
نحن نحتاج في هذا الزمن إلى استصحاب الأمل في كل خطواتنا وفعالياتنا؛ فمن يدري؟! ربما كانت هذه المصائب بابًا إلى خير مجهول، ورب محنة في طيها منحة؛ "وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" (البقرة:216)
واستصحاب الأمل ضرورة، خاصة ونحن نرى البعض يحرصون على بث اليأس وتزهيد الناس في الأعمال الجادة لأدنى قصور أو خسارة ظاهرية يشاهدونها: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإخْوَانِهِمْ إذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَّوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ" (آل عمران: 156).
وهذه مجموعة من الضرورات اللازمة التي إن قرأناها بفهم ووعي، فسنوقن أن استصحاب الأمل لا ينبغي أن ينفك عنا في حل أو ترحال، في عسر أو شدة أو ضيق، لطمأنة قلوبنا وتسكين نفوسنا، وتثبيت أقدامنا.. ومن هذه الضرورات:
أولًا - الضرورة العقلية المنطقية:
لو تظرنا إلى الحياة بروية؛ لرأينا أنها أشبه ما تكون "بفصل دراسي تتعرض فيه للاختبار ويتوقّع منك أن تحقق تقدمًا مهمًا خلال فترة زمنية معقولة، وإن لم تستفد في فصل الحياة فإنها ستعيد لك الدرس تلو الآخر حتى تتعلم وتنجح، وهذا يشبه إلى حدٍّ كبير الفصول الدراسية، فمتى ما رسب الشخص فإنه إما أن يُعيد الفصل حتى ينجح أو ينسحب!
فانظر، هل كنت تنظر لحالات الفشل بأنها فشل كلي، أم كنت تنظر لها بأنها فشل للمحاولة ذاتها والتي قد قمتَ بها؟ إذ أن هناك فرقًا كبيرًا ما بين الاثنين.
فإن كنت تعتقد بأنك شخصيًا قد فشلت فهذا من شأنه أن يُثنيك عن أداء محاولات أخرى؛ لأنك تكون بذلك قد قللت من شأنك، ومن قدراتك الشخصية.
أما إن كنت تعتقد أن محاولتك كانت فاشلة، فهذا من شأنه أن يجعلك تقوم بدراسة سبب فشل محاولتك الأولى لتقوم بتجنّب مُسبباتها.
وعلى أية حال لا يوجد هناك فشل حقيقي، فما ندَّعي بأنه فشل ما هو إلا خبرة قد اكتسبناها من واقع تجاربنا في الحياة، إذ أن الشخص الفاشل هو الذي لا يتعظ من تجاربه، بل يعتبر أن الأمر منتهيًا من حيث فشله". (وليد عبد الله الرومي، طريق النجاح، الكويت، 2000، ص 25-26).
وكذلك هو صراع الحق مع الباطل؛ فافهم أُخيَّ رعاك الله، ولا تسوِّد الدنيا في وجوهنا!
ثانيًا – الضرورة التأملية الكونية:
نحن مأمورون شرعًا بالنظر والتفكر والتدبر في آيات الله وخلقه، يقول تعالى: " قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ? وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ" (يونس: 101).
إن هناك تلازمية وانسجامًا بيننا وبين الكون، لا يشعر بهذا ويلاحظه إلا أصحاب البصر والفكر والتأمل، انظر إلى نبي الله يعقوب (عليه السلام) عندما كان إخوة يوسف (عليه السلام) ما زالوا على أبواب مصر خارجين منها حاملين قميصَ يوسف ليلقوه على وجه أبيهم ليرتد إليه بصره، كما أوصاهم بذلك أخوهم يوسف (عليه السلام).. ماذا حدث؟
لقد سبقتهم الريح حاملة ريح يوسف (عليه السلام) لأبيه يعقوب مبشِّرة إياه بأن يوسف لا يزال حيًا، فنطق (عليه السلام): "إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ" (يوسف: 94)؛ هذا لأن يعقوب (عليه السلام) عاش في انسجام مع الكون متأملاً ومعتبرًا فتفاعل الكون معه بحمل البشرى والأمل.
فازدد إيمانًا تزدد يقينًا وأملاً واطمئنانًا، لأن فقدان الإيمان يعني فقدان البصيرة والتأمل: "وَمَا تُغْنِي ?لآيَاتُ وَ?لنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ" (يونس: 101).
تعال معي الآن لنتأمل في الليل والنهار، ترى الشمس تغرب كل يوم ثم تعود لتشرق مرة أخرى، هذه ظاهرة تمر على الإنسان العادي مرور الكرام، ولكن صاحب العقل والفكر والنظر يجد فيها آية عميقة تنبئه أن الغروب لا يَحُوْلُ دون الشروق مرة أخرى في كل صبح جديد، والسواد كلما اشتد ينبثق منه الفجر، وكذلك المحن والأزمات يعقبها انفراج وارتياح.
أديب العربية مصطفى صادق الرافعي (رحمه الله) يشبه الإنسان بالفرخ ويشبه الأزمات والنكبات التي تمر به بجدار هذه البيضة فيقول: "ما أشبه النكبة بالبيضة، تُحسب سجنًا لما فيها، وهي تحوطه وتربيه وتعينه على تمامه، وليس عليه إلا الصبر إلى مدة والرضا إلى غاية، ثم تنفق البيضة فيخرج (أي ما فيها) خلقًا آخر، وما المؤمن في دنياه إلا كالفرخ في بيضته، عمله أن يتكون فيها، وتمامه أن ينبثق شخصه الكامل، فيخرج إلى عالمه الكامل".
ثالثًا - الضرورة التاريخية:
التاريخ مليء بالأحداث والأمثلة والعبر التي تشعل في النفس ثقةً عميقة بالنصر، فكم من دولة قويت بعد ضعف! وكم من أخرى ضعفت بعد قوة! قال تعالى: "الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ للهِ الأمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. وَعْدَ اللهِ لاَ يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ". (الروم:1 – 6).
ولو تأملت في سورة الروم هذه لعلمت أنها سورة مكية نزلت أيام الاستضعاف في مكة قبل الهجرة، والمسلمون يعانون مرارة السجن في شِعب أبي طالب، نزلت تبشرهم بالنصر والفتح والظفر!
قد يقول قائل ولكن التاريخ مليء بالأحداث المؤلمة؛ فنقول له: نعم؛ ولكن لماذا تقف عندها ولا تتعداها؟ ألم تتغير هذه الأحداث؟ ألم يتبدل الحال؟ ألم تتحول هذه الأيام؟ فحنانيك أيها اليائس والمتشائم! ولتعلم أن بعض الشر أهون من بعض، وأن مع العسر يسرًا، وأن بعد الكرب فرجًا، وأن بعد الضيق والخوف سَعَةً وأمنًا.
لقد ضاقت مكةُ برسول الله ومكرت به فجُعل نصرَه وتمكينَه في المدينة..
وأوجفت قبائل العرب على أبي بكرٍ مرتدة، وظن الظانون أن الإسلامَ زائلٌ لا محالة، فإذا به يمتدُ من بعد ليعم أرجاء الأرض..
وهاجت الفتنُ في الأمة بعد قتل عثمان حتى قيل: لا قرار لها، ثم عادت المياه إلى مجراها، وتوالت الفتوحات حتى وصل بنو عثمان قلبَ أوربا..
وأطبق التتارُ على أمةِ الإسلام حتى أبادوا حاضرتَها بغداد سُرّة الدنيا، وقتلوا في بغداد وحدها مليوني مسلم، وقيل: ذهبت ريح الإسلام، فكسر الله أعداءه في عين جالوت وعاد للأمة مجدها..
وتمالأ الصليبيون وجيشوا جيوشَهم وخاضت خيولُهم في دماء المسلمين إلى ركبها، حتى إذا استيأس ضعيفو الإيمان نهض صلاح الدين فرجحت الكِفةُ الطائشةُ وطاشتِ الراجحة، وابتسم بيت المقدس من جديد..
وقويت شوكةُ الرافضة حتى سيطر البويهيون على بغداد والعبيديون على مصر وكتبت مسبّة الصحابة على المحاريب، ثم انقشعت الغمة واستطلق وجه السُّنة ضاحكًا.
وهكذا.. يعقب الفرج الشدة، ويتبع الهزيمة النصر، ويؤذن الفجر على أذيال ليل مهزوم، فلم اليأس والقنوط؟!
إن أهم ما ينبغي تعلمه أن جميع الذين حققوا إنجازات باهرة وخلدهم التاريخ قد تذوقوا طعم الفشل مرارًا قبل أن يحققوا إنجازاتهم العظيمة.
لا تحسب المجد تمرًا أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
رابعًا - الضرورة الواقعية:
بعض الناس ينظرون إلى الأحداث التي تمر بها مصر الآن، فيقول بعضهم (وبعدين؟!)، ليست هناك نتيجة لما نصنع، ويحدث نفسه أن الانقلابيين لا يعبأون بشيء، وأنهم ماضون قدمًا في تنفيذ مخططاتهم، ويقول لك انظر إلى عدد من استشهدوا وأُصيبوا واعتُقلوا، ولا فائدة!
ولست أدري لماذا يبحث هؤلاء عن مواطن الألم فقط ليفجروها وينكئوها، فأين مواطن الأمل والفرج؟ أليست هذه المقاومة كانت ولازالت سببًا رئيسًا في عدم اعتراف غالبية دول العالم بالحكومة الانقلابية؟
أليست هناك دول اعترفت لبعض ممثلي الشرعية أن ما حدث في مصر انقلاب كامل الأركان، خاصة بعدما رأوا سلمية التظاهرات واتساعها العددي، وامتدادها الجغرافي، واستبسالها وصمودها واستمرارها؟
وكان من ذلك ما أعلنه الدكتور محمد محسوب - نائب رئيس حزب الوسط والقيادي بالتحالف الوطني لدعم الشرعية - أن ثورة الشعب المصري فرضت على أوربا إعلان خسارة رهانها على الانقلاب العسكري الدموي وأصبحت تعامله كسلطة انقلابية قمعية، بل وصل الأمر إلى أن يصف الأوربيون دستور العسكر أنه "وثيقة لعسكرة الدولة".
ألم تُرْبِك هذه المقاومة الانقلابيين وتصيبهم بالذعر والخوف وتحد من توسعهم وتوغلهم، خاصة وهي تطور من أساليبها كل يوم؟
ألم تلحق هذه المقاومة خسائر اقتصادية كبيرة بالانقلابيين جعلتهم يعترفون بطباعة عشرات المليارات من الجنيهات ليستطيعوا دفع الرواتب وتسيير الحياة وما أفلحوا في ذلك؟
ألم تغلق كبرى الشركات العالمية مصانعها ومؤسساتها وولت هاربة من مصر؟
ألم تتراجع السياحة لأدنى مستوياتها حتى وصلت نسبة الإشغال في بعض الفنادق إلى الصفر!
ألم تكسر هذه المقاومة حاجز الخوف عند عموم الناس، وجعلت المزيد منهم ينضمون إلى صفوف المقاومة على اختلاف أيديولوجياتهم وثقافاتهم، متسلحين فقط بسلاح الإيمان والإصرار والصمود، في مواجهة الانقلابيين بجيوشهم ودباباتهم وأسلحتهم وغازاتهم، حتى دخلت المقاومة شهرها الثامن وما انكسرت لهم إرادة ولا همة ولا عزيمة؟
وغير ذلك الكثير والكثير من الإيجابيات التي ينبغي علينا نشرها وتعميمها لتنتفع بها جماهير المقاومة، فتكون لهم معينًا على مواصة الكفاح حتى يندحر الانقلاب.
خامسًا - الضرورة الشرعية:
إن الخطاب القرآني جاء ناهيًا عن استصحاب اليأس لأنه قرين الكفر: "وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ" (يوسف: 87)، وناهيًا عن القنوط، لأنه قرين الضلال: "وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ" (الحجر: 56).
يَفيضُ من أملٍ قلبي ومن ثقةٍ لا أعرٍفُ اليأسَ والإحباطَ في غَمَمِ
اليأسُ في ديننا كُفْرٌ ومَنْقَصـةٌ لا يُنبِتُ اليأسَ قلبُ المؤمنِ الفَهِمِ
وكما يمر على الأمة لحظات من الهوان، فلا بد لها أيضًا من ساعات التمكين كما بشر بذلك رسول الله (?): "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزًا يعز الله به الإسلام وذلًا يذل الله به الكفر" (أخرجه أحمد 4/103، وصححه الحاكم أيضًا ووافقه الذهبي).
ويقول أيضًا: "والذي نفسي بيده ليفرجن الله عنكم ما ترون من الشدة، وإني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق آمنًا، وأن يدفع الله إليَّ مفاتيح الكعبة، وليهلكن الله كسرى وقيصر، ولتنفقن كنوزهما في سبيل الله". (رواه البخاري ومسلم).
إن المؤمن لا يعرف اليأس ولا القنوط، إن له غاية عظمى وهدفًا ساميًا ألا وهو رضا الله والجنة، وصدق الله حيث يقول الله: "وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا". ( النساء: 104)
وكما يقول سيد قطب: "فأما المؤمنون الموصولة قلوبهم بالله، الندية أرواحهم بروْحه، الشاعرون بنفحاته المحيية الرخية، فإنهم لا ييأسون من روْح الله ولو أحاط بهم الكرب، واشتد بهم الضيق، وإن المؤمن لفي روح من ظلال إيمانه، وفي أنس من صلته بربه، وفي طمأنينة من ثقته بمولاه، وهو في مضايق ومخانق الكروب (في ظلال القرآن، سورة يوسف، الآية 87).
وحين نرانا ضعفنا مرة، أو زلزلنا مرة، أو فزعنا مرة، أو ضقنا مرة بالهول والخطر والشدة والضيق.. فعلينا ألا نيأس من أنفسنا، وألا نهلع ونحسب أننا هلكنا؛ أو أننا لم نعد نصلح لشيء عظيم أبدًا! ولكن علينا في الوقت ذاته ألا نقف إلى جوار ضعفنا لأنه من فطرتنا البشرية! ونصر عليه لأنه يقع لمن هم خير منا! هنالك العروة الوثقى.. عروة السماء، وعلينا أن نستمسك بها لننهض من الكبوة، ونسترد الثقة والطمأنينة، ونتخذ من الزلزال بشيرًا بالنصر، فنثبت ونستقر، ونقوى ونطمئن، ونسير في الطريق" (في ظلال القرآن، سورة الأحزاب، الآية 22).
إني أتوق إلى انتصـار عقيـدة فيها لأنهار النجـاة منابـع
قالوا: تروم المستحيل ؟ فقلت بل وعد من الرحمن حق واقع
والله لو جرف العدو بيوتنا ورمت بنا خلف المحيط زوابـع
لظللت أؤمن أن أمتنا لها يـوم من الأمجـاد أبيض ناصـع
هذي حقائقنا وليسـت صورة وهمية فيها العقـول تنـازع
أنا لن أمل من الـنداء فربمـا أجدى نداء من فؤادي نابـع
.......................
(*) كاتب صحفي
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

التعليقات
يرجى تسجيل الدخول