثمانية في أوروبا، فقد تميزت فترة حكم السلطان محمود الثاني بتزايد ضعف الدولة العثمانية وخساراتها العسكرية المتتالية، وعصيان البلدان الأوربية غير المسلمة، ففي سنة 1227=1812 انتهت الحرب الروسية التركية بمعاهدة بوخارست التي تنازلت بموجبها الدولة العثمانية عن بيسرابيا، وتقع اليوم في غرب أوكرانيا.

 

 وفي سنة 1230=1815 أصبحت صربيا مستقلة من الناحية العملية، وإن بقيت إسمياً تتبع السلطنة.

 

 وفي سنة 1236=1820 تمرد اليونانيون في شبه جزيرة المورة، وتلاهم في التمرد اليونانيون من أهل جزيرتي قبرص وكريت، ثم تلاهم في سنة 1242=1826 اليونانيون في اليونان، وفشلت الحملات التي أرسلها السلطان محمود الثاني في القضاء على التمرد، فاضطر للمرة الثانية إلى طلب المساعدة من محمد علي باشا في مصر.

 

 وفي سنة 1243 دمرت أساطيل بريطانيا وفرنسا وروسيا الأسطول العثماني المصري في خليج نافارينو.

 

 وفي سنة 1246=1830 اعترف العثمانيون باستقلال اليونان بعد هزيمتهم في الحرب الروسية التركية في عامي 1244-1245= 1828-1829.

 

ولم تكن هذه الأحداث بعيدة عن فكر داود باشا وقد أصبح الوالي على العراق دون منازع، وأصبحت تحت تصرفه موارد العراق المالية الوفيرة الناتجة مما حباه الله من ثروات طبيعية من مياه الرافدين والتربة الخصبة وأيد عاملة كادحة، وها هو يرى السلطان العثماني في طور ضعف وتضعضع يضطر معه للاستعانة بجيش محمد علي باشا الذي استقل بمصر وثروتها الطائلة وبنى عزاً وسلطاناً حتى أصبح السلطان يحتاجه وجيشه لإنقاذه من الملمات.

 

وتتحدث المصادر أن داود باشا عمل على بناء جيش حديث منظم مسلح بأسلحة مصنوعة في العراق، فجلب أهل الصناعات من أوربا إلى العراق لينشأ فيه مصانع للبنادق والمدافع، وأن عدد أفراد الجيش ناهز 100.000 جندي، وأن القاجاريين في إيران باتوا يخشون داود باشا وجيشه الجرار أشد خشية، ويتوقعون أن يكون من مخططه مهاجمة إيران والاستيلاء على ثرواتها. ولم أجد في ما رجعت إليه من المصادر ما يؤيد هذا وأنا استبعده جداً، فالعدد المذكور عدد كبير جداً بمقياس ذلك الزمن، واستعانة داود باشا بالقبائل العربية والكردية تدل على أنه لم يكن لديه حتى أقل من هذا العدد بكثير، ولعل هذا من إعجاب المؤرخين بشخصية داود باشا، ورغبة بعضهم في أن يجعلوه عنواناً متكاملاً لنهضة العراق الحديثة.

 

ولا شك أن داود باشا وإصلاحاته كانت أساس نهضة العراق الحديثة، ولكن الجيش لم يكن على رأس أولوياته، وقد كان القاجاريون مشغولون بالحرب مع روسيا فلم يشكلوا له تهديداً كبيراً، لكن داوود باشا فعل ما هو أهم وأنفع، فقد أدخل كثيراً من الإصلاحات الإدارية على نظام الحكم، واهتم بالاقتصاد وبخاصة تنمية الزراعة في أراضي الرافدين، فشق الترع المائية للاستفادة من مياه الأنهار الضائعة وزيادة الأراضي الزراعية، وكانت كل إنجازاته العمرانية تحمل أبيات شعر تخلد بانيها، ومن ذلك أنه لما بنى مستودعات للحبوب على ضفاف دجلة في الكرخ، نحت على حجر فيها أبيات قالها شاعره الشيخ صالح بن درويش التميمي:

 

أقسم بالله الذي زُينت ... سماؤه بالخُنَّس الكُنسِ

أن الذي شيد هذا البنا ... ذو همة بالفلك الأطلس

داود ذا الأيدي ومَن حلمه ... ما حل في شخص سوى هرمس

فقل لمن يرغب في مكسب ... من ناطق فيه ومن أخرس

أوفِ إذا كِلتَ ومن بعد ذا ... أرخ: وبالميزان لا تبخس

 

ولصالح التميمي، المولود سنة 1190 والمتوفى سنة 1261، كتاب تاريخ أسماه شَرَك العقول وغريب النقول، أرخ فيه من سنة 1200 إلى سنة 1240، وذكر فيه أيام الوزير داود باشا، وما جرى له من حروب، ووله كتاب آخر: وشاح الرُّود في تراجم شعراء الوزير داود.

 

وحيث كان داود باشا في علمه وفضله نتاج المؤسسات العلمية في العراق، فإنه كان أعرف الناس بأهلها وما هي عليه من ضعف وإهمال، فبث في العراق روحاً علمية جديدة لا عهد له بها منذ زمن طويل، والتفت إلى النهوض بالتعليم في العراق فجدد المؤسسات العلمية حتى بلغ عددها 28 معهداً في عهده، وبنى جامعاً ومدرسة حملت اسمه في جانب الكرخ قرب مقام الخضر، ووقف خزانة كتب نفيسة في جامع الحيدر خانة في بغداد، واهتم بتجديد مناهج التعليم وطرق التدريس، وكان مجلسه حافلا بوجوه الأدباء والشعراء ومشاهير الكتاب، وأدنى إليه أساتذته ومن له فضل عليه في أيام دراسته، وأغدق عليهم الأموال، فأقبل الناس على العلم والأدب والشعر لعلمهم برواجها عند الحاكم العالم.

 

وكان داود باشا يحث الأدباء على التأليف والتصنيف، أمر المؤرخَ التركي رسول بن يعقوب الماهوني الكركوكلي، المتوفى سنة 1243، بتصنيف كتاب دوحة الوزراء بلغة مزيج من اللغات الثلاث العربية والفارسية والتركية، ويجزل لهم العطايا الجزيلة، ولم تكن هداياه مقتصرة على المال بل كان يهديهم من نفائس الكتب، ويذكر الأستاذ محمد بهجت الأثري في مقالة له حول الشيخ حسن العشاري، أنه رأى بخطه في خزانة مسجد أبي حنيفة النعمان كتاب تحفة المحتاج لشرح المنهاج لابن حجر الهيتمي في مجلد ضخم دقيق الحروف جليّها، يكاد يكون معجزا بحسن خطه وصحته، وهو هدية الوزير داود باشا إلى الإمام شهاب الدين الألوسي المولود سنة 1217 والمتوفى سنة 1270.

 

وإذ تحدثنا عن الكتب، فلا شك أن مكتبة داود باشا كانت من أفضل المكتبات في تلك الأيام، وأنها احتوت على نفائس الكتب، ويبدو أنها بعد وفاته ذهبت شذر مذر، فقد كتب الأب انستاس ماري الكرملي في مجلته لغة العرب أنه وصل إليه منها مصحف مخطوط بقلم ياقوت، قال الكرملي في العدد 70 من المجلة: في أيام  الشتاء سُرقت من خزانتنا ثلاثة كتب مخطوطة ... وأول هذه المخطوطات مصحف مخطوط بقلم ياقوت كما هو منصوص في آخره بعبارة تركية تقع في أكثر من صحيفة، وكل صفحة منه مقسومة إلى كتابة الآية في أعلاها بقلم ثُلثي، ثم يليها كتابة الآيات التي تليها بقلم نسخي، فبقلم ثلثي، فبقلم نسخي، فبقلم ثلثي، أي أن متصفح المصحف يرى في الصفحة الواحدة كتابة بالقلم الثلثي في أعلاها ووسطها وآخرها، وبين سطور الثلثي سطور بالنسخي، والخط من أبدع ما يمكن وهو محلى ومطلى، وكنا قد أخذناه إلى لندن في سنة 1921 فأهدى إلينا أحد الأميركيين بدلا منه خمسمئة ليرة إنكليزية فأبينا، وهو مجلد بجلد أسود، وكان قد أهداه السلطان محمود خان إلى داود باشا الكرجي الأصل والي بغداد، ولما توفي الوزير المذكور في المدينة وضع وارثوه أيديهم على كتبه ومقتنياته، فانتقل المصحف المذكور من واحد إلى واحد حتى صار بيدنا، ثم سرق منا.

 

وكان الشيخ عثمان بن سند  البصري، النجدي الأصل، والمولود في فيلكة سنة 1180، قد وعد داود باشا في سنة 1234 أن يكتب كتابا في تاريخه، ولما لم ينجزه الشيخ استدعاه إلى بغداد في سنة 1241، فأكرمه ورفع مقامه، وأمره أن ينجز ما وعد، فكتب كتابه: مطالع السعود، بطيب أخبار الوالي داود. وهو كتاب مسجوع يقع في 600 صفحة جمع فيه المؤرخ كثيراً من أخبار العراق وتراجم رجاله ووزرائه، واختصره فيما بعد الشيخ أمين بن حسن الحلواني المدني وطبعه في مدينة بومباي.

 

كان الشعراء في المجتمعات العربية هم أول وأقوى وسيلة لتوجيه وتشكيل الرأي العام، وهذا في حد ذاته سبب وجيه لأن يقربهم ويهتم بما يقولون كل حاكم، ولكن داود باشا كان لديه سبب لا يقل قوة عن هذا السبب السياسي، وهو السبب الأدبي الشعري، فهو في نفسه أديب فاضل وشاعر ناثر، ولذا قرَّب منه شعراء العراق وخطبائه، وتحبب كثيرا إليهم، وصار يغشى نواديهم ويحضر مجتمعاتهم، وأدرَّ عليهم الأموال الجزيلة، وتكفل بحاجات كثير منهم، ولم يقتصر في ذلك على شعراء الفصحى بل شمل إنعامه شعراء اللهجة الدارجة، وما أكثرهم في العراق.

 

وكان من عناية داود باشا بالشعراء اهتمامه بالشاعر الأخرس السيد عبد الغفار بن عبد الواحد، المولود في الموصل بعد سنة 1220 والمتوفى في بغداد سنة 1291، فقد التمس الشاعر الشاب من الوالي داود باشا أن يعالجه من حُبسة في لسانه، فقال:

 

هذا لساني يعوقه ثِقَلٌ ... وذاك عندي من أعظم النُّوَبِ

فلو تسبَّبتَ في معالجتي ... لَنلتَ أجراً بذلك السببِ

وليس لي حرفةٌ سوى أدبٍ ... جمٍ ونظم القريض والخطبِ

 

فأرسله على نفقته إلى الهند حيث قيل إن فيها من يعالجها، وقال الطبيب الهندي للشاعر: أنا أعالج لسانك بدواء، فإما أن ينطلق، وإما أن تموت. فأبى العلاج وقال له: لا أبيع كلي ببعضي.

 

كان داود باشا كريم النفس ندي اليد، مر الشيخ ضياء الدين خالد بن أحمد النقشبندي الشهرزوري الكردي، المولود بالسليمانية سنة 1190، والمتوفى في مهجره بدمشق سنة 1242، على بغداد سنة 1239، وكان قطبا مرشداً وشيخاً معظماً بين الناس، وهو جد أصحاب المشيخة النقشبندية المتوارثة في كردستان العراق، فبلغ داود باشا أن الشيخ عليه ديون، فأمر بوفائها وكانت ثلاثين ألف غازي محمودي كبير، وصرفها له دفعة واحدة، وهذا أمر نادر قل ما يوجد له نظير.

 

وفي سنة 1241 حل السلطان العثماني محمود القوات الإنكشارية وأمر الولايات بذلك على أن يحل محلها قوات عسكرية مدربة على النظم المستحدثة في أوروبا، ونفذ داود باشا أمر السلطان بطريقة حصيفة، فقد جمع الإنكشارية في ساحة العرض وقرأ عليهم مرسوم السلطان بتسريحهم، ثم عرض عليهم الانضمام للعسكر الجديد الذي سيشرف على تنظيمه وتدريبهم عسكريون فرنسيون، فقبل أغلبهم ذلك وبذلك تجنب داود باشا القلاقل والتخريب الذي قام به الإنكشارية في بلدان أخرى احتجاجاً على تسريحهم.

 

وفي سنة 1245 أرسل السلطان مبعوثاً يحمل مرسوماً بعزل داود باشا عن ولاية العراق، ولكن المبعوث اغتيل في ظروف غامضة قبل أن يصل إلى بغداد ويبلغ داود باشا بعزله، وبدأ داود باشا يخطو نحو الاستقلال بالعراق مطالباً الدولة العثمانية بوضع يشبه وضع محمد علي باشا في مصر، فأرسل السلطان محمود في سنة 1246 والي حلب علي رضا باشا على رأس جيش تعداده نحو 20.000 جندي ليستولي على بغداد، فاستهزأ داود باشا بهذا الجيش الضعيف، وقال: لو أرسلنا على هذا الجيش نساء بغداد لهرب من أمامهن! ولم يساوره شك في أنه سيهزم الجيش وكان يأمل بعدها أن يتوسع ويستولي على ما وراء العراق.

 

ولكن كارثة صحية حلت ببغداد قلبت ميزان القوى لصالح الجيش القادم من الأناضول، فقد انتشر وباء الطاعون فيها، وفتك بأهلها حتى سمي بالطاعون الجارف، وكان يموت في كل يوم ألوف من أهلها، وقيل مات بالطاعون من أولاد داود باشا أكثر من عشرة أولاد من الفرسان، ومات عدد كبير من جنوده، وهرب الآخرون للبوادي فراراً من الطاعون، فلم تعد المقاومة ممكنة أو مجدية، فأجرى داود باشا مفاوضات مع علي باشا انتهت بتسليمه بغداد مع السماح لداود باشا بالرحيل إلى الآستانة ليقيم فيها.

 

وهكذا رحل داود باشا عن بغداد في 8 ربيع الآخر سنة 1247 بعد أن تحطمت أحلامه وآماله أمام عينيه، فقد فتك الطاعون بأهلها حتى لم يبق منهم سوى عُشرِهم، وتدمرت معالمها العمرانية بسبب الحرب والحصار، وحريق كبير انتشر فيها بسبب القصف المدفعي، وانتهز أبناء حمود السعدون في المنتفق الفرصة فهاجموا ابن عمهم عقيل وقتلوه.

 

ولعل داود باشا نظم في هذه الفترة قصيدته المسماة الدرع الداودية، يشكو أن تخلي عنه أصدقاؤه وأحبابه، وهو الذي أحسن إليهم ورفعهم إلى أعلى المناصب، ومنها:

 

أما أن للأحباب أن ينصفوا معنا ... فزاغوا وما زغنا، وحالوا وما حلنا

وإنا لقوم نحفظ الود غيرة ... ونرعى ذماما إن حضرنا وإن غبنا

أجامل أقواما ولاً  لا مهابة ... فيزعم قوم أننا منهم خفنا

وأسكت إيفاء لود علمته ... وعندي مقال يحطم الظهر والبطنا

ولو وقفوا يوم الرهان مواقفي ... لأهديتهم روحي ومالي وما يقنى

فيا أسفي ضيعت عصر شبيبتي ... بكل خفيف القدر لا يعرف الوزنا

أجول بطرفي في العراق فلا أرى ... من الناس إلاَّ مظهر البغض والشحنا

فخيرُهم للأجنبي وقبحُهم ... على بعضهم بعضا يعدونه حُسنا

وشبانهم شابوا المودة بالجفا ... وشبنا وما للصفو في كَدَر شُبنا

وعصبة لؤم قد تناجوا لحربنا ... فيا ويحهم ماذا يلاقونه منا

تراموا وحاشا المجد أن يتقدموا ... علينا وهاموا بالأماني وما همنا

وطاشوا ببرق خلب لا أبا لهم ... وسلوا علينا المرهفات وما خفنا

فقل لي بماذا يفخرون على الورى ... إذا عُدَّت الأباء أو ذُكر الأبنا

فهبهم على المجد الأثيل تسنموا ... ألا يعلمون المجد بالقول لا يبنى

طوينا عن الزوراء لا درَّ درُها ... بساطا متى ينشر نعد به طعنا

وإني وإن كنت ابنها ورضيعها ... فقد أنكرتني لا سقاها الحيا مزنا

إلى الله أشكو من زمان تخاذلت ... خيار الورى فيه وساؤوا بنا ظنا

وباع بفلس كل خل خليله ... وصار الكريم الحر يسترفد القنا

إلا مبلغ عني سراة بني الوغى ... وأقيال عُرب كيف صبرهم عنا

أهم بأمر الحزم في حومة الوغى ... ومن ناهز السبعين أنى له أنى

إذا كفيَّ اليسرى أشارت لناقص ... قطعت لها زندا وألحقتها اليمنى

وإنا إذا صاح الصريخ لحادث ... أجبنا ولبينا لمن فيه أنبأنا

على الكرخ في الزوراء مني تحية ... وألف سلام ما بها ساجع غنى

صحبتهم طفلا على السخط والرضى ... وشبت فلا سيفي أفاد ولا أغنى

 

وعاد داود باشا إلى استانبول وهو يتوقع الجزاء الصارم، ولكن السلطان محمود الثاني عفا عنه وأكرم مثواه، ولما توفي السلطان محمود سنة 1255 وخلفه ابنه السلطان عبد المجيد سار على نهج والده في تكريم داود باشا، ومنحه لقباً خاصاً هو: شيخ الوزراء، وفي هذه الفترة أرسل له الشاعر عبد الغفار الأخرس قصيدة أرسلها إلى استانبول، يذكر شوقه إليه ويعدد أفضاله على العراق:

 

فمن جوده أنى ربيت بجوده ... وزيرٌ له الإحسان والجود أجمع

وردَّ شموس الفضل بعد غروبها ... كما ردها من قبل ذلك يوشع

وقام له في كل منبر مدحة ... خطيب من الأقلام بالفضل مصقع

وزير ومرّ الحادثات تزيده ... ثباتاً وحلماً فهو إذ ذاك أروع

أبا حسن هل أوبة بعد غيبة ... فللبدر في الدنيا مغيب ومطلع

لئن خليت منك البلاد التي خلت ... فلم يخل من ذكرى جميلك موضع

ففي كل أرضٍ من أياديك ديمة ... وروض إذا ما أجدب الناس ممرع

يفيض الندى من راحتيك وإنها ... حياض بنو الآمال منهن تكرع

وإني على خضب الزمان وجدبه ... إليك وإن شط المزار لأهرع

ولو أنني وفقت للخير أصبحت ... نياقي بأرض الروم تحدى وتسرع

 

وكان الشاعر يعبر عن مشاعر كثيرين في العراق لما لمسوا من داود باشا من عدل وإخلاص وصدق واستقامة، وممن بقي على وفائه للوزير داود باشا صفوق بن فارس الجربا زعيم قبيلة شمر، فقد راسله والي الموصل يحيى باشا على عصيان الدولة العثمانية والمطالبة بعودة داود باشا، فناوأَ الحكومة وقطع الطريق بين بغداد والموصل، وصار يجول بفرسانه بين النهرين، وتجمعت لديه قوات منحته الثقة في أن يستطيع هزيمة جيش علي رضا باشا ويستولي على بغداد، ولكنه هزم في القتال وانسحب، فعزلت الحكومة والي الموصل، واحتالت على صفوق فقبضت عليه وأبعدته إلى الأستانة حيث التقي بالسلطان، وبقي فيها 3 سنوات ومعه ابنه فرحان، وكان صغيراً فتعلم التركية خلال بقائه هناك، ثم عفا السلطان عن صفوق فعاد إلى العراق ليلقى نحبه غيلة على يد أحد موظفي الدولة، وخلفه ابنه فرحان في الرئاسة وكان متعاوناً مع الدولة العثمانية مرضياً عنه منها فأنعم عليه السلطان برتبة باشا، وصار يعرف بفرحان باشا.

 

 وفي سنة 1260 صدر فرمان السلطان عبد المجيد بتعيين داود باشا شيخاً للحرم النبوي في المدينة المنورة، فاهتم بأمورها وكتب في سنة 1263 للسلطان العثماني عبد المجيد تقريراً عن أحوال المسجد النبوي الشريف والخراب الذي لحق بأجزاء كثيرة منه، فاهتم السلطان بالأمر كثيراً، وأمر بإرسال المهندسين والخبراء والنجارين والصناع والمؤن، ليُعاد بناء المسجد بعد هدمه كلياً باستثناء الحجرة النبوية الشريفة، واستمرت العمارة نحو ثلاث عشرة سنة، وكانت العمارة من الحجر الأحمر من جبل غرب الجماوات بذي الحليفة، وتلك العمارة من أضخم العمارات التي أجريت للمسجد النبوي إلى ما قبل التوسعة السعودية وأتقنها وأجملها، وقد بقي منها بعد العمارة السعودية الجزء القبلي، وكانت الأبواب في العمارة العثمانية غاية في الإبداع والجمال، وقد بقي منها باب جبريل عليه السلام وباب الرحمة، وباب السلام وباب النساء. وإلى جانب إشرافه على أمور الحرم اشتغل داود باشا بالعلم والعبادة، فانتفع به كثير من العلماء وطلبة العلم.

 

ومن آثار داود باشا في المدينة المنورة البستان المعروف بالداودية، وهو حي من أحياء المدينة اليوم، لما أتم بناءه وغرسه مدحه شاعره الشيخ صالح التميمي بقصيدة، فأعطاه داود باشا جائزة ألف ريال.

 

قال الشيخ عبد الرزاق البيطار رحمه الله في حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر، في ترجمة داود باشا: وفي سنة 1267 ذهبت مع والدي إلى الحجاز الشريف، فاجتمعت مع والدي به في المدينة الشريفة، وكان رجلاً كبيراً مهاباً عليه سيما الفضل والصلاح، وله خضوع وذل وسكينة وتواضع. وكان يمضي بينه وبين والدي الوقت الطويل في المذاكرة، وقد تبركت به وبدعواته، وفي ليلة عاشوراء حين قراءة المولد النبوي الشريف بين العشائين أمرني والدي بقراءة عُشر من القرآن، وكان المسجد قد غص بأهله، وكان قد حضره كذلك داود باشا، وكان جلوسه بجانب والدي في الجهة الشمالية من الحرم الشريف متوجهين إلى القبلة، فغب قراءة العشر وإتمام المولد قبلت يده، فدعا لي وبشَّ في وجهي وأظهر لي الالتفات والمحبة، وكان قد أخبر أن مراده أن يفتح مدرسة بأمر الدولة في المدينة للإفادة والاستفادة في سائر العلوم والفنون، ولكن اخترمته المنية قبل تمكنه من ذلك في تلك السنة، وهي سنة 1267، ودفن في البقيع الشريف تجاه قبة سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه، وأمر أن لا يُبنى عليه تابوت ولا قبة اتباعاً للسنة، فجعلوا له شباكاً من الحديد حول قبره.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين