الطبقة الحائرة بين الثروة والثورة

 

للطبقة الوسطى أهمية اجتماعية وسياسية واقتصادية؛ إذ إنها صمام الأمان لأي مجتمع؛ ومنوط بها تحقيق عملية التوازن الطبقي والمجتمعي، ومن خلالها يكون تماسك بنية البناء الاجتماعي؛ فهي التي تربط قمة الهرم (الطبقة العليا) وقاعدته (الطبقة الدنيا)؛ فكلما اتسعت هذه الطبقة وكانت أوضاعها مستقرة تحقق الاستقرار الاجتماعيّ والسياسيّ والاقتصاديّ داخل المجتمع.

 

والمجتمعات الإنسانية التي لها تاريخ طويل وعريق هي التي تكون طبقتها الوسطى هي الأكثر عددًا في المجتمع؛ وهي خليط واسع ومتعدد وغير متجانس من الأفراد والجماعات([1]).

 

تعريف الطبقة الوسطى

وهناك مدرستان لتعريف الطبقة الوسطى: “الأولى: هي التي يتقدمها علماء الاجتماع والاقتصاد في الولايات المتحدة، والتي تركز على حجم الاستهلاك ومستويات الدخول؛ فالدخل يوظَّف كمدخل لتحديد الطبقة الاجتماعية، ثم تدرَس مؤشرات الفئات التي تحقق دخلاً يدور حول متوسط دخول الأسر.

 

أما المدرسة الثانية، التي يمكن وصفها بالأوروبية – الماركسية، فهي تأخذ عددًا من المتغيرات مثل: التعليم، ونوعية العمل (المهنة)، وحجم الأسرة، ونوعية السكن، وطبيعة التنظيمات الاجتماعية، ومستوى الانخراط في مؤسسات المجتمع المدني”([2]).

 

شرائح الطبقة الوسطى

ويمكن تقسيم الطبقة الوسطى إلى ثلاث شرائح، كل شريحة تضم فئات متجانسة بقدر الإمكان، وهذه الشرائح هي: العليا والمتوسطة والدنيا([3]).

 

تجريف الطبقة الوسطى

والطبقة الوسطى في المنطقة العربية منوط بها دور عظيم في التحولات الاقتصادية والمجتمعية، والتغييرات الحاصلة في المنطقة العربية تقوم به تلك الفئة المجتمعية.

 

وهذا رغم اضمحلاها وتغيّر قيمها نتيجة للتجريف المتعمد لها؛ إذ إن هناك عددًا “من الحقائق التي ارتبطت بالطبقة الوسطى خلال العقدين الماضيين، تتعلق الأولى بتراجع دور هذه الفئات المجتمعية وزيادة الضغوط الاقتصادية عليها.

 

كذلك لم يشهد توزيع الدخل في الدول العربية وفقًا للمقاييس الفنية التي توظَّف، تحسنًا مرتبطًا بمستويات النمو، ما يشير إلى أن الهوة بين الفقراء والأغنياء في اتساع.

 

والحكومات العربية لا تذهب في اتجاه تعزيز وضع تلك الفئات، بل المطلوب أكثر استغلالها من الجهة السياسية من دون منحها هامشًا للتحرك لتحديد مطالبها”([4]).

 

الطبقة الوسطى المصرية بنت النظام

قد خلقت ثورة يوليو وشكّلت الطبقة الوسطى؛ وذلك من خلال التعليم الموجه من الدولة، والإنفاق عليه، بالإضافة إلى استيعاب الخريجين وتعيينهم في جهاز الدولة؛ وبذلك كان التعليم البوابة الرئيسة للطبقة الدنيا للولوج إلى الطبقة الوسطى.

 

ومن يتسرب من التعليم فإن مصانع القطاع العام تستوعبهم على شكل عمالة.

 

وقد سنّت ثورة يوليو الكثير من القوانين التي كانت في صالح الطبقة الوسطى والدنيا، مثل: قانون الإصلاح الزراعي ومجانية التعليم، وغيرها من القوانين.

 

وفي عهد مبارك تمت السيطرة على الجهاز الإداري للدولة وضمان ولائه للنظام بإبعاد الإسلاميين منه، وتولية المناصب الحساسة لذوي الولاء المطلق للنظام.

 

لذا فإن الطبقة الوسطى المصرية بنت النظام ودولة العسكر؛ وعليه فهي في الغالب ليست فئة ثورية.

 

تثوير الطبقة الوسطى

نتيجة للسياسات الاقتصادية الفاشلة والمتخبطة من الخصخصة وغيرها التي راعت أصحاب رءوس الأموال، وجارت على بقية طبقات المجتمع، بدأت الطبقة الوسطى تتململ، ويزداد الضغط عليها مع مرور الوقت.

 

ومن المعلوم أن أية سياسة اقتصادية تخلق فئة من المستفيدين وفئة من الخاسرين، فأما المستفيدون من التعامل مع النظام -وإن لم يكونوا من جهازه الإداري- فهؤلاء لا يميلون لفقد مصالحهم بتغيير النظام، إلا إذا وجد مصلحة مع نظامٍ غيره.

 

وأما الخاسرون فكانوا أصحاب الطبقة الوسطى والدنيا الذين تأزمت أوضاعهم الاقتصادية، هذا إلى جانب التسلط الأمني على الشعب، وكبت حريته، وقمعه سياسيًّا، وعدم الرقي به ثقافيًّا وتعليميًّا، مما بدا وكأن النظام قد تخلى عن ربيبته الطبقة الوسطى.

 

فكانت ثورة يناير التي خرجت من رحم الطبقة الوسطى، والتي قادها أبناء من هذه الطبقة كانوا هم الأكثر تعليمًا، والذين كان لديهم فرص عمل مُرضية ودخول جيدة.

 

وقد طالبت هذه الثورة بالديمقراطية والحكم الرشيد الذي ينمو في ظلاله الشعور بالأمن والكرامة، وينعم المواطن بالعدالة الاجتماعية([5]).

 

صراع الطبقات

إن ثورة يناير لم تخلق طبقة مرتبطة بها ارتباطًا عضويًّا من خلال الاقتصاد والتعليم والسياسة مثلما فعلت ثورة (انقلاب) يوليو. وقد غفلت ثورة يناير عن فكرة الصراع أو التنافس بين الطبقات.

 

فقامت الطبقة العليا بتفتيت شرائح الطبقة الوسطى الثورية من خلال إعلامها وأموالها، واستقطبت إليها الكثيرين من شرائح الطبقة الوسطى والدنيا، واستخدمتهم في الصراع مع ثورة يناير.

 

وبعد الانقلاب الذي أعاد العسكر فيه الدولة لقبضته باستخدام الطبقة الوسطى والدنيا بأموال الطبقة العليا بدأ النظام في تقديم الامتيازات للطبقة العليا، فأصبحت الدولة ترعى رعاية مباشرة جهازها الأمني (جيش – شرطة – مخابرات) والأجهزة المعاونة (القضاء)، وفي المقابل لم ترع مصالح الطبقة الوسطى التي حملت العسكر على الأكتاف، فكان جزاؤهم مزيدًا من السحق، الذي جعل شرائح كثيرة من الطبقة الوسطى تسقط في هوة الطبقة الدنيا.

 

الرؤية الحائرة

إن الطبقة الوسطى لأنها بنت النظام قد ثبت في روعها التداخل بين مفاهيم الدولة والسلطة السياسية أو الحكومة، وشخصنة الدولة في رأس النظام؛ والطعن في السلطة يرونه طعنًا في الدولة، والاعتراض على رئيس الدولة هو اعتراض على الدولة، ولا يرون أن الدولة باقية والأنظمة زائلة، وهذا مما غرسته الأنظمة الديكتاتورية في أنفس الشعوب.

 

إلا إنه مع ازدياد الضغط في مراحل ما قبل الانفجار تكون النظرة للدولة من خلال هذه الأطر:

 

– أولوية الاستقرار السياسي؛ إذ إن وجود السلطة السياسية مسألة شديدة الأهمية لها، ومهما اتسم أداء السلطة بالعنف فإنها لا تجمع أمرها على ذهاب السلطة القائمة؛ لأن هذا معناه فناء الدولة عندها، وقصارى أمرها أن تطالب بإقالة الحكومة.

 

– الخوف الشديد من الدولة وعدم التوحد معها في نفس الوقت، فهناك ما يسمى بالقمع الاقتصادي والاجتماعي.

 

– الدولة العاجزة؛ فالدولة في نظر الطبقة الوسطى عاجزة عن حل المشاكل الجوهرية([6]).

 

فهي رؤية سلبية وعاجزة عن إحداث التغيير المنشود.

 

الثروة أم الثورة

إن الأصل أن الطبقة الوسطى طبقة طموحة تبحث عن الارتقاء والصعود، والتحسين الدائم لأحوالها الاقتصادية ومكانتها الاجتماعية.

 

لكن السياسات الاقتصادية حرمتها من كسب الثروات، بل لم تستطع أن توفر لها الحياة الكريمة، أو حتى الادخار لعوادي الدهر. وهي لا تميل للثورة إذا رأت الاستقرار الاقتصادي والسياسي، فإذا أتيحت لها الثروة أعرضت عن الثورة.

 

لكنها الآن في أزمة؛ فلا هي جنت الثروة، ولا نجحت في الثورة.

 

لكن القاعدة تقول: كلما ازداد الضغط أوشكت الأمور على الانفجار.

 

وهذا معناه أنه إذا بلغ الضغط مداه حسمت تلك الطبقة خيارها نحو الثورة. وكلما حدث التنفيس لها بين الحين والآخر حسمت خيارها نحو الثروة. ولا تلك الطبقة حائرة ما بين الثروة والثورة.

 

 

([1]) د. مشيرة العشري: الطبقة الوسطى من مرحلة الازدهار إلى سياسات الإفقار، مصر العربية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2014م، ص(61، 65).

([2]) مقال: الطبقة الوسطى والتحولات في الدول العربية، لإبراهيم سيف، موقع مركز كارنيغي للشرق الأوسط.

([3]) الطبقة الوسطى من مرحلة الازدهار إلى سياسات الإفقار، ص(61، 137).

([4]) الطبقة الوسطى والتحولات في الدول العربية، لإبراهيم سيف.

([5]) انظر: مقالة: هموم الطبقة الوسطى لمحمد شومان، موقع اليوم السابع.

([6]) الطبقة الوسطى من مرحلة الازدهار إلى سياسات الإفقار، ص(143).

المصدر : موقع اسلام أونلاين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين