العالم العامل المرشد الموجِّه فضيلة الشيخ محمد أمين سراج رحمه الله (1)

تمهيد

اللهم أْجُرْنا في مصيبتنا وأَخْلِفْ لنا خيرًا منـها. اللهم ارحمه رحمةً واسعة، وأسكنـه فَسيح جناتك، اللهم اجعل قبره روضةً من رياض الجنة، اللهم احشره مع الذين أنعمتَ عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا. اللهم ألهم أهله وذويه وطلابـه ومحبِّيه الصبر والسلوان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فلله ما أعطى ولله ما أخذ، وكلُّ شيء عنده بـمقدار، وإن العين لتدمع وإن القلب ليحزن، وإنا لفراقك لمحزونون، ولكن لا نقول إلا ما يرضى ربنا: إنا لله وإنا إليه راجعون.

كلمات أخذتُ أردِّدها مرارًا بحزنٍ شديدٍ، وأسىً عميقٍ، فورَ سماعي خبرَ وفاةِ شيخي الجليلِ فضيلة الشيخ محمد أمين سراج يوم الجمعة السابع من رجب 1442هـ الموافق 19 شباط/فبراير 2021م، عن عمرٍ ناهز الواحدة والتسعين، والذي حبَّب إليَّ الحديثَ النبويَّ الشريفَ، وغرسَ في قلبي خدمة العلوم الإسلاميّة في حلقات جامع السلطان محمد الفاتح منذ عام 1974م؛ منذ سبعٍ وأربعين سنةً، حيثُ التقيتُ معه لأول مرةٍ في بيت قريبـهِ الأديبِ المتفنِّن والفقيهِ المشهورِ فضيلةِ الشيخِ فؤاد جَامْدِيـبي مفتي منطقة بَشِيكْطَاشْ في إسطنبول رحمه الله، والذي زرتـه مع زميلي شرف الدين للاستفسار عن موضوع فقهيٍّ، عندما رجعَ الشيخ فؤاد من الحرمين بعد أداء فريضة الحجِّ، وكان عنده فضيلة الشيخ محمد أمين سراج، فقد أحبَّنا ودعانا إلى دروسه في جامع السلطان محمد الفاتح رحمه الله، وكان عمري حينئذ سبعَ عشرةَ سنةً.

وفعلًا بدأتُ بعد ذلك بستَّةِ أشهرٍ في شهر أكتوبر عام 1974م في الحضور في دروس شيخي المغفور له في جامع السلطان محمد الفاتح رحمه الله، حيث كان يقوم بتدريس الفقه والأصول والحديث وعلوم الحديث والتفسير وعلوم القرآن والشمائل المحمَّديَّة وما إلى ذلك من الدروس في جدولٍ له معيَّن، واستمرت الدروس طوال أربع سنوات، وبعد أن أكملتُ الدراسة في المعهد الإسلاميِّ العالي والذي كانت مدَّة الدراسة فيه أربع سنوات، فقد ابتعثني شيخي الجليل مع زملائي إلى مكَّةَ المكرَّمةِ لمواصلة دراستي الشرعيَّة في قسم الدراسات العليا بجامعة أمِّ القرى، وذلك بتوصية من شيخه الأزهريِّ فضيلة الشيخ أحمد فهمي أبو سُنَّة رحمه الله، حيث كان يقوم بالتدريس بجامعة أمّ القرى حينئذ. فقضيت في مكة المكرمة خمس عشرة سنة. وعندما رجعتُ إلى إسطنبول في عام 1994م، فقد وجدتُ نفسي في حلقات شيخنا المباركة في جامع السلطان محمد الفاتح رحمه الله، للمرة الثانية ولكن لأقومَ في هذه المرة بتدريس أصول الحديث تحت إشرافه وبحضوره هو في جميع دروسي، وأنا حتى الآن معتزٌّ بالتتلمذ عليه منذ سبعٍ وأربعين سنةً، فأرجو أن يجمعَني ربِّي وإخواني الزملاء مع شيخنا الجليل في الجنَّة. اللهم آمين.

فكما قال الأستاذ الدكتور رجب حجازي محمد في رثاءِ فقيدٍ عالمٍ نادرٍ يحبـُّه حبًّا جمًّا: "وإنّ من أعظم أنواع الفقد على النفوس قسوةً، وأكثرِها على الأوطان لوعةً وأثرًا، فقْدَ العلماء الربانيين والأئمة المصلحين والرجال القدوة العاملين المخلصين، الذين يخدمون الوطن والدين، وما ذاك إلا لأن في ذهابـهم رَزِيَّـة، وفقدهم مصيبة وغيابـهم ثلمة في الوطن والدين، لا تُسَدُّ ولا تُعَوَّض إلا بعد حين، فبناء العلماء المخلصين، والرجال لا يتمُّ إلا عَبْرَ العقود والسنين."

ترجمتـه المختصرة

هو شيخي الجليل العلَّامة المحدّث الفقيه الموجِّه الكريم، الداعية المخلص لله، معلِّم الأجيال ومربِّيهم، المجاهد الصامت فضيلة الشيخ محمد أمين بن الشيخ مصطفى بن أسعد بن يوسف بن عليٍّ السراج.

ولد في في قرية (طانوبا) من قرى محافظة (أربعة) التابعة لولاية (طوقات) شرقي تركيا في أوَّل يوم من شهر رمضان المبارك عام 1929م، وبدأ حفظ القرآن الكريم في السادسة من عمره على يد والده، وأكمل حفظه للقرآن الكريم وهو ابنُ تسعِ سنواتٍ، ثم أرسلَهُ والدُه في عام 1943م إلى إسطنبول لمواصلة دراستـِه الشرعيِّةِ، وكان عمرُه أربعَ عشرةَ سنةً.

وكان أوَّلُ شيخٍ له والدُه العزيز الشيخ مصطفى بن أسعد سراج الذي ربَّاه تربيةً إسلاميَّةً، وأوذي في تعليم كتاب الله الكريم لأولاده في الليالي سرًّا بسبب مطاردة ومعاقبة من يسعى لتعليم القرآن الكريم في تلك الأيام السوداء في الأربعينيات في تركيا، حيث كانت تلاوة كتاب الله الكريم ممنوعةً منعًا باتًّا.

وقد وصف الأخ الكريم فضيلة الشيخ محمد مجير الخطيب أيّام شبابـه بقوله: "هو حجَّة الحقِّ على الخلق، لأنه وُلِدَ ونشأ وترعرعَ في أحْلَكِ الظروف وأشدِّ الأيام على الإسلام وأهلِه في هذا البلد المسلم الطيّب المبارك، حيث كان يُحارَبُ كلُّ شيءٍ يَـمُتُّ إلى الإسلام بصلةٍ بَدْءًا من المظاهر وانتـهاء بالعقائد. كان استخدام الحرف العربيّ جريمةً يعاقب عليها القانون، كان لبسُ العمامة جريمةً تصِلُ إلى حدِّ الإعدام، وحجابُ النساء ممنوعًا، وكان السفرُ إلى الحرمين الشريفين حجًّا وعمرة ممنوعًا، كما كان السفرُ لطلب العلم في مصر أو في الشام ممنوعًا، حتى الأذانُ بلغة القرآن كان ممنوعًا في ذلك الوقت. لكنّ ذلك كلَّه لم يمنع الشابَّ الناشئَ في طاعةِ اللهِ، محمد أمين سراج أن يحفظَ القرآنَ وأن يتعلَّم دينـَه وأن يتجاوز تلك المحظورات. هذا حجَّة من حجج الحقِّ على الخلق. هي من حجج الحقِّ على ملايين من الشباب المسلم الذين يضيِّعون دينـهم ودنياهم تحت وَطْأَة القوانين الظالمة التي لم تبلغ في أيِّ بلد ما بلغت ما كان في تلك السنوات التي نشأ فيها شيخُنا رحمه الله وأعلى في عليِّين درجاتـه. هذا الشجى بوفاة شيخنا حرَّك ذلك الشجى بالظلم الذي كان ممَّا لا يتصوَّره كثيرٌ من الشباب المنعَّم المرتاح من أبناء المسلمين."

وقد تلقَّى شيخنا الكريم العِلمَ على يد مشايخَ أجلَّاء من مدرسي جامع السلطان محمد الفاتح، مثل فضيلة الشيخ خسرو أفندي، وفضيلة الشيخ سليمان بن فضل الرَّقَّـوِي رئيس القيِّمين في الجامع؛ وقد حضر عليه قراءة مجلَّدين من صحيح البخاري، وأجازه إجازة خطيَّةً، وفضيلة الشيخ عمر أفندي بن عثمان القَسْطَمُوني شيخِ القرَّاءِ وإمام جامع السلطان محمد الفاتح، وفضيلة الشيخ سليمان حلمي طوناخان الـسِّـلِـسْـترَوِيّ من المدرِّسين بجامع السلطان محمد الفاتح أيضًا، والعلَّامة المتفنِّن فضيلة الشيخ مصطفى أفندي الكُمُولـْجِينَوِيِّ، الذي كان يلقَّب بالمكتبة السيَّارة لكثرة قراءتـه ومطالعتـه، فقد كان يعتكف في مكتبة جامع السلطان محمد الفاتح من الصباح إلى المساء، وكان يوجد فيها اثنا عشرَ ألفَ كتاب، وقد استعرَضَ مكتبةَ جامع السلطان محمد الفاتح مرَّتين. كما درَسَ شيخُنا العزيزُ لدى العارف بالله العلَّامة الفقيه المرشد الموجِّه الشيخ علي حيدر أفندي، من كبار المشايخ في المشيخة الإسلاميَّة في العهد العثمانيِّ الأخير، حيث كان يُدرِّسه كتاب الشفاء للقاضي عياض وهو يبكي، وكان عمره قد ناهز التسعين.

وفي عام 1950م يوم أن كان عمره إحدى وعشربن سنة قد هاجر شيخنا إلى مصر لمواصلة دراستـه الشرعيَّة بأمرٍ وتوصيةٍ من شيخه الجليل علي حيدر أفندي، وقد سجَّل أوَّلاً في آخر مستوى من الثانوية الأزهريَّة، ثم التحق بجامعة الأزهر، حيث درس على يد نخبةٍ من المشايخ الأزهريِّين.

وخلال أيام دراستـه في جامعة الأزهر في مصر، تلقَّى الدروس من أمثال المحدث البارع العلامة الشيخ عبد الوهاب بُحَيْرِي، والفقيه الأصوليِّ العلَّامة الشيخ أحمد فهمي أبو سُنَّة، وفضيلة الشيخ حَسَنَيْن محمد مخلوف، مفتي الديار الـمصريَّة السابق، والعالم الفاضل الفقيه فضيلة الشيخ عبد الرحيم الكِشْكِي، وفضيلة الشيخ محمود شوكت العَدَوي، وفضيلة الشيخ محمود شَـلْـتُوت شيـخ الأزهر، والـمـحدِّث المـحقِّق فضيلة الشيخ عبد الوهاب عبداللطيف، وفضيلة الشيخ محمد إحسان أفندي اليـُوزْغَادِي التركي مولدًا ومَنْشَأً ثم القاهريِّ منزِلاً ومَرْقَدًا، كما التقى خارج الجامعة بالعلَّامة شيخ الإسلام مصطفى صبري التوقادي آخر شيوخ الإسلام للدولة العثمانيَّة، ووكيلِه الإمام محمد زاهد الكوثريِّ رحمهم الله رحمةً واسعةً.

شيوخه الأجلاّء الذين أجازوه

وكان ممّن أجاز شيخَنا الجليل من العلماء الأفاضل: العالم الفاضل الزاهد الشيخ سليمان بن فضل الرَّقَّـوِي من أهل ألبانيا، المدرِّس بمسجد السلطان محمد الفاتح ورئيس القيِّمين فيه، حيث تشرَّف بخدمة المسجد لمدَّة خمسٍ وستين سنةً، وقد حضر عليه شيخنا قراءة مجلّدين من صحيح البخاريّ، فمنح له الإجازةَ الخطيّةَ في إسطنبول عام 1367ه/1948م، وكانت أوَّلَ إجازةٍ علميّة له تشرَّف شيخنا بالحصول عليها.

ومنـهم: خاتمة علماء الدولة العثمانية وأحد كبار العلماء والمدرِّسين بجامع السلطان محمد الفاتح، المهاجر بدينـه إلى مصر، الإمام العلَّامة المحدِّث النقَّادة الشيخ محمد زاهد الكوثري، وهو من أجلِّ شيوخه الذين كان يعتزُّ دائمًا بالإنتساب إلى سلسلتـهم في ثبَـتـِه المسمَّى بــ"التحرير الوجيز فيما يبتغيه المستجيز"، حيث تكرَّم بمنح الإجازة له في القاهرة قبل وفاتـه بعشرين يومًا في عام 1371ه/1952م. وكان شيخُنا آخِرَ من أجازَهُ الإمامُ الكوثريُّ من طلبة العلم، وبرحيلِهِ لم يبقَ أحدٌ في العالم من الطلبة المجازين من الإمامِ الكوثريِّ رحمه الله.

ومنـهم: العالمُ الفاضلُ المحدِّثُ الشيخ محمد حسن محمد المشَّاط المكّي، المدرِّس بالحرم المكِّيِّ الشريف وصاحبُ الثَّبَتِ المسمَّى بـ"الإرشاد بذكر بعضِ ما لي من الإجازة والإسناد"، وكان ذلك في المسجد الحسينيِّ بالقاهرة عام 1377ه/1958م.

ومنـهم: العالم الفاضل المحدِّث المسنِد الشيخ محمد ياسين بن محمد عيسى الفادانيُّ المكّيُّ، صاحب الثَّبَتِ العالي المسمّى بــ"إعلام القاصي والداني"، وكان ذلك في منـزله بمكَّة المكرَّمة عام 1401ه/1981م.

ومنـهم: العالم الفاضل المحدّث المحقّق البارع الشيخ عبد الفتاح أبوغُدَّة الحلبيُّ، صاحب المؤلَّفات القيِّمة العديدة، وكان خليفةً لشيخه لإمام محمد زاهد الكوثريِّ في علمِهِ وتحقيقه وسيرتـِه، وهو أبرزُ تلامذتـه، وكان ذلك عندَ آخرِ زيارةٍ له إلى تركيا عام 1416ه/1996م.

ومنـهم: العالم الفاضل المحدِّث الشيخ محمد عبد الرَّشيد النعمانيُّ من علماء باكستان، صاحب الثبَت المسمَّى بــ"الكلام السديد في تحرير الأسانيد"، وكان ذلك في إسطنبول عند زيارتـه لتركيا عام 1417ه/1997م.

ومنـهم: العلامة الربَّانيُّ المرشد العالميُّ المفكر البارع الشيخ أبو الحسن علي النَّدَوِيُّ الهنديُّ، وقد أجازَه خلال زيارتـه له في ندوة العلماء بمدينة لَكْنَوْ في الهند عام 1418ه/1998م.

ومنـهم: الفقيه العالم عبد الرزاق الحلبيُّ، والفقيه محمد أديب الكَلاَّس، وقد أجازاه خلال زيارتـه لهما في دمشق عام 1427ه/2006م، رحمهم الله تعالى رحمة واسعة.

أحبابـه من العلماء الأكارم

كان لشيخنا أحبابٌ وأصدقاءُ ومحبّون من العلماء والمفكِّرين والدعاة كثيرون، وكانوا يزورونـه في غرفة الإمامِ في جامع السلطان محمد الفاتح، وهو يزورهم في بلدهم ويراسلهم في المناسبات الكريمة، حيث إنَّه كان طَوَال حياتـه همزةَ وصلٍ بين العلماء العرب وبين إخوانـهم العلماء في تركيا، وكان له دورٌ بارزٌ في الربط بين العلماء العرب والأتراك.

كما قال أخونا الفاضل الأستاذ طالب صديق يحيى الحلبيُّ:كانت لشيخنا علاقةٌ مميَّزةٌ مع الشيخ عبد الفتاح أبو غدّة الحلبيِّ رحمه الله، فعندما كان الشيخ يزور إسطنبولَ تَـجِدُه يفـرِّغُ نفسه تمامًا له، كما كانت له علاقةٌ مميَّزةٌ مع الأستاذ مصطفى محمد الطحَّان اللبنانيِّ الكويتيِّ، وكان يعتبر نفسه الأب الروحيَّ للطلبة العرب في إسطنبول وكُنَّا نعتبرُه كذلك، وكان شديدَ الاهتمام بوقف دار السلام الذي أسستـه الجالية السورية قبل الأحداث بكثيرٍ في منطقة فاتح في إسطنبول، يسألنا عنه باستمرار، ويحرِص على حضور المناسبات التي أقامها الوقف، ويحُضُّ طلابَـه على التواصل معنا، كما كان مهتمًّا بالمدرسة العربيَّة السعوديَّة ودائمَ السؤال عن أخبارها، وعندما كان يلتقي بالقنصل السعوديّ في المناسبات يوصيه بـها خيرًا. وكانت زيارتـه في العيد في بيتـه خلف جامع الفاتح إحدى السنن الراتبة بالنسبة لنا."

ومن أحبابـه الكثيرين في العالم الإسلامي: زميلُهُ من أيام الدراسة في جامعة الأزهر المحدِّث البارع فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور نور الدين عِتْر الحلبيُّ، وزميله الآخر فضيلة الشيخ سعيد الكَحِيل الحمصيُّ، وزميلُه الآخر المفسِّر الفقيه فضيلة الشيخ محمد وهبة الزُّحَيْليّ، والعلَّامة المفسِّر فضيلة الشيخ محمد علي الصابونيُّ، وحبيبُـه الموقَّر العلَّامة المحدِّث البارع فضيلة الشيخ محمد بن محمد عوَّامة الحلبيُّ، وصديقه الحميم فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور أحمد عبد الرزاق الكُبَيْسِيُّ العراقيِّ، والمحسن الكبير فضيلة الشيخ يوسف الـحَجِّي وزير الحجِّ والأوقاف الأسبق في الكويت والمحسن الكبير فضيلة الشيخ أبو بدر عبد الله المطوِّع الكويتي رحمهم الله جميعًا. ومنهم: فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور صالح بن عبد الله بن حُـمَيْد إمام وخطيب المسجد الحرام، والمفكِّر الداعية فضيلة الشيخ عبد المجيد الزِّنْـدانيُّ اليمانيُّ، أحسن الله إليهما ومتَّعهما بالعمر الصحيح المديد المبارك.

وكان من أحبابـه من العلماء والمشايخ في تركيا: فضيلة الشيخ عمر نصوحي بيلْمَنْ الحسينيُّ نسبًا مفتي إسطنبول ثم رئيس الشؤون الدينية، وفضيلة الشيخ عبد الرحمن كُورْسَس رئيس القرَّاء وإمام جامع بايزيد سابقًا، والأستاذ الأديب المتفنِّن فضيلة الشيخ بكر خاكي أفندي مفتي إسطنبول، وفضيلة الشيخ على يعقوب أفندي، وفضيلة الشيخ فؤاد جامْدِيـبي مفتي منطقة بَشِيكْطَاشْ في إسطنبول، رحمهم الله، وكان يتأسَّف على رحيلهم ويترحَّم عليهم ويقول: ما بقي لنا من نتسلَّى بصحبتـهم ونستفيد من علومهم من العلماء القدماء.

وكان له صلةٌ وثيقةٌ بجميع الجماعات الإسلاميَّة المعتدلة داخل تركيا وخارجها، ممّا اكتسب به أحبابًا كثيرين، فمنـهم المرشد الموجِّه الشيخ محمود سامي رمضان أوغلو، ممّن دُفِنَ في بقيعِ الغرقدِ، والمرشدُ الموجِّهُ الشيخ محمد زاهد قُوتـقُو البُرُوسَويّ، والمرشد الموجِّه الشيخ أحمد ياشار أفندي الطِّرَابْـزُونِيّ رحمهم الله، والمرشد الموجِّه الشيخ محمود أوسطه عثمان أوغلو أمدّ الله في عمُرِهِ في صحةٍ وعافيةٍ.

وكان من أحباب شيخنا المغفور له من زملائنا الكرام ممن يُثني على أعمالهم العلميّة تشجيعًا لهم وتقديرًا: الأستاذ الدكتور سائد محمد بَكْدَاش الحلبيُّ، والأستاذ الدكتور محمود أحمد مصري الحلبيُّ، والأستاذ الدكتور مجد أحمد مكي الحلبيُّ، والأستاذ الدكتور حمزة وَسِيم البكريُّ الأردنيّ حفظهم الله ورعاهم ووفَّقهم للخدمات العلمية المشكورة.

دروسه في جامع السلطان محمد الفاتح

كتبَ اللهُ تعالى لأهل العلم خصائصَ كريمة ومزايا طيِّبة، فمنـهم علماءُ مدرّسون قاموا بتدريس العلوم الإسلاميَّة طوالَ حياتـهم بدون مَلَلٍ أو سآمة ولم يشتغلوا بالـتأليف، ومنـهم علماءُ مؤلِّفون ألَّفوا مئاتٍ من الكتبِ والرسائلِ لدرجةِ أنَّ الانسانَ يتحيَّر من عِظَمِ الجهودِ الجبَّارة التي بذلها العلماء المؤلّفون في ذلك، ومنـهم علماء مدرِّسون وفي نفس الوقت مؤلِّفون وهم الذين لم يكتفوا بالتدريس فقط وإنَّما اشتغلوا بتأليف الكتب في الوقت نفسِه، وقد كان شيخنا الفاضلُ رحِمَهُ اللهُ من العلماء المدرِّسين الذين أفْنَـوْا حياتَـهم في التدريس والتربية والتوجيهِ، مع أنَّـه كان ماهرًا في الكتابة باللغتين العربيَّة والتركيَّة، حيثُ إنه لم يكن له إلا ترجمةُ كتاب "في ظلال القرآن: للشهيد سيِّد قُطْب رحمه الله مع بعض زملائه، وقد قدَّم لبعض الكتب كلماتٍ توجيهية للاستفادة منـها.

وكان لشيخنا الفاضل جدولٌ دراسيٌّ لم يتغيَّر طوالَ حياتـه، يتكوَّن من دروسٍ إشراقيَّـة وصباحيَّة ومسائيَّة، فالدروسُ الإشراقيَّة في يومَي الجمعةِ والأحدِ كانت تبدأ بعدَ شروقِ الشمس وتستمرُّ لمدَّة ساعتين تقريبًا، وكانت الدروس الصباحيَّة في بقيَّة الأيام من الساعة العاشرة إلى الساعة الثانية عشرة ظهرًا، والدورس المسائيَّة كانت فيما بين الساعة الثامنة والعاشرة ليلاً من الإثنين إلى الجمعة. وكانت الدروسُ تبدأ بقراءةِ صفحةٍ كاملةٍ من كتاب الله تعالى يتلوها أحدُ الحفاظ من الطلبة الحاضرين وتنتـهي بدعاءٍ خاصٍّ أوَّله "اللهم ألِّف بين قلوبنا وأصْلِحْ ذات بيننا."

ومع أنَّ شيخنا من خِرِّيجي كلية الشريعة في جامعة الأزهر ثم التخصُّص في القضاء؛ لم يكن يكتفي بتدريس كتب الفقة والأصول فقط؛ وإنَّما يهتمُّ بتدريس الكتب الستَّة وغيرِها من المصادر الحديثيَّـة القديمة أيضًا، وكان مما عُنيَ بـه من الكتب القديمةِ: كتابُ (الشِّفاء بتعريف حقوق المصطفى) للقاضي عياض رحمه الله، وقد قام بتدريسه أو بالإشراف على تدريسه عشرَ مرَّات، وكان ذلك في صباح كلِّ يومِ أحدٍ. وكان نصيـبي منـه المرَّة الثامنة، حيث إنِّي قمتُ بتدريس كتابِ الشِّفاء من أوَّله إلى آخره تحتَ إشرافه القيِّم وتعليقاتـِه الكريمة، جزاه الله عنَّا خير الجزاء.

وقد قام بتدريس التفاسير القديمة مثل الكشاف للزمخشريِّ وتفسير البيضاويِّ وتفسير ابن كثير وتفسير النسفيِّ، وكتب الفقه القديمة من اللباب للميدانيِّ والاختيار للموصليِّ والهداية للمُرْغيـنانيِّ ومراقي الفلاح للشُّـرُنْبِـلاليِّ، والمنار في أصول الفقه لحافظ الدين النَّسَفيّ، وأصول الفقه للشيخ حمدي الأعظميِّ، وأصول الفقه للفقيه الأصوليّ الداعية الشيخ عبد الكريم زيدان العراقيِّ، وتفسير آيات الأحكام، وصفوة التفاسير من مؤلَّفات شيخنا الحليل محمد علي الصابوني رحمه الله، والرفع والتكميل والأجوبة الفاضلة من تحقيقات شيخنا الجليل عبد الفتاخ أبو غدَّة رحمه الله، وغيرِها من الكتب.

يتبع...