العالم المجاهد : عمر مكرم

العالـم المجاهـد عمـر مكـرم
1164 – 1237
1750 – 1822


 هناك مئات الآلاف من العلماء على مدار تاريخ الإسلام لكن قليلاً من هؤلاء من كان يحمل هموم أمته وآلام شعبه، ويجاهد في سبيل الله، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحتسب على الحكام، ومن هؤلاء القليل كان الشيخ الفاضل العالم نقيب الأشراف عمر مكرم.
عاش رحمه الله تعالى في زمن الإدبار وذهاب هيبة الأمة الإسلامية، وتربص أعدائها بها الدوائر، وكانت الدولة العثمانية آنذاك في طور الانحدار فلم تستطع أن تصنع كبير شيء مع المكايد التي كانت تترى عليها في كل وقت، والمؤامرات التي تحيط بها من كل جانب، في تلك المدة المظلمة عاش سماحة الشيخ المجاهد عمر مكرم بن حسين السيوطي.
ولد سنة 1164/1750 في أسيوط، من أسرة شريفة النسب، تنتهي إلى الأدارسة، وانتقل إلى القاهرة للدراسة في الأزهر، وعُني بالفقه، وتخرج في الأزهر، واقتنى مكتبة كبيرة ما زال جزء منها محفوظاً في دار الكتب المصرية باسمه، لكنه لم يشتغل بتأليف الكتب ولا بالدروس لأنه كان بطبعه ميالاً إلى المشاركة في الشأن العام وسياسة الشعب والاهتمام بأمور المجتمع المصري.
بداية ظهور السيد وعلو شأنه :
وكانت بداية بروز السيد عمر مكرم لما اختل الأمر في الديار المصرية بوقوع التنازع بين أمراء المماليك وتسابقهم في ظلم الشعب، فأرسلت الدولة العثمانية حسن باشا الجزائرلي لتأديب المماليك خاصة الأميرين مراد وإبراهيم اللذين فَرّا إلى الصعيد، فلما عاد حسن باشا إلى بلاده سنة 1205/1791 توسط الأميران لدى الحكومة العثمانية في القاهرة ليعودا إليها، وكان رسولهما في هذا هو السيد عمر مكرم لصداقة بينهم، فنجح في مهمته وعاد الأميران للحكم.
وبعد ثلاث سنوات من هذه الحادثة توفي السيد محمد البكري نقيب الأشراف وشيخ السادة البكرية ولم يكن له عقب فأسند الأميران نقابة الأشراف إلى السيد عمر مكرم عرفاناً بالجميل ووفاءً له، وكان ذلك سنة 1208/1793، وكان هذا بداية ظهوره في المجتمع المصري.
ثم عظم شأنه بعد ذلك؛ إذ أن الأميرين عادا إلى سيرتهما القبيحة وظلمهما للشعب، فثار الشعب المصري عليهما سنة 1209/1795 وكادت تحدث فتنة فاجتمع الأمراء والباشا التركي في بيت الأمير إبراهيم، وتعهد الأميران مراد وإبراهيم وسائر الأمراء بكف أيديهم عن الشعب وتحري العدل ورفع المظالم وصرف الأموال إلى مستحقيها وإرسال مخصصات الحرمين، ورفع الضرائب المستحدثة وأن يسيروا في الحكم سيرة حسنة، وكُتبت وثيقة بذلك وخُتمت من قِبَل الأميرين، ومن الباشا التركي، وكان السيد عمر مكرم ممن اشترك في كتابة هذه الوثيقة، وهذا مما رفع من مكانته بين قومه.
السيد عمر مكرم والحملة الفرنسية على مصر:
ولما احتل الفرنسيون مصر سنة 1213/1799 هرب الأميران مراد وإبراهيم بعد معركة قصيرة مع الفرنسيين وتركا الشعب المصري لمصيره، وهنا نادى السيد عمر مكرم في المصريين بالجهاد، وصعد إلى القلعة ونشر علماً كبيراً كان يُسمى "البيرق النبوي" ونـزل من القلعة إلى بولاق -وكان حَيّاً في أطراف القاهرة آنذاك- والناس حوله ألوف مؤلفة يحملون العصي والنبابيت وهم يهللون ويكبرون وقد امتلأوا حماسة وحباً للجهاد، لكن مالذي تغنيه قوتهم وعتادهم الضعيف أمام أسلحة الفرنسيين الحديثة خاصة أن جيش المماليك قد هُزم ولاذ بالفرار؟!
وهنا رأى المشايخ مثل الشرقاوي شيخ الأزهر، والشيخ السادات أن يستسلموا ويسلموا البلد للفرنسيين لكن عمر مكرم رفض أن يدخل القاهرة وآثر أن يصحب جيش إبراهيم بك في تقهقره إلى الشمال نحو المنصورة ثم إلى سيناء فالشام وجيش الفرنسيين يتبعهم.
ثم لجأ عمر مكرم إلى يافا وبقي فيها حتى فتحها نابليون، الذي حرص على إكرامه وإعادته إلى مصر عن طريق دمياط، ودخل القاهرة بعد غياب ثمانية أشهر فلم يشهد ثورة المصريين الأولى على الفرنسيين التي وقعت بعد ثلاثة أشهر من الاحتلال إنما شهد الثورة الثانية.
ولما عاد إلى مصر رفض أن يشترك في ديوان الحكم الذي أقامه الفرنسيون لتسيير أمور المصريين، ولم يطلب استرجاع مكانه في نقابة الأشراف ولا في نظارة الأوقاف اللتين كان يديرهما من قبل، ولم يرض أن يطلب من الفرنسيين أن يردوا له أملاكه التي صادروها عزةً وأنفةً ورفضاً للاحتلال.
ثورة القاهرة الثانية على الفرنسيين :
في 23 شوال سنة 1214/مارس 1800 ثار المصريون على الفرنسيين ثورتهم الثانية -ولها قصة يطول ذكرها - وقصد الشعب السيد عمر مكرم ينادونه ويهتفون باسمه فلم يخيب ظنهم وسارع بالنـزول إلى الشوارع، وقاد الثورة الشعبية ومعه بعض الأمراء والكبراء والشجعان، وأمر أهل القاهرة ببذل الأموال فسارعوا لتلبية أمره، وتحرك السيد عمر مكرم من شارع إلى آخر، ومن موقع إلى موقع يحمس الناس ويثبتهم ويشد من عزيمتهم.
ولما وقع الصلح أخرج الفرنسيون بقايا عسكر الترك من مصر وأباحوا لمن أراد من المصريين أن يخرج معهم فخرج السيد عمر فيمن خرج مؤثراً الغربة وتحمل المشاق على البقاء في بلاده وهي محتلة، وذلك هو خروجه الثاني، في أول ذي الحجة سنة 1214/25 ابريل 1800، بعد 37 يوماً من الجهاد وإغلاق أبواب القاهرة في وجه الفرنسيين الذين دكوها بالقنابل من القلاع المشرفة عليها.
ولما خرج السيد من مصر إلى الشام نُهب بيته كما نُهبت بيوت سائر الأمراء الذين آثروا الخروج على البقاء.
ثم لما رجع الجيش العثماني إلى مصر بمعونة الإنجليز لطرد الفرنسيين منها رجع معهم السيد عمر مكرم، واستقبلته القاهرة استقبالاً حافلاً ، وصار رجل مصر وزعيمها الشعبي، وعادت إليه زعامة نقابة الأشراف.
عمر مكرم يُنَصِّب محمد علي حاكماً على مصر :
لما خرج الفرنسيون من مصر سنة 1215/1801 عاد أمراء المماليك إلى عادتهم المذمومة في ظلم الناس واضطهادهم ، وصاروا بحيث يقاتل بعضهم بعضاً ، وكان في مصر والٍ عثماني اسمه أحمد خورشيد باشا لكنه لم يستطع ضبط الأمور، وكان محمد علي رئيساً لجند الأرناؤوط "الألبان" وكان بين الأرناؤوط والمماليك نزاع، وبينهما وبين الوالي التركي وجيشه نـزاع، وحدثت حوادث يطول ذكرها لكن العلماء وعلى رأسهم السيد عمر مكرم رأوا أن أفضل من يلي حكم مصر هو محمد علي لما رأوا من هدوئه وحسن ضبطه للأمور ودهائه وقوته، فاستقر رأي العلماء على تنصيب محمد علي حاكماً علي مصر، فدخل عليه السيد عمر مكرم والشيخ الشرقاوي وعرضا عليه ما اتفقوا عليه فتردد محمد علي ثم وافق، فألبساه لباس الحاكم آنذاك، وبايعاه نيابة عن الشعب في سنة 1220/1805، وكانت هذه الحادثة فريدة في تاريخ مصر لم تتكرر قبل ذلك أو بعده فيما أعلم.
ولم يقبـل الوالي أحمد خورشيد هذا الذي جرى لكنه أُجبر عليه إجباراً بعد حوادث يطول ذكرها، وتصدر السيد عمر في هذه الحوادث كلها، ومما يظهر عمق فهم السيد عمر وثقته بما صنع ما جرى بينه وبين رسول الوالي التركي أحمد خورشيد الذي أرسله ليناقش السيد عمر فيما صنعه فقال له الرسول:
ـ كيف تثورون على مَن ولاه السلطان عليكم وقد قال الله تعالى: (يا أيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم)
ـ فقال له السيد: اعلم أن أولي الأمر هم العلماء وحملة الشريعة والسلطان العادل، وهذا الحاكم الذي أرسلكم ما هو إلا رجل ظالم ... وقد كان لأهل مصر دائماً الحق في أن يعزلوا الوالي إذا أساء ولم يرض الناس عنه ... إن السلطان أو الخليفة نفسه إذا سار في الناس سيرة الجور والظلم كان لهم خلعه وعزله.
ـ فقال الرسول: وكيف يجوز لكم حصارنا ومعاملتنا معاملة الخوارج الكفرة؟
ـ فقال السيد عمر: إننا نقاتلكم لأنكم عصاة قد خرجتم على الحق ...
ومن هذه المناقشة يتبين عظم مكانة السيد عمر وطاعة الناس له ولجوئهم إليه.
ثم حدثت حوادث عديدة كادت تودي بمحمد علي في بدايات حكمه لكن السيد عمر مكرم استطاع أن يتجاوز عواقبها بسلام ، واستطاع تثبيت حكم محمد علي لمصر خاصة بعد أن عزلت الدولة العثمانية محمد علي بعد سنة تقريباً من ولايته وطلبت منه أن يتولى ولاية سلانيك عوضاً عنها لكن السيد عمر استطاع أن يجمع العلماء والكبراء وكتبوا كتاباً للسلطان العثماني يخبرونه بأنهم لا يرضون لحكم مصر إلا محمد علي باشا، ورضخ السلطان لطلبهم بعد حوادث عديدة، وثبت محمد علي حاكماً لمصر.
ولما تولى محمد علي حكم مصر بمساعدة السيد عمر مكرم عظم شأنه، وقال الجبرتي في شأن علوّ مقدار السيد عمر مكرم أوائل زمن محمد علي باشا :
"وارتفع شأن السيد عمر، وزاد أمره بمباشرة الوقائع (أي الحروب) وولاية محمد علي باشا، وصار بيده الحل والعقد، والأمر والنهي، والمرجع في الأمور الكلية والجزئية".
السيد عمر مكرم والحملة الانجليزية على مصر "حملة فريزر":
نزل الانجليز على الشاطئ المصري سنة 1222/1807، واحتلوا الاسكندرية، وتحركوا شرقاً لاحتلال بلدة رشيد لأنهم كانوا يريدون سلوك الطريق نفسه الذي سلكته الحملة الفرنسية قبل نـزولهم بتسع سنوات تقريباً لكن حامية رشيد والأهالي فيها قاوموا أروع المقاومة ووقفوا سداً منيعاً أمام دخول الانجليز بلدتهم، وأرسلوا استغاثات للقاهرة لنجدتهم.
ولما رأى عمر مكرم ذلك عمل شيئاً فريداً رائعاً عبر عنه المؤرخ المصري الجبرتي بقوله :
"نبّه السيد عمر النقيب على الناس وأمرهم بحمل السلاح والتأهب لجهاد الانكليز، حتى مجاوري الأزهر أمرهم بترك حضور الدروس، وكذلك أمر المشايخ بترك إلقاء الدروس".
وعلق المؤرخ المصري الرافعي على ذلك بقوله :
"فتأمل دعوة الجهاد التي بثها السيد عمر مكرم والروح التي نفخها في طبقات الشعب فإنك لترى هذا الموقف مماثلاً لموقفه عندما دعا الشعب إلى التطوع لقتال الفرنسيين قبل معركة الأهرام ، ثم تأمل دعوته الأزهريين إلى المشاركة في القتال تجد أنه لا ينظر إليهم كرجال علم ودين فحسب بل رجال جهاد وقتال ودفاع عن الزمان، فعملهم في ذلك العصر كان أعم وأعظم من عملهم اليوم" وصدق الرافعي والله.
بدايات الجفوة بين السيد عمر مكرم ومحمد علي باشا :
وكان محمد علي غائباً في الصعيد فلما عاد استأذنه السيد عمر في الجهاد هو ومن معه فرفض، وأخبره بأن الواجب قد سقط عنهم وأن هذه مسؤولية الجيش وأن مسؤولية الشعب هي إعداد الأعلاف للدواب التي ستخرج إلى رشيد!! فوجم السيد عمر من هذه الكلمة غير اللائقة ، وحملها بغم وهم وعاد أدراجه وهو ضيق الصدر.
ثم فترت العلاقة بين السيد عمر مكرم ومحمد علي باشا، وساعد على فتورها أكثر أن محمد علي أخذ من المصريين الضرائب الفادحة، وأنزل فيهم من المظالم شيئاً كثيراً، فغضب عليه السيد ورأى أنه قد أخَلّ بالشرط الذي أُخذ عليه يوم توليته الحكم وهو: "أن يسير بالعدل، ويقيم الأحكام والشرائع، ويقلع عن المظالم، وألا يفعل أمراً إلا بمشورة العلماء، وأنه متى خالف الشروط عزلوه"، وبسبب هذا فترت العلاقة بينهما أكثر من ذي قبل فلم يَعُد السيد عمر يتردد على محمد علي باشا كما كان يصنع قبل ذلك.
نفي السيد عمر مكرم :
ثم صار السيد عمر مكرم يجاهر بمعارضة محمد علي باشا بين الناس، وأبدى السخط والتذمر من تصرفات محمد علي باشا، واستمرت الجفوة بينهما عامين طويلين حتى حدثت حادثتان ضخمتا الخلاف وصعدتا به إلى درجات خطيرة، وأولاهما أن محمد علي باشا كُلف من قِبل الدولة العثمانية بحرب الوهابييـن -كما كانوا يسمونهم- في نجد فاقتضى هذا منه أن يجمع المال الكثير من الشعب ، وثانيهما أن أحد المشايخ سُجن ظلماً فرأى خواص المشايخ والكبراء وفي مقدمتهم السيد عمر مكرم أن في هذا مساساً بالاتفاق مع محمد علي باشا وقت تنصيبه والياً على مصر بأن يسير بالعدل، وأن في هذا خلافاً للوثيقة التي وُقعت في بيت الأمير إبراهيم قبل الحملة الفرنسية على مصر ومجيء محمد علي حاكماً بمدة ونصت على السير في الناس بالعدل، فاجتمعوا في الأزهر يتذاكرون في السبل الكفيلة بردع محمد علي والعامة حولهم يصيحون ويهمون بالثورة ، وخلص الأمر إلى كتابة وثيقة تُضمن الشكاوى من محمد علي وترسل إلى رئيس الديوان ليسلمها إليه ، فراع ذلك الاجتماع محمد علي، وعلم برئاسة عمر مكرم له فزاده ذلك تغيظاً عليه ، وطلب من المشايخ الموقعين على الوثيقة الحضور عنده للمناقشة فذهبوا إلا السيد عمر رفض أن يذهب إليه، ولما ذهب المشايخ صار بعضهم يطعن في السيد عمر مكرم -للأسف- وقال عنه بعضهم: "ما هو إلا صاحب حرفة أو جابي وقف يجمع الإيراد ويصرفه على المستحقين، وليس له قدر إلا بمؤازرتنا، فإذا نحن تخلينا عنه لم يكن له بعد انصرافنا قدر ولا خطر" وهكذا يفعل الحسد والتنازع ، وبهذا الموقف الذي استغله محمد علي ضُرب أول إسْفين "مِعْول" بين المشايخ وتراجع قدرهم بعد ذلك فلم يستطيعوا استعادة هيبتهم إلى يوم الناس هذا، واستطاع محمد علي أن يقلم أظافرهم جميعاً بعد خذلانهم السيد عمر مكرم، ونقض اتفاقهم معه الذي كان في الأزهر، كما ذكرت آنفاً.
وتشدد الشيخ عمر في موقفه بعد ذلك وصار يجهر بعدائه لمحمد علي ويقول :
"كما أصعدته للحكم فإني قدير على إنـزاله منه"!!
والتمس محمد علي رضا السيد عمر بكل طريقة حتى أنه حاول أن يهديه الأموال الكثيرة ورجاه أن يعدل عن طريقته لكن السيد عمر مكرم يرفض أن يتنازل عن موقفه إلا بعد أن يعلن محمد علي عن توقفه عن جباية الضرائب بحسب إرادته ومشيئته دون الرجوع إلى زعماء الشعب.
وبينما الأمر على ذلك حدثت حادثة كانت القشة التي قصمت ظهر البعير، وهي أن محمد علي أعدّ "كشف حساب" ليرسله إلى الدولة العثمانية ليبين لها أنه صرف الأموال التي جباها من الشعب بناء على أوامر قديمة منها منذ أن كان الصدر الأعظم -رئيس وزراء الدولة العثمانية - يوسف باشا في مصر زمن خروج الفرنسيين منها، وطلب من المشايخ التوقيع على كشف الحساب فقبلوا ورفض السيد عمر مكرم وبرر رفضه بأن الضرائب المعتادة كانت كافية لكل ما قام به محمد علي من الأعمال العامة وأنه لا يستطيع أن يشهد إلا بالحق الذي يعتقده وهو أن الضرائب التي فرضها محمد علي زائدةً على ما كان من قبل لا داعي لها، فغضب محمد علي وطلب اجتماع المشايخ فحضروا إلا السيد عمر وهناك أعلن خلعه من نقابة الأشراف ونفيه إلى دمياط، وكان ذلك سنة 1224/1809، فامتثل للأمر، وللأسف فإن جماعة من العلماء قاموا بكتابة محضر إلى الدولة العثمانية يدافعون عن نفي محمد علي باشا السيد عمر مكرم واتهموه باتهامات غير صحيحة، لكنهم بعد نفيه ذاقوا وبال صنيعهم، وصدق قول الجبرتي فيهم وفي السيد عمر :"كان ظلاً ظليلاً عليهم وعلى أهل البلد يدافع عنهم، ولم يزالوا بعده في انحطاط".
وقضى السيد عمر مكرم قرابة ثلاث سنوات في دمياط بنى فيها نـزلاً لنـزول التجار الذين كانوا يقصدون ميناءها من سائر البلدان، ثم تحول إلى طنطا فبقي فيها خمس سنوات تقريباً ، إلى أن عفا عنه محمد علي وأعاده إلى القاهرة بعد أن طلب السيد عمر منه أن يحج، ثم أرسل له محمد علي خطاباً لطيفاً قال له فيه :
"إلى مطهر الشمائل سَنِيِّها، حميدَ الشؤون وسميّها، سلالة بيت المجد الأكرم والدنا السيد عمر مكرم دام شأنه أما بعد:
قد بلغنا نجلكم عن طلبكم الإذن في الحج إلى البيت الحرام وزيارة روضته عليه الصلاة والسلام للرغبة في ذلك ، والترجي لما هنالك، وقد أذنّا لكم في هذا المرام؛ تقرباً لذي الجلال والإكرام، ورجاء لدعواتكم بتلك المشاعر العظام، فلا تَدَعوا الابتهال، ولا الدعاء لنا بالقال والحال، كما هو الظن في الطاهرين والمأمول من الأصفياء المقبولين ..." وعاد السيد عمر إلى القاهرة التي ارتجت فرحاً بمقدمه، وخرج عامة الشعب إلى بولاق لتحيته، بعد تسع سنوات من نفيه.
نفي السيد عمر مرة أخرى !!:
وبعد ثلاث سنوات من عودة السيد عمر من المنفى حدثت حادثة استدعت إعادة نفيه وهي أن الدولة العثمانية طلبت من محمد علي تموين بعض سفنها التي تحارب اليونانيين في جزيرة كريت وذلك سنة 1237/1822 فاضطر محمد علي لفرض ضرائب على الشعب الذي هاج وماج، وهتف باسم السيد عمر مكرم الذي لم يكن قادراً على الاستجابة لطلبهم لكبر سنه وضعف قوته، لكن محمد علي خاف من تجدد الفتن فبادر بنفيه إلى طنطا لكنه لم يبق في منفاه طويلاً إذ توفي في السنة نفسها عن ثلاث وسبعين سنة، ودفن في قرافة القاهرة رحمه الله تعالى وغفر له.
وبتنحية السيد عمر مكرم تنتهي مرحلة من أهم مراحل مصر الحديثة، ويُجهض عمل من أهم الأعمال التي مَرّت على ديار العرب في القرنين الأخيرين ، ألا وهو مشاركة العلماء الحكام في إدارة شأن العامة وتوجيههم، ومشاركة العلماء في اختيار الحكام ليكونوا معهم أولياء الأمور، ولا أعلم أنه قام في ديار العرب في العصر الحديث عمل مشابه لما كان في مصر، ولو قُدر لتلك المشاركة أن تمضي إلى نهايتها لتغير تاريخ العرب والمسلمين بل العالم كله، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
ـ وقد تمنيت أن يلاين السيد عمر مكرم محمد علي قليلاً، وأن يداريه شيئاً من المداراة حتى يحصل منه على أكبر قدر ممكن من المكاسب للبلد والشعب ؛ فإن الصدام بينهما لم يكن من المصلحة أبداً لكن هكذا جرى الأمر، والحمد لله على كل حال.
وفي النهاية لابد من القول بأن العلماء اعتادوا أن يصفوا بعض المتأخرين بأنهم خاتمة الحفاظ أو خاتمة المحدثين أو غير ذلك من الألقاب، وأستطيع أن أقول إن السيد عمر مكرم كان خاتمة العلماء المجاهدين، فإني لم أر في التاريخ المصري الحديث بل التاريخ العربي الحديث عالماً بوزن السيد عمر مكرم ومشاركته في الجهاد وتوجيه العامة مع الهيبة والمقام العالي بين سائر الناس، حكاماً ومحكومين، وقد كان خاتمة لعلماء مصريين هم كالشامة بين الناس، وكلهم كانوا مجاهدين عاملين، أذكر منهم المشايخ سليمان المنصوري، ومحمد بن سالم الحفناوي، وعلي بن موسى الحسيني المقدسي المصري، وعُرف بابن النقيب، وعلي الصعيدي، والشيخ الدردير، والشيخ العروسي، وخاتمتهم السيد عمر مكرم رحمه الله تعالى.
ولولا أن شرطي في هذه السلسلة ألا أترجم لأحد من العلماء إلا من العصر الحديث لكنت قد ترجمت لأولئك الأكابر رحمهم الله تعالى ورضي عنهم.
وأختم بما قاله المؤرخ المصري عبدالرحمن الرافعي في السيد عمر مكرم فإنه معبر عن حاله أحسن التعبير:
"كان للشعب زعماء عديدون يجتمعون ويتشاورون ويشتركون في تدبير الأمور، ولكلٍ منهم نصيبه ومنـزلته، ولكن من الإنصاف أن يُعرف للسيد عمر مكرم فضله في هذه الحركة؛ فقد كان بلا جدال روحها وعمادها".
المصدر : موقع التاريخ .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين