الشيخ يوسف العُشّ

 
 (1911 – 1967م)
 عَلَم من أعلام مدينة الميناء
 
بقلم الدكتور عمر تدمري
 
قبل أكثر من أربعين عاماً من الآن، اقتنيتُ كتاباً بالفرنسية عن المكتبات العربية في الشام ومصر خلال العصر الوسيط، لمؤلّفه الدكتور "يوسف العش" وكان أحد المراجع التي اعتمدتُها في إعداد أطروحتي لنيل درجة "الدكتوراه". ولم أكن أدري أن المؤلف من مدينة الميناء، خصوصاً وأن الكتاب مطبوع في دمشق عام 1967، وليس في مقدمة الكتاب مايشير الى مكان ولادة مؤلفه، أو نبذة تعريف به، وكذلك الحال في كتاب آخر له تضمّه مكتبتي، وهو "فهرس مخطوطات التاريخ وملحقاته في دار الكتب الظاهرية بدمشق" مطبوع سنة 1947، وكتاب ثالث بعنوان: "تقييد العلم" للخطيب البغدادي، حيث نشره محققاً، مع مقدمة له تناول فيها أثر الأجيال المتتابعة في التدوين، وقد طُبِع بدمشق سنة 1949، وله كتب أخرى وأبحاث أكثرها مطبوع بدمشق، بحيث يظن المرء أنه دمشقي من مواليد دمشق.
 
ويشاء الله تعالى أن أدعَى قبل سنوات قليلة لإلقاء محاضرة في "مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث بدبي" عن تجربتي في تحقيق كتب التراث، وأن يقدِّم لي المركز مجموعة كتب من إصداراته، ومن بينها كتاب بعنوان: "دُور الكتب العربية العامة وشبه العامة لبلاد العراق والشام ومصر في العصر الوسيط، للدكتور العش، وهو بالعربية، ترجمه عن الطبعة الفرنسية: نزار أباظة ومحمد صباغ، وصدر في بيروت عن دار الفكر المعاصر 1991، وفي الكتاب ترجمة للمؤلّف كتبها ابنه الدكتور "صفوان العش" ومنه عرفتُ أن المؤلف رحمه الله - هو من مواليد مدينة الميناء، ولم يسبق لأحد من الباحثين ان عرّف به أو ترجم له، مع أنه من العلماء الأعلام الذين أنجبتهم الميناء في القرن الماضي.
 
وقد كتب الدكتور "صفوان العش" عن أبيه الدكتور "يوسف" فقال:
 
ولد -رحمه الله - في منطقة الميناء من طرابلس الشام عام 1329هـ/1911م. وكان الإبن الاكبر لأب متوسط الحال يعمل بالتجارة، ثم غادر أهله بطرابلس وهو ما زال صغيراً، ناجين بأنفسهم من مدافع السفن التي أخذت تضرب السواحل اللبنانية خلال الحرب العالمية الأولى، فتوجهوا منها الى مدينة حمص، ثم الى حلب حيث أسس فيها والده تجارته بالمواد الغذائية، وجنى من ورائها أرباحاً.
 
وفي حلب تلقى والدي تعليمه الثانوي وحصل على (البكالوريا) الأولى سنة 1348هـ/ 1929م. ثم سافر الى دمشق، فدرس في المدرسة السلطانية (مكتب عنبر) وحصل منها على البكالوريا الثانية بتفوق سنة 1350هـ/1931م.
 
فأوفدته فرنسا للدراسة في جامعة (السوربون)، وأمضى في باريس ثلاث سنوات ونيفاً اكتسب خلالها ثقافة غربية، واطلع على حضارة الغرب وعلومه، ونال بعدها درجة (الليسانس) في الآداب عام 1353هـ/1934م. وحصل أيضاً على شهادة في تنظيم دُور الكتب في مدرسة الشروط بباريس.
 
ولما عاد الى دمشق عُيّن مديراً لدار الكتب الوطنية الظاهرية عام 1354هـ/1935م. فقام بتنظيمها أحسن تنظيم. وقد حدّثني بعض من يعمل فيها الآن (أي بعد أكثر من خمسين عاماً) ان نظام التصنيف والحفظ الذي وضعه لها ما زال متَّبعاً فيها بخطوطه الرئيسية كلها.
 
وكان في المدة التي تولى فيها الظاهرية يشارك العلماء والأدباء مجالسهم ومنها جلسة الثلاثاء الأسبوعية التي كانت تعقد في منزل الاستاذ "محمد كُرد علي" رئيس المجمع العلمي آنذاك. كما تعرف الى العديد من الأدباء والسياسيين الذين كانوا في تلك الفترة.
 
وفي عام 1360هـ/1941م. اقترن بالآنسة سلام كبارة (إحدى قريبات والدته من طرابلس)، ورزق منها بولدين وبنت، وكانت له خير رفيق حملت عنه همَّ تربية أولاده ورعايتهم، فتفرغ الى العلم والبحث وهو مطمئن البال على بيته.
 
وتشاء الأقدار ان يتعرف في دمشق على القانوني الكبير الأستاذ عبد الرزاق السنهوري، فيمضي معه ومع صديق طفولته الأستاذ "صلاح الدين نجيب باقي" أوقاتاً طويلة يتباحثون في أوضاع العالم العربي. وقد سعى له الأستاذ السنهوري من أجل العمل في جامعة الدول العربية، فانتُدب إلى اللجنة الثقافية فيها. وعمل أميناً للجنة، ومديراً لمعهد المخطوطات، وهو الذي اقترح إنشاءه ووضع خطّته 1366- 1370هـ/1946-1950م. كما كان أميناً للمؤتمر الثقافي العربي الأول في الاسكندرية، والثاني في بيت مري (بلبنان). وشارك في أعمال لجنة الترجمة باليونيسكو، وانتُدب ممثلاً لجامعة الدول العربية فيها.
 
هيّأتْ (ليوسف العُشْ) إقامتُه في عاصمة الكِنانة مدة تقارب خمس سنوات، فرصةً طيبةً للإجتماع بالكثير من أدباء مصر ومفكّريها، وكان من أصدقائه في تلك الفترة: أحمد أمين، طه حسين، وساطع الحصري وغيرهم. كما استمرت صداقتُه مع الأستاذ السنهوري بعد عودته الى مصر.
 
وكان لهذه الصداقة أثر خاص في نفسه، إذ أُعجِب به باحثاً مفكراً عميق النظرة، بعيد الأفق. وكان لحياته في مصر أثرٌ في تعميق إيمانه بالوحدة العربية وترسيخ حبّه لها، وأعدّ خلال إقامته هناك، وبعد سفرات عديدة الى أوروبا، الرسالة الأولى للدكتوراه وموضوعها (تاريخ دور الكتب العربية في العراق والشام ومصر عبر العصر الوسيط وأثرها في نشأة المدارس)، وهو موضوع اضطر من أجله ان يراجع كل أبحاث التاريخ العربي الإسلامي لجمع مادته، وزار لهذا الغرض دُور الكتب في سوريا ولبنان وتركيا وفيينا وباريس ومصر، واطلع على نحو من ثلاثة آلاف مخطوط، وقرأ أكثر من ثمان مئة مجلّد مطبوع.
 
واعترضه في تحضير الرسالة الأساسية للدكتوراه موضوع نشأة الكتب والكتابة، فاضطر الى نشر كتاب عن هذا الموضوع بعنوان (تقييد العلم) للخطيب البغدادي، وهو في تاريخ نشأة العلم وكتابته، وقدّم للكتاب بمقدِّمة واسعة بيَّن فيها تاريخ تلك النشأة، والكتاب موضوع الرسالة الثانية للدكتوراه (دكتوراه الدولة في الآداب) التي نال درجتها عام 1369هـ/1949م. من جامعة (السوربون) بدرجة مشرِّف جداً مع كتاب تهنئة من لجنة المناقشة، وهذا تقدير لا يناله إلا قليلون وفي حالات نادرة.
 
رجع الى دمشق عام 1370هـ/1950م. فعُيِّن أميناً للجامعة السورية، ثم انتُدِب لإدارة الإذاعة السورية، لكنه لم يبقَ طويلاً في هذا المنصب الذي ضايقه وشغل فكره. وأذكر أنه حدّثني مرة عن سبب تركه الإذاعة بهذه السرعة بأن أحد رؤسائه أَمَرَه شفوياً بطرد موظف من العمل، فرفض، ما لم يصله أمر خطي، لأنه لا يستحق الطرد، فخُيِّر بين إقالته أو إقالة الموظف، فقدّم استقالته على الفور. والغريب أن الموظف لم يعلم بما حدث.
 
إنتقل من الإذاعة الى الجامعة السورية، فشغل فيها منصب أمين الجامعة بين عامي 1950-1955م. وعُيِّن أستاذاً في كلية الشرعية، فعميداً لها عام 1964م. وفي تلك الأثناء أعيد الى الجامعة الليبية في بنغازي بمهمة تنسيق مكتبتها في العام الدراسي 1960-1961م.
 
وكان منذ عودته الى دمشق عام 1370هـ/1950م. يدور في ذهنه مسألة أخذت من وقته الكثير، وأصبحت شُغلَه الشاغل، وهوايتَه التي ملكت عليه نفسه، والتي جعل يسهر من أجلها الليالي يُمضيها في الدراسة والحساب والكتابة، كانت تلك محاولته تفسير نشوء الحضارات وتقدم الأمم والدورات التاريخية للشعوب، وحاول أن يفسر ذلك على أساس ان نشاط الشعوب مرتبط بالنشاط الشعاعي للشمس التي لولاها لما وُجِدت حياة على الأرض، فعاد إلى علوم الفيزياء والرياضيات والجيولوجيا والفلك وعلم الإنسان ليربط بين طباع الإنسان وزُمره الدموية والشعوب والدورات الفلكية للشمس. وكتب عدداً من البحوث حول الموضوع. كما قام بجولة في أوروبا بين عامي 1957-1958م. حاضر فيها في عدد من الجامعات ومراكز البحوث، باسطاً فكرته تلك، فانقسم العلماء بين مؤيِّد ومعارض. وكان شرح النظرية صعباً، لأنها لا تتناول علماً واحداً، بل عدداً من العلوم، فيصعب لذلك على صاحب الاختصاص الواحد ان يستوعبها بمجملها.
 
وما زالت هذه الفكرة تشغل ذهنه وتستهلك وقته، وكم كنتُ أستيقظ في الصباح الباكر لأجده على مكتبه ما انفكّ يطالع أو يحسب أو يكتب. ولقد حدّت النظرية من نشاطه الأدبي وعمله في التاريخ، مع أنها كانت تمدّه أحياناً بسعادة عظيمة، إذ اعتقد أنه شرح واحدة من أهم المعضلات التاريخية شرحاً علمياً منطقياً. فجمع بين التاريخ والعلم على صعيد واحد.
 
وقد أثقلت عليه نظريته، لأنه احتاج من أجلها الى الخوض في علوم جديدة والوقوف أمام عقبات يصعب تجاوزها.
 
وما أسرع ما أصيب بذبحة صدرية لم تُمهله وتوفي على أثرها في 1387هـ/ 11 نيسان (إبريل) 1967م.
 
من آثار الدكتور يوسف العُش عدة كتب بين تأليف وترجمة وتحقيق منها:
 
- تصنيف العلوم والمعارف (طُبِع بدمشق 1937) وهو أول كتاب عربي صُنِّفت فيه العلوم بطريقة منطقية تستقي من تصنيف "أوغست كونت" للعلوم.
 
- قصة عبقريّ (طُبِع في القاهرة 1943 في سلسلة "إقرأ" رقم 42) تحدّث فيه عن الخليل بن أحمد الفراهيدي، وقد وصفه قائلاً: "بهذا العقل، وذلك الخلق كان يتهيأ للخليل من الوقت والفراغ وصفاء الذهن ما يسعفه بالإبداع والخلق". كان يطلق فكره للأشياء المحيطة به، يحاول استخراج كُنهها والوصول الى حقيقتها، يحاول أن يستخرج منها أصولاً تجمع في قانون موحَّد تلك الظواهر المتضاربة المتشبعة، وذلك شأن المبدعين.
 
و"الفراهيدي" عالم نحوي لغوي، وهو أول من استخرج علم العروض، وحصّن به أشعار العرب. توفي في سنة 170هـ/786م.
 
- الخطيب البغدادي مؤرخ بغداد ومحدّثها (طُبع بدمشق سنة 1945). درس فيه شخصيته، وعرّف بنتاجه العلمي، وهو ألّف أكثر من 60 كتاباً، من أشهرها كتاب "تاريخ بغداد" (14 مجلداً). وهو توفي سنة 463هـ/1071م.
 
- تقييد العلم: وهو تحقيق للخطيب البغدادي طبِع بدمشق 1949م. وهو أهم كتاب في العربية تناول فيه الخطيب البغدادي تاريخ تدوين الحديث، وقد قدم للتحقيق الأستاذ الكبير أحمد أمين، وجاء في كلمته عن المحقق ما يلي: "عرفت الاستاذ يوسف العُش شاباً ممتلئاً نشاطاً، مخلصاً للعلم، جاداً في البحث وراء الحق، لم تمنعه ثقافته الغربية أن يصرف أطول زمنه نابشاً في الكتب الشرقية، مسلِّطاً ضوء المنهج الذي اكتسبه في الغرب على التراث العظيم الذي خلّفه لنا الشرق.
- فهرس مخطوطات التاريخ وملحقاته في دار الكتب الظاهرية (طُبِع بدمشق 1947م).
- الدولة العربية وسقوطها ترجمة لكتاب "يوليوس فلهاوزن" (طبع بدمشق 1956م).
- الدولة الاموية والأحداث التي سبقتها ومهدت لها (طُبع بدمشق 1965م) إبتدأ فيه من فتنة عثمان رضي الله عنه، وحاول أن يكشف عن العوامل التي وجهت تيار الحوادث.
 
- الحضارة الاسلامية: بحث قدمه بالفرنسية لمنظمة اليونيسكو تحت عنوان:
 
La Civilisation musulumane expliquée à la lumière du monotheisme
 
دور الكتب العربية بالفرنسية (طُبع بدمشق 1976م)
 
وفي هذا الكتاب أفرد المؤلف الدكتور العُش نحو خمس صفحات عن "دار العلم" بطرابلس. وان من عوامل إزدهارها في نهاية القرن الخامس الهجري (11م) غنى المدينة بزراعتها، وغناها بحِرَفيّيها وصناعة أقمشة الصوف والحرير والكتان، بالإضافة الى معمل لصناعة الورق أسهم في نشر الكتب، وبالتالي في الثقافة. ويتناول بعد ذلك مجيء "أبي العلاء المعري" للدراسة في طرابلس، وينقل عن ابن أبي طيئ" روايته عن كيفية إحراق الصليبيين للمكتبة بدار العلم عند احتلالهم للمدينة عام 502هـ/1109م. ثم يذكر اسم اثنين ممن تولوا النظر على "دار العلم" هما: الحسين بن بشر بن علي الطرابلسي المعروف بالقاضي، والقاضي أبو الفضل بن أبي دوح، وينقل عن ابن العديم الحلبي قوله إن جلال الملك ابن عمار أنشأ دار العلم عام 472هـ/1080م أي بعد 24 سنة من وفاة "أبي العلاء" وهو ينفي وجود "دار العلم" قبل التاريخ المذكور. وقد أخطأ في ذلك.
فهو ذكر أولاً ان القاضي ابن بشر الطرابلسي كان ناظراً على دار العلم. ونحن نعرف ان ابن بشر امتدحه الشاعر عبد المحسن الصوري المتوفّى سنة 419هـ 1028م في ديوانه، وهذا يعني ان "دار العلم" كانت موجودة ومعروفة بهذا الاسم.
 
وبعودتنا الى نص "ابن العديم الحلبي" نجده يقول ان جلال الملك ابن عمار (جدد دار العلم) ولم يقل (أنشأ) وبين اللفظين فارق كبير كما لا يخفى. وهذا يؤكد وجود الدار قبل جلال الملك، ونظراً لازدياد عدد الكتب فيها وكثرة الأساتذة وطلبة العلم فيها قام بتوسيعها وتجديد بنائها في السنة المذكورة أعلاه حسب نص رواية "ابن العديم".
 
أما القاضي "ابن أبي دوح" ففي اسمه تحريف، فهو على الصواب "ابن أبي روح" بالراء وليس بالدال.
ومن الأخطاء الأخرى في كتاب الدكتور العش - رحمه الله، قوله بما نصّه:.. الحسين بن بشر بن علي الطرابلسي المعروف بالقاضي. ذكره بن أبي طي، وقال: كان صاحب دار العلم بطرابلس أدبياً، وصنّف كتاباً في الخطب يباهي بها خطب ابن نُباته، وله مناظرة مع الخطيب البغدادي
ذكرها الكراجكي وقال: حُكم له على الخطيب بالتقدم في العلم.
 
وكانت هذه المناظرة في شهر شعبان من عام 462هـ/1069م. عندما دخل الخطيب طرابلس، أي قبل افتتاح دار العلم.
 
ان القارئ العادي سيقرأ هذا النص، ويسلم به لأنه لا يملك أدوات المناقشة، ولا ناصية التحقيق العلمي.
ومكمن الخطأ أو الغلط - هو ان الكراجكي هو الذي ذكر المناظرة بين ابن بشر الطرابلسي والخطيب البغدادي، وان تاريخ المناظرة في شهر شعبان من عام 462هـ/ 1069م.
 
ويقول طالب العمل وخادمه، كاتب هذه السطور، ان الكراجكي هو "أبو الفتح محمد بن علي بن عثمان الخيمي" من كبار علماء الشيعة، ألّف في الفقه، وعلم الكلام والحكمة، والطب، والفلك، والرياضيات، بأقسامها، وأقام بطرابلس وقتاً طويلاً، وألّف لأمراء بني عمار، وألّف لأمراء صيدا وصور، وله عشرات المصنّفات أحصيناها في موسوعتنا عن العلماء والأعلام في تاريخ لبنان وساحل الشام.
 
وقد أجمعت المصادر على وفاته بمدينة صور في عام 449هـ.
 
فكيف يذكر المناظرة التي جرت بطرابلس بعد وفاته بثلاثة عشر عاماً.
 
وبالعودة الى المصادر القديمة الأساسية، وجدنا ان الخطيب البغدادي دخل طرابلس أولاً عام 447هـ. والمرجّح لدينا إن المناظرة جرت آنذاك.
 
رحم الله الدكتور يوسف العُش، وتحية لمدينة الميناء التي أنجبته، وهو يستحق التكريم.
منقول من موقع: ذاكرة طرابلس وتراثها .