العالم الرباني الشيخ سالم الزردابي رحمه الله

 

توفي صباح الأحد 22 من ذي الحجة 1434 الموافق 17 أكتوبر 2013 عالم رباني عابد، وفقيه صوفي مجاهد، هو الشيخ سالم الزردابي عن ستة وخمسين عاما. وقد تلقينا النبأ بحزن شديد على رحيله وأسى بالغ على فراقه، فقد كان لي صديقا عزيزا بل أخا وفيا، دامت الصحبة بيننا في الله تعالى خمسا وثلاثين سنة لم يعكر صفوها شيئ مما يحدث بين الأصحاب.

والشيخ سالم الزردابي عالم جليل كان فقيها متمكنا وصوفيا متحققا، صادق اللهجة شديدا في دين الله تعالى، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لا يخاف في الله لومة لائم.

 

 أوذي في سبيل الله تعالى وسجن في دمشق وأخرج من الشام ومنع من العود إليها لأنه صدع بالحق، ثم نصره الله تعالى فرجع إليها وبقي كعادته لا يقر على باطل ولا ينام على ضيم. وكثيرا ما كان يقول لي: "هل يجوز السكوت على هذا ما رأيك؟ ألا يجب أن ننكر". وقد اضطر للخروج من سورية بعد أن خاف على نفسه وأهله فرجع إلى تونس إماما وخطيبا ومدرسا إلى أن توفاه الله تعالى، ولم أر أحدا من أهل الآفاق يحب الشام ويتعلق بها كما كان الشيخ سالم يحب الشام، وقد قضى فيها من عمره ستا وثلاثين سنة.

 

ولد الشيخ  في تونس سنة ١٩٥٧ ونشأ فيها، ثم رحل إلى فرنسا في طلب الدنيا فسعت إليه الآخرة، وأراد الله تعالى أن يصطفيه لنصرة هذا الدين، فتعرف على شباب من جماعة الدعوة والتبليغ فكانوا سبب توبته، فخرج معهم يدعو إلى الله وسار معهم إلى بلاد الهند والسند وهو لم يبلغ العشرين ربيعا، واجتمع بالشيخ مولانا إنعام الحسن رحمه الله وغيره من أفاضل العلماء هناك. ثم أراد طلب العلم، فقصد دمشق سنة ١٩٧٦ وانتسب إلى معهد الفتح الإسلامي، فكان مثالا بين الطلبة في العبادة والأخلاق والأدب. وعرف أن ساعات الدرس في المعهد لا تغنيه، فقصد علماء الشام يستقي من معين كل عالم ما برع فيه. وقد تعرفت إليه نحو سنة ١٩٧٩ لما جاء إلى العلامة الوالد رحمه الله تعالى مع طلبة المغاربة، فخصَّص لهم الوالد أوقاتا في سنن أبي داود والمنتقى شرح الموطأ للباجي وجواهر الإكليل شرح مختصر خليل، وقد انتفعوا بعلم الوالد وتحقيقه، واستفادوا من حاله مع الله تعالى إذ كان رحمه الله ممن يربي بالنظر ويجذب إلى الله تعالى بالحال قبل المقال.

 

وحمله الوفاء للعلامة الوالد على طلب العلم عليّ وحضور دروسي العامة والخاصة بين سنتي ١٩٨٦ و ١٩٩١ وهي سنة سفري، فقرأ علي في شرح الجوهرة للباجوري، وفي إرشاد الساري ومغني اللبيب وغيرها، فأكرمني الله تعالى به أخا صدوقا وخلا وفيا لم تغيره السنون ولم تتقلب به الأحوال، وقلما كان يمر يوم لا نلتقي فيه، وقد نلتقي مرة في الصباح ومرة في المساء.

 

وقد بايع الشيخ سالم رحمه الله منذ قدومه إلى دمشق العارف بالله الشيخ عبد الرحمن الشاغوري في طريق الإمام أبي الحسن الشاذلي، وسلك على يديه، وواظب على حضور مجالسه العامة والخاصة، فانتفع بالشيخ انتفاعا كبيرا، وكان من أجلِّ أصحابه.

 

وممن قرأ عليهم االفقيد من الشيوخ الفقيه الزاهد الشيخ حسين بدران فإنه لازمه حتى اختص به، وفقيه المليحة الشيخ عبد الرحمن النعسان، وحمل عنهما سير الشيخ علي الدقر وأحواله وأخبار العلماء، وانتفع بالعلامة الشيخ عبد الرزاق الحلبي فإنه قرأ عليه في معهد الفتح ولازم درسه يوم الثلاثاء في جامع القطط نحو ثلاثين سنة، وانتفع بالعلامة الشيخ محمد ديب الكلاس فقرأ عليه في معهد الفتح وحضر عليه في داره وفي دار العلامة المربي الشيخ صالح الفرفور، وحضر بعض دروس الشيخ حسام الدين الفرفور في داره، وتردد على الشيخ عبد الوكيل الدروبي، ولازم الشيخ أحمد الحبال في مجالس الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. وقرأ على العديد من الشيوخ سوى هؤلاء في المعهد أيام الدراسة وخارجه فإنه لم ينقطع عن طلب العلم وملازمة الشيوخ.

 

اشتغل الفقيد بالتدريس في معهد الفتح الإسلامي، ثم في معهد التهذيب والتعليم، وافتتح حلقات للتجار وأقرأ العديد من الطلبة. وتولى منتصف الثمانينات إماما في جامع الإحسان في حي الأمين وسكن فيه مدة، إلى أن حدث أن المخابرات ولت رجلا فاسقا قيما على المسجد وأسكنته في البيت الملحق بالمسجد، فكان يشرب الخمر ويأتي الفواحش، فقام الفقيد مستنكرا يشتكي إلى الأوقاف، فلما لم تتخذ الوزارة أي إجراء مشى في طول البلاد يفضح المخابرات ويخبر الناس بما آل إليه أمر المساجد ويستنجد أهل النخوة. فكان أن سجن وضرب وأوذي وأخرج من الشام نحو سنة، إلى هيأ الله تعالى من شفع له فعاد وتولى إماما في مصلى الرحمة في المنطقة الصناعية وبقي كما هو يصدع بالحق ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. وكان معتقَدا من التجار لما يرونه فيه من الاستقامة وصلاح الحال وصفاء الطوية.

 

كان الفقيد الشيخ سالم عالما ربانيا درس المذاهب الثلاثة الحنفي والمالكي والشافعي، صوفيا مستقيما على السنة مدافعا عن مذهب أهل السنة والجماعة، محباً للنبي عليه الصلاة والسلام ، شديد التعظيم للشيوخ متتبعا لسير العلماء وأحوال السلف، لا يختلف ظاهرة عن باطنه، ودودا أنيسا كريما مضيافا يجود بما عنده رغم ضيق ذات يده. وكان رحمه الله مثالا للثبات على المبدأ لم يتغير كما هو في العقيدة والسلوك والعلم والتعليم والأخلاق. وكان شديد التواضع يفر من الدعوى لا يرى لنفسه حظاً ولا يطلب جاهاً ولا يسعى وراء دنيا، وقد بقي لذلك معروفا لدى الخواص أكثر من العوام،  ولا يضره أن لا يكون مشهورا بين أهل الأرض فإنه بإذن الله معروف بين أهل السماء. 

 

تحدثت إليه نحو ساعة يوم الأحد عبر السكايب بالصوت والصورة، وجعلت أسأله عن أحواله ويسألني، وافترقنا على أحسن ما يكون حال المحبين، ونحنُ نحنّ إلى مجالسنا في الشام، وما تركنا في تلك الديار من الرسوم والآثار.

 

نعم ... لقد رحل الشيخ سالم الزردابي رحمه الله، ولكن ذكراه لم ترحل من قلوب أحبابه، فكل من رآه أحبه،  ولم أر أحدا عبر ثلاثين سنة ذمَّه أو كانت له عليه شكاة. رحل الشيخ سالم وليس في الناس إلا من يثني عليه والناس شهداء الله في أرضه.

 

الشيخ سالم ليس مجرد عالم مرَّ على الشام وإنما هو أنموذج لما أنبتت مساجد الشام ومثال لما أثمرت مدارس الشام وعنوان لما خرّج علماءُ الشام، إنه ابن الشام وإن كان تونسيا في المولد والنشأة، وكان بارا بالشام محبا لأهل الشام كارها للطغاة المجرمين الذين يستبدون بأهل الشام يتطلع إلى ساعة النصر والعودة.

 

لقد عاد ولكنه عاد إلى ربه، رحل ولكن إلى الآخرة، ومهما بلغ حرننا عليه فإن عزاءنا فيه ما كان عليه من إيمان وعبادة وجهاد وصدق وإخلاص وخلق حسن، ومن يرحل بمثل هذا أحرى بنا أن نفرح له إذ قد وفد على رب كريم.

 

رحمك الله أيها الأخ الشيخ الجليل وأسكنك الفردوس الأعلى وبارك في أهلك وذريتك  وجمعنا بك تحت لواء الحبيب الأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.