1300- 1377 هجرية
1882- 1958 ميلادية
أساليب التعليم والتوجيه والفتوى عند الشيخ
كان الشيخ رحمه الله إلى جانب علمه فصيحا بليغا، وقد آتاه الله صدق اللهجة، فكان مستمعوه يشعرون بأنهم أمام عالم غيور ناصح لا يهمه تنميق الكلام وإظهار البراعة في الحديث وإنما يتحدث بصدق وعلى السليقة، وجل همه إيصال رسالته إلى العقول والقلوب، ولاشك بأن لحال الشيخ مع ربه أبلغ الأثر وأعظمه فهو كما قال الشيخ علي الطنطاوي عن أستاذه الشيخ أبي الخير الميداني: ( يُعلم بحاله أكثر من مقاله) علماً بأن هذا العالم الجليل صديق حميم للشيخ إبراهيم، وكان شيخاهما في السلوك واحداً هو الشيخ عيسى الكردي رحمه الله(1).
لم يكن الشيخ يفصل بين التعليم والتوجيه، بل كان يقرن بينهما بأسلوب موفق غاية التوفيق، اتبع الشيخ في التعليم والتوجيه الطرق ذاتها التي اتبعها أقرانه من العلماء، فكان يعقد حلقات العلم والوعظ في المسجد، وقد تميز بالجمع بين العلم والوعظ وعدم الفصل بينهما في جميع حلقاته ولقاءاته، أنه كان مهتماً بتهذيب النفوس قبل العقول.
لقد فتح الله على الشيخ بطريقة جديدة فريدة في مجال الدعوة، فإضافة إلى التوجيه الذي كان زواره في منزله بقطنا يحظون به، فإنه عندما كان يحل ضيفاً على بعض أحبابه في دمشق أو غيرها من المحافظات (2) ويأتيه الزوار إلى مكان إقامته يستثمر هذا في سبيل الدعوة. فتراه لا يتوانى في التعليم والتوجيه والوعظ، وغالبا ما ترى الضيوف يتزاحمون على الدار التي يحل بها ضيفاً، محبة بالشيخ ورغبة في سماع كلماته الصادقة المؤثرة ذات الأسلوب المميز مما يترك أثرا عجيبا في نفوس وعقول مستمعيه. (3)
وكان لحي ( قبر عاتكة ) العريق في دمشق نصيب الأسد في هذه اللقاءات المثمرة، حيث كان الشيخ يتوجه للحاضرين واعظاً و معلماً
ويذكر لي والدي إن أهل هذا الحي طلبوا من الشيخ أن يختار لهم من علماء دمشق من يلوذون به عند ذهابه إلى قطنا لأنهم يشعرون بالفراغ خلال تلك الفترة، فأشار عليهم بالتزام الشيخ: (عبد الكريم الرفاعي) رحمه الله، ولم يكن مشهوراً في ذلك الوقت وقد كانت فراسته في مكانها، فإذا بهذا الشيخ الهادئ المتواضع يصبح فيما بعد من أشهر علماء دمشق ورائداً لطلاب العلم لإخلاصه ونجاحه المميز في استقطاب طلبة العلم.
أما منهجه في الفتوى فكان لا يكتفي بالإجابة على سؤال المستفتي بل يستغل الفرصة لتوجيه النصح والإرشاد لهذا المستفتي وربما نبهه إلى ما وقع فيه من تقصير ديني أو تربوي.
أما في مسائل الطلاق فكان لا يكتفي بالسماع من الزوج فحسب، بل يطلب حضور الزوجة ليسمع منها أيضاً، وهذا هو الصواب بعينه، لأن الزوج ربما نسي ما قال في لحظات غضبه، ولربما أخفى الحقيقة أو بعضها إذا لم تكن عنده التقوى الكافية.
أما بالنسبة للمذهب الذي كان يفتي بموجبه فإننا قد عرفنا عند الحديث عن شيوخ الشيخ بأنهم كانوا حنفيين، وأنه درس المذهب الحنفي على أيديهم لسنوات عديدة، ولكنه عندما انتقل إلى قطنا ووجد أهلها يتبعون المذهب الشافعي عكف على بعض كتب الشافعية يدرسها(4).
واتبع المذهب الشافعي في صلاته تماشياً مع البيئة الجديدة، وهذا يدل على سعة أفقه ومرونته رحمه الله، وعدم تعصبه للمذهب الذي نشأ عليه، فإذا كان غير متعصب لمذهبه في العبادة فأحرى به ألا يكون متعصباً له في الفتيا.
أنموذج من فتاويه:
أرسل المفتي العام لسورية الشيخ الطبيب: أبو اليسر عابدين رحمه الله رسالة إلى عدد من العلماء – كان من ضمنهم مفتي مصر الشيخ محمد بخيت المطيعي والمترجم له - يستشيرهم في حكم استخدام الإبرة العضلية أو الوريدية للصائم. وحكم دهن المريض بعض قروح جسمه بدهن أو دواء مائع أو جامد بقصد العلاج من مرض هل يفطر أم لا؟
جاء جواب الشيخ ابراهيم على الرسالة المذكورة النحو التالي:
( بعد حمده تعالى، والاستمداد من حسن عنايته. أقول: إيصال الدواء ألى دورة الدم بطريق الإبرة، الظاهر أن ذلك ليس بالمفطرات للصائم كما يُفهم من قول السادة الحنفية بعدم إفطار الاكتحال والقطرة ولو وجد طعم ذلك في حلقه، وأيضا لو تلفف بالثوب المبتل أو نزل الماء ووجد برودة الماء في جوفه. قالوا لان ذلك من طريق المسام، ولا يعتبر ذلك مفطرا. وقالوا في الآمَة – وهي الجراحة التي وصلت إلى أم الدماغ ، وهي الجلدة التي تحوي الدماغ تحت الجمجمة- إن الدواء إذا كان مائعا ودوي به الآمَة وصل الى الدماغ ، وهناك منفذ أصلي منفتح إلى الجوف، لذا مداواتها مفطر كالجائفة. فكل ذلك مفيد بالصراحة. إن العبرة بالإفطار ما وصل الى الجوف من المنافذ الأصلية، ولم يعتبروا غيرها كالنافذ من طريق المسام ما لم يكن منفذا أصلياً، أي ظاهرا محسوسا غير دقيق جدا كالمسام. ومع هذا لا ينبغي أن تؤخذ الإبرة التي ليست للتداوي. بل يقصد منها التغذي نهار رمضان لئلا يجد ألم الجوع، لا لأنها مفطرة بل لكونها تهدم حكمة الصيام المؤدب للنفس، والمذكر بالجياع للتراحم والمواساة لهم، فلا تخلو من نوع كراهة والله أعلم.
وأما سؤالكم عن دهن الجسد بدهن أو دواء أو اليدين بذلك. فما كان من هذا النوع أيضا فلا أثر له في الفطر بالأولى والله أعلم.) ووقع الشيخ بذيل فتواه هكذا: (من الفقير إليه تعالى مفتي قطنا) (5)
نلحظ من فتواه رحمه الله دقته وإحاطته بجوانب المسألة. فقد فرق بين بين إبرة الدواء وإبرة الغذاء، فأجاز الأولى ولم ير جواز الثانية لأنها تتعارض مع الحكمة من الصيام كما ذكر رحمه الله.
1 - عثرت - وأنا فتى- في مكتبة والدي التي ورث أكثرها عن جدي بطاقة تهنئة بالعيد بعثها الشيخ أبو الخير الميداني إلى جدي، وجاء في مقدمتها: إلى أخي الشيخ إبراهيم الغلاييني وهبه الله مقام الخلة.. فانظر إلى هذه المحبة الإيمانية ما أجملها.
2 - كانت للشيخ رحمه الله جولات دعوية على بعض المدن السورية الكبرى وبخاصة حلب وحماه وكما كانت له جولات لقرى البقاع في لبنان مثل: خربة روحا – وكانت أكثر القرى اللبنانية حظوة عند الشيخ – والقرعون وجب جنين، وكفر دينس ومدوخا وغيرها.
3 - من الأمثلة على هذا أنني عندما كنت في الخدمة الإلزامية بالجيش السوري التقيت عقيدا من حي الميدان، وذكر لي أنه كان حريصا في يفاعته على رؤية الشيخ والإستماع الى كلماته، لذا كان يسأل عن مكان إقامته كلما أتى لحي الميدان .
4 - حدثني والدي بأن مراجعه العلمية في هذا كانت حاشية الباجوري على متن أبي شجاع.
5 - نقلا من كتاب ( الصيام بين الشريعة والطب) للشيخ الطبيب: أبو اليسر عابدين : 162-163
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول