الشيخ محيي الدين البادنجكي

وُلد في مدينة حلب سنة /1239/ هـ

اشتُهِر رحمه الله بالبَادِنْجِكِيِّ أو المَيْدَانْجُكِيِّ نسبة لجامع محلَّة (بادنجك) المحرَّف اسمها عن مَيْدَان جُك.

 قال المؤرِّخُ الشَّيخُ كامل الغَزِّيُّ في كتابه نهرِ الذَّهب في تاريخ حلب في كلامه عن محلَّة بادنجك: 2/279: (اسمُها هذا مُحرَّفٌ عن (مَيْدَان جُك)، لفظة تُركيَّة معناها المَيدان الصَّغير، كأنها سُمِّيتْ بهذا الاسم لِمَيدان صغير في حضرة جامعِها).

 نشأَ الشيخ في بيت العبادة والولاية والورع والزُّهد والنَّسب، فوالدُه هو القدوةُ النَّاسك والمربي الشَّيخُ محمَّد سعيد المَيْدَانْجُكِيُّ الحسينيُّ نسبًا، والقادريُّ والخلوتيُّ طريقةً المولود في سنة: /1189/ هـ.

قال فيه الشَّيخ محمَّد أبو الوفا الرِّفاعيُّ في منظومته في أولياء حلب:

( كذا سعيد الزَّاهدُ البادنجكِي القادرِي مُنجمِع ذو نُسُك ).

قال فيه الشَّيخُ محمد راغب الطباخُ في كتابه "إعلام النُّبلاء بتاريخ حلب الشَّهباء":

(سلكَ في الطَّريق على الشَّيخ إبراهيمَ الدَّارعزانيِّ، وعنه أخذ الطَّريقةَ الخلوتيَّةَ القادريَّةَ وخلَّفَه....

وكان يَتعاطى صَنعةَ الحِياكَةِ، وكان مُلازمًا للذِّكر في هذه الحالة، ورُئي له كراماتٌ ظاهرةٌ).

ولمَّا بلغ الشَّيخُ محيي الدِّين ثلاث عشرة سنة تُوفِّي والدُه الشَّيخُ محمَّد سعيد في سنة:/1252/هـ، فَرَبَّتْه والدتُه السَّيِّدةُ الصَّالحة الصَّوفيَّة عائشةُ بنتُ أبي بكر السَّمَّان المجازةُ بالطَّريقة الرِّفاعيَّة من أخيها أبي السُّرور أحمدَ عن شيخِه محمَّد ضبيان (ضباب) عن شيخِه شرفِ الدِّين المجذوبِ عليِّ بنِ عبدِ الرَّحمنِ شَاتِيْلا السَّبسبيِّ عن والدِه عن ابنِ عمِّه السَّيِّدِ أحمدَ السَّبسبيِّ عن عمِّه السَّيِّدِ درويشِ بن مصطفى ساكنِ ببيله بإسناده إلى القطبِ الدَّاعي سيِّدي أحمدَ الرِّفاعيِّ-رضي الله عنه-، فنشَأ الشَّيخ رحمه الله- في هذا البيت تؤهِّلُه والدتُه لإحياءِ مجالسِ الذِّكر بعد أبيه وأخِيه محمَّدٍ المجذوبِ، فوجَّهَتْه للاشتغال بالعلم والسُّلوك على يد أئمَّة أهلِ العلم والسُّلوك والأدب.

اشتغاله بالعلم والسُّلوك:

لمَّا ترعرع الشَّيخ انتظم في سِلك الطُّلاب، فتلقَّى العلوم الآليَّة والفقهيَّة والحديثيَّة على الأستاذ الكبير والوليِّ الشَّهير الشَّيخ أحمدَ التِّرمانينيِّ، وتلقَّى الحسابَ والفرائضَ على الشَّيخ عمرَ بن السَّيِّد محمدِ بن شيخ أفندي، وتلقَّى النَّحو أيضًا وعلم التَّفسير والفقه عن أمين الفتوى الفقيه الشَّيخ مصطفى بن السَّيِّد محفوظ الرِّيحاويِّ، قرأ عليه حاشيةَ الصَّاويِّ على الجَلالينِ، وجاور في المدرسة القرناصيَّة خمسَ سنين وهو دائبٌ فيها على الاشتغال بالعلومِ النَّافعة. وسلك -رضي الله عنه- عند السَّادة الهلاليَّة شيوخِ والِده، فسلكَ على الشَّيخ عبد الَّلطيف بن الشَّيخ إبراهيمَ الهلاليِّ، وبقيَ في خدمته نحو عشر سنين، فأجازه بالطَّريقة القادريَّة والخلوتيَّة وخلَّفَه، كما أُجيزَ من أجلَّة شيوخ الطَّريقة القادريَّة من بغداد وحماه، كإجازةِ السَّيِّد عبدِ الرَّحمنِ بنِ عبدِ القادرِ الحَمَويِّ البكريِّ له في سنة:/1278/هـ عن شيخِه محمَّدٍ أمين بنِ محمَّدٍ الأغوانيِّ عن شيخِه عبدِ القادرِ بنِ السَّيِّدِ بكري القادريِّ خادمِ السُّجَّادةِ القادريَّةِ في بغداد وكانت هذه الإجازةُ للشَّيخ محيي الدِّين بعد وفاة شيخه عبد اللَّطيف الهلاليِّ بسنيتن، وكإجازة نقيبِ السَّادةِ الأشرافِ بحماة وشيخِ السُّجادةِ القادريَّةِ فيها محمَّد مُرتضى بنِ نجيبٍ الجِيلانيِّ.

اشتغاله بالتَّعليم والإرشادِ والدَّعوةِ إلى اللهِ تعالى:

بدَأَ الشَّيخُ يُقيم حلقاتِ الذِّكرِ والخلواتِ كأسلافه بعد أخيه الشَّيخ محمدٍ المجذوب سنة: /1271/ هـ في المدرسة الطُّرنطائيَّة مع الإرشاد والتَّسليك على هدْي الكتابِ والسُّنَّة المطهَّرة وطريق أسلافِه الواضحِ الجليِّ، مع كونه كان يسعى جاهدًا لإحياء وتنظيم حِلَق الذِّكر حتَّى في حياة أخيه الشَّيخ محمَّد المجذوب صاحبِ الأحوالِ والكراماتِ، وولِّي -رضي الله عنه- في تلك السَّنة شؤون وقفِ المدرسة، وصار له مُريدون لا يُحصَون، يعتكِفُ كلَّ سنةٍ مع بعضِ إخوانِه أربعينَ يومًا خلوة قادريَّةً خلوتيَّةً. ولم يكتفِ-رضي الله عنه- الشَّيخُ بتزكيةِ أنفسِ مريديه فكان يشتغِلُ أيضًا بتعليمِهم وتعليمِ أهلِ محلَّتِه فيقرأُ لهم كتبَ التَّفسيرِ والحديثِ والفقهِ والنَّحوِ وغير ذلك، مع شدِّه الرِّحال لدعوة أهل القُرى إلى الله تعالى وإرشادهم وتفقيههم. وكان -رضي الله عنه- يشتغِلُ بتعليمِ الصَّالحين من الجنِّ فيحضُرون عنده مجالسَ العلم والذِّكر، ويصلِحُ ذاتَ بينِهم، حتَّى أخذَ العهدَ منهم ألَّا يؤذوا أحدًا من ذرِّيَّته وإخوانه.

من صفاتِه:

كان صاحبَ علمٍ وعملٍ، وعبادةٍ واستقامةٍ، وثَباتٍ ووَقارٍ، وجِدٍّ واجتهادٍ، وتواضعٍ وحلمٍ، وعِفَّة ولياقةٍ وورع، جبلًا لا تزحزحه الأهوال، مواظبًا على العبادة والتَّعليم منقطِعًا لهما لا يخرج إلى الأسواق إلا نادرًا، يأتيه الولاة متبرِّكين طالبين دعاءه، فكان من رسوخ قدمه في العبادة والتَّعليم لا ينامُ أكثرَ اللَّيلِ قائمًا مستغفِرًا مناجيًا مطالِعًا، يواصلُ قيامَ اللَّيل بالتَّدريس في المدرسة الطُّرنطائيَّةِ كلَّ يومٍ بعد طلوعِ الشَّمس. وكانَ من رفيعِ أدبِه يخرجُ لاستقبالِ مشايخِه كمشايخِه الهلاليَّةِ خارجَ الزَّاويةِ حافي القدَمَين، ومن مَهابتِه وشفقته على الضُّعفاءِ والمساكينِ يَشفَعُ للمسجونِ منهم ظُلمًا عند الولاة فيقبلون شفاعتَه مع الإجلال والتَّوقير. أمَّا صفاتُه الخَلقيَّةُ: فكان -رضي الله عنه- نيِّرَ الشَّيبة جدًّا، دُريَّ الَّلون، مستديرَ الوجه بَدينًا، إلى القصر أقرب, حادَّ البصر، كثيرًا ما يَرى هلال رمضانَ وهلالَ شوال في أولِ ليلةٍ مع علوِّ سِنِّه ويريه لبعضِ أولادِه ومريديه، ويأتي حينئذٍ للمحكمةِ الشَّرعيَّة ومعه مَن رآه مِن جماعتِه ويشهدونَ بالرُّؤية.

كراماته (رضي الله عنه):

من أجَلِّ كراماتِ الشَّيخِ استقامتُه وشدَّةُ اتِّباعِه لكتابِ الله تعالى وسُنَّةِ رسولِه -صلَّى الله عليه وسلَّم.

ومن كرامات الشَّيخِ أيضًا كما ذَكَرَ المؤرِّخُ الشَّيخُ محمَّد راغب الطَّباخُ في كتابه إعلام النُّبلاء:

(كان النَّاسُ يرَون بركةَ قراءتِه وتعاويذِه، ويُشفى الكثيرُ منهم -بإذنِ الله تعالى- نظرًا لصلاحِه وتقواه وعظيمِ اعتقادِهِم فيه).

ومن كراماته أيضًا: أنَّ ماءَ بئرِ زاويتِه كان مالِحًا قليلًا، ولمَّا اشتدَّتِ الحاجةُ إليه دعا بإناء من ماء البئر نفسِه فأُحضِرَ له، فقرَأَ فيه، ثمَّ أَمَر أن يُصَبَّ في البئر، فصُبَّ فيه فغدا ماءُ البئر عذْبًا كثيرًا، فوكَّل بعض إخوانه بسُقيا النَّاس، وذات ليلةٍ ذهب السَّاقي ليملأَ وعاءَ الماءِ من البئر، فوجدَ حبلَ الدَّلوِ مقطوعًا، فرجعَ إلى الشَّيخ ليخبرَه بالأمرِ فقال له: ( اذهبْ فاملأه ) فذهبَ فوجدَ الماءَ قد فاضَ إلى سطحِ البئر.

وفاته:

تُوفِّي رحمه الله مساءَ الثُّلاثاء /10/رجب/ 1327هـ، عن /88/سنة، وَدُفن في مدرستِه المدرسةِ الطُّرنطائيَّة، وكان الأسفُ عليه عظيمًا لفقده مع طول مدَّة تصدِّيه للإرشاد والتَّسليك وكثرةِ أتباعه ومريديه الَّذين صاروا لا يُحصَونَ كثرة. رحمه الله تعالى . وصلَّى الله على سيِّدنا محمَّد وعلى آله وصحبِه وسلَّم .

كتبه الفقير إلى عفوِ ربِّه د. حسن بن السَّيِّد

عبد الرَّحمن البادنجكيُّ عُفي عنه.

-- المصدر : موقع المدرسة الطرنطائية (بتصرف)

--المراجع:

-مخطوطات رسميَّةٌ وشخصيَّةٌ ترجع إلى القرنِ الثَّالث عشر الهجريِّ اعتُمِد عليها في إثبات التَّواريخ المذكورة، وإعلامُ النُّبلاء للشَّيخ محمَّد راغب الطَّبَّاخ: 7/243-515، ومعلوماتٌ موثَّقة محفوظةٌ من أحفاد الشَّيخ.