العالم الأديب النبيل الشيخ مسعود الكواكبي للأستاذ علي الطنطاوي

حدث في مثل هذا اليوم 15 من ربيع الآخر سنة  1348،الموافق 19أيلول سنة 1929وفاة العالم الكبير الشيخ مسعود الكواكبي عن 67 عاما، وهو الأخ الأصغر للشيخ عبد الرحمن الكواكبي ، وكان نائب حلب في  مجلس النواب العثماني، ونقيب أشراف حلب ، وعضو المجمع العلمي في دمشق، وعضومحكمة التَّمييز في دمشق.

وأسوق بهذه المناسبة كلمة عنه لتلميذه الشيخ علي الطنطاوي :

قال شيخنا علي الطنطاوي في ذكرياته عند ذكره لأعضاء المحكمة (الذين يُسمَّون اليوم بالمستشارين) : " منهم العالِم الأديب النبيل الشيخ مسعود الكواكبي الحلبي، الذي أحفظ له في نفسي أوفى حظ من الحب المقرون بالاحترام. وكان يُعجّبني (بتشديد الجيم) من الشيخ مسعود أنه كان ينام بجبّته لا يخلعها وعِمامته على رأسه لا يضعها، ثم يصبح وما فسدت العمامة ولا تأثر الثوب، لأنه كان يضطجع على جنبه الأيمن فلا يتحرك شعرة واحدة حتى يصبح! رأيت ذلك منه مرات لا أُحصيها.

والشيخ مسعود مهذّب اللفظ رفيع الخلق، علمت من بعدُ أنه أديب، وأنه من أوائل الذين انتُخبوا أعضاء في المجمع العلمي العربي (الذي يسمّونه الآن مجمع اللغة العربية)، وأنه يُحسِن التركية والفرنسية، وقد تعلمها على كبر.كان أولَ من جاء يعزّينا يوم مات أبي، وأذكر أنه سألني عن قريب لنا فقلت: إنه شقيق أبي من الرضاعة، فقال لي مبتسماً: لايُقال شقيقه من الرضاعة ولكن يُقال أخوه. وكانت نصيحة لطيفة أُلقيَت بلهجة ناعمة، ولكنها حزّت في نفسي لأنني كنت -في تلك السنّ- أرى مثل هذه الغلطة تقع مني شيئاً كبيراً.

كان الشيخ مسعود أحدَ الذين جدّدوا في خطب الجمعة. وقد كانت تُلقى من دواوين مطبوعة بعبارات مسجوعة بلهجة منغَّمة تكاد تكون مملّة منوّمة، فكان الشيخ مسعود من أوائل من خطب بالأسلوب الذي نسمعه اليوم.

 كان سنة 1326هـ (قبل مولدي بسنة) نقيب الأشراف في حلب، ونقابة الأشراف في الأصل منصب من مناصب الدولة، وعمل القائم عليه أن يُحصي أبناء علي بن أبي طالب وأن يوزّع أوقافَهم الكثيرة التي وقفها الناس عليهم، فصار على عهد العثمانيين منصب تشريف ليس معه عمل.

انتُخب عضواً في المجمع العلمي سنة 1342، وهو أخو الشيخ عبد الرحمن الكواكبي صاحب «أم القرى» و «طبائع الاستبداد»، الذي تَجدّد ذكره وعظم أمره أيام الوحدة مع مصر لأنهم عدّوه من روّاد القومية العربية، على حين أن الذي دعا إليه هو والسيد رشيد رضا ومحب الدين الخطيب وأمثالهم هو يقظة العرب، وجمع شتاتهم وتوحيد صفوفهم، وعودتهم إلى مكانهم الذي كان لهم، ودفع أذى الاتحاديين والملحدين من الترك عنهم، ما دعوا إلى قومية ساطع الحصري وقسطنطين زريق وسامي شوكت.

وكان الشيخ مسعود أحدَ الرجال الذي تركوا في نفسي أثراً عميقاً (ولست بقادر على إحصائهم)، ولم يكن من المشايخ المعتزلين الذين يعيشون وراء حدود المجتمع، يكتفون باختيار كتاب بعد كتاب يُقرئونه تلاميذَهم، يشرحون عبارته ويكشفون غوامضه لا يكادون يزيدون عليه، يهتمّون بالكتب أكثر من اهتمامهم بالعلم، يحسبون أن هذا غاية المطلوب منهم في خدمة الإسلام، لا يعرفون من أخبار الدنيا وأوضاع الناس شيئاً. بل كان ممن له مع التضلّع في الفقه وعلوم الدين قدم في الأدب راسخة وقلم في الكتابة بليغ، لا الكتابة الأدبية الخالصة بل الكتابة العلمية، ومَن كانت عنده مجموعة مجلة المجمع العلمي العربي في أجزائها الأولى أو رجع إليها في المكتبات العامة رأى له مقالات كثيرة في نقد الكتب التي كانت تُنشر على أيامه وفي تصحيحها.

ولمّا ظهرت حقيقة أعضاء حزب الاتحاد والترقّي في محاربة العربية توصُّلاً إلى محاربة الإسلام وفي كيدهم له في الخفاء، واستمرارهم على ذلك حتى ظهر مصطفى كمال فألقى القناع الأبيض المزوَّر فظهر من ورائه الوجه الأسود القبيح، لمّا بدأت تظهر نوايا الاتحاديين أُلِّفت أحزاب وتجمّعت جماعات لمقاومة دعوتهم إلى تتريك العناصر العثمانية، فكان منها «الجمعية المحمدية» ومنها «حزب الحرّية والائتلاف» الذي كان الشيخ مسعود من أكبر العاملين له والساعين لإنشائه.

تَنبّه العرب لمكايد الاتحاديين، ولكنهم على عادتهم يخالفون دائماً أمر ربهم فيعمدون إلى التفرّق والانفراد بدل التجمّع والاتحاد، فيعمل كلٌّ وحده وَفْق اجتهاده ولا يعملون معاً، لذلك لم تفلح واحدة من هذه الجماعات وهذه الأحزاب وبقي حزب الاتحاد والترقّي هو الحاكم، حتى أدخلَنا بسوء رأيه وفساد طويّته في الحرب العالمية الأولى، وجعلنا في الجانب الخاسر، فكان السبب في انهيار هذا الصرح العظيم الذي ظلّ يقارع الأحداث ويثبت على الزلازل والهزّات خمسة قرون: صرح الدولة العثمانية، على ما كان منها".

انظر ترجمته الموسعة لصديقه العلامة محمد راغب الطباخ هنا