الشيخ محمود الفحام

1333 ـ 1419هـ

1914 ـ 1999م

 

  

الشيخ محمود بن الشيخ محمد خير الفحام الحموي ثم الحلبي. 

داعية مجاهد، وفقيه حنفي ورع زاهد، وأديب شاعر مجيد.

ولد في مدينة حماة، سنة: ثلاث وثلاثين وثلاثمئة وألف للهجرة، في أسرة اشتهرت بالعلم والأدب، ونشأ في كنف والده الشيخ محمد خير، أحد علماء حماة وشيوخها، أخذ الطريقة (النقشبندية) على شيخه الشيخ سليم خلف الحمصي.

وعني الشيخ محمد خير بولده المترجم له، فعلمه تلاوة القرآن الكريم وتجويده، كما علمه مبادئ النحو والصرف والفقه والسيرة، وقرأ له الكثير من كتب النحو والفقه الحنفي والسيرة النبوية.

ولما شب بعثه إلى مدينة حلب، ليتابع تحصيله العلمي في المدرسة (الخسروية)، التي يحمل لها في قلبه كل مشاعر الحب والإعجاب والإجلال لشيوخها، يقول: " دخلت المدرسة الخسروية في حلب، وأنا ابن أربعة عشر عاماً، وكان ذلك عام: 1928م، وأخذت العلم عن علمائها الكبار وشيوخها العظماء الذين لم أجد لهم مثيلاً في حياتي، منهم الشيخ محمد سعيد الإدلبي والشيخ أحمد الزرقا، والشيخ محمد راغب الطباخ، والشيخ أحمد الشمّاع والشيخ محمد أسعد العبجي، والشيخ محمد الناشد، والشيخ أمين الله عيروض، والشيخ عبد الله حماد(1)، وقد قرأت على أساتذتي هؤلاء مختلف العلوم الشرعية والعربية من فقه وتفسير وحديث وسيرة وتوحيد وفرائض ونحو وصرف وبلاغة، وقد أفدت من شيوخي الحلبيين فائدة عظيمة فجزاهم الله عني كل خير، وقد سألت أخي وصديقي الشيخ محمد الحامد بعد عودته من مصر. كيف وجدت الأزهر؟  فقال لي: علماء حلب أعلم وأتقى"(2)، وعندما وصل الشيخ إلى الصف الخامس، اضطر إلى ترك المدرسة لينطلق إلى العمل في الدعوة إلى الله، فعمل إماماً وخطيباً وواعظاً في عدد من المدن والقرى منها، (حماه) و(معرة مصرين) و(تفتناز) و(سرمين) وغيرها، وكان في عمله هذا مثال الداعية المرشد والمعلم الناصح والمجاهد الجريء، يجهر بقول الحق في وجه الطغاة والمستعمرين قال لي: " كنت إماماً وخطيباً في قرية (معرة مصرين) يوم ألغى المستعمرون الحكم الوطني في سورية، واعتقلوا زعماء البلاد وزجوا بهم في السجون، وشغلوهم بتكسير الحجارة لتعبيد الطرق، وكان ذلك عام 1939م، فلما كان يوم الجمعة صعدت المنبر وحمدت الله وأثنيت عليه ثم بدأت خطبتي بقول الله تعالى: " وإن نكثوا أيمانهم بعد عهدهم"  ثم بينت أن الحكومة الفرنسية وعدت الأمة لكنها كانت كاذبة، وها قد رجعت عن عهدها ووعدها، ثم دعوت الناس إلى مقاومة الحكم الأجنبي، وأتبعت ذلك بقصيدة، نددت فيها بالاستعمار وأعماله، وكان من نتيجة ذلك أن صدرت الأوامر بملاحقتي والقبض علي، ففررت من (معارة مصرين) وبقيت متخفياً أتنقل بين المدن والقرى إلى أن نجاني الله بفضله وكرمه "، وهذه هي القصيدة أرجو أن تطبعها في ترجمتي:

عين تسيل دماً والقلب يجزع=والناس في وادي الجهالة ترتع

جار العدا وتسلطوا في حكمهم=وبغوا فلا عهداً وميثاقاً رعوا

قاموا إلى القوم الأباة وما لهم=ذنب سوى الإخلاص فيما يدعوا

حكموا عليهم بالسجون وما كفى=حتى لهم كأس المنون يجرعوا

بالله يامن تدعون تمدناً=وترون أنفسكم أعز وأرفع(3)

وبزعمكم جئتم إلينا لتنشروا=فينا الرقي رقيكم يا لكع

إن كان عيب عندكم إخلاصنا=لبلادنا فالعيب فيكم أجمع

ولتعلموا أنا على جمر الغضا=نشوى وعن أوطاننا لا نرجع

جوروا فإنّا أمة لا ننثني=عن حقنا والظالمون سيصرعوا(4)

 

وللشيخ ديوان شعر مخطوط، حافل بالقصائد الوطنية والدينية والتخميسات والقدود والرثاء والتأريخ وغيرها من اللأغراض الشعرية

كما دون فيه بعض مواقفه في مقاومة المحتلين. 

ومما جاء فيه أيضًا:(وقلت يوم ثارت حماة ضد الاحتلال الفرنسي، يوم جاءت قوات فرنسا من جهة حمص لتقويض حماة وثورتها العارمة، فلقد تلقى أبطال حماة الزحف الفرنسي بقوة وشجاعة، وبأسلحتهم الضعيفة أسقطوا أربع طائرات، وأبادوا عدد من الدبابات، واستولى الخوف والفزع على الفرنسيين وعند الظهيرة، كادت تنفذ ذخيرة الثوار، فسارع قائد سرية الدرك بحماة السيد حلمي الجراح ونادى بأهالي حماة: من معه هوية فليأت ويأخذ سلاحاً، فسارع الناس نحو قيادة السرية، ووزع السلاح عليهم، ووقف قائد السرية يعطيهم التعليمات اللازمة، وعندها وقفت وقلت محمساً لهم ومشجعا: 

نار الحروب بدت يا قوم تشتعل=أين الذين لها أرواحهم بذلوا

هذي فرنسا لقد جاءت بقوتها=تبغي دماركم يا بئس ما فعلوا

جاءت حماة وتبغي أن تذللها=ظناً أن بأيدي أهلها شلل

فليعلموا ويد الأيام شاهدة=بحربنا من قديم يضرب المثل

إنا بني العرب أسمى الناس منزلة=إن مسنا الضيم نحو السيف ننتقل

ولا نبالي بأعداء وإن كثروا=فكم أبدنا ملوكاً خطبهم جلل

كونوا أسود الوغى في كلّ معركة=وقاتلوا الخصم لا ينتابكم وجل

ولا تخافوا ولا تنوا ولا تهنوا=فالمرء في اللوح مكتوب له الأجل

عار عليكم إذا ما العاديات عدت=تطأطئوا رؤوساً ما بها حيل

بيعوا النفوس بنهج الله رابحة=إن متّم فيه فالجنات والحلل

 

وكان من نتيجة هذه المعركة أن حاصر الثوار القوات الفرنسية في إحدى الثكنات، وقطعوا عنها الماء والكهرباء، وما أنقذهم من هذا الحصار إلا الجيش الإنكليزي، الذي وقف قائده على شرفة فندق (أبي الفدا)، وألقى خطاباً كان من جملة ما قال فيه: " دخلنا سورية لحماية سورية من الفرنسيين، ودخلنا حماة لحماية الفرنسيين من أهالي حماة، فحياكم الله يا أبطال حماة، ولو كان عندي جيش مثلكم لهزمت جيش هتلر وقوته من أول وهلة، فبارك الله فيكم يا أهل حماة وتحية لكم على دفاعكم عن حقكم"، ثم نظمت قصيدة (ذكرى يوم حماة الأغر) المتقدمة(5).

وكان الشيخ إذا ألقى قصيدة بحضرة شاعر العاصي بدر الدين الحامد يعتذر إليه قائلاً: " تطفلت على مائدتكم يا أستاذ "، فيجيبه قائلاً: " إن الله لم يختص بالحكمة أناسا دون أناس "، وإنني وقفت أدقق قولك نثراً وشعراً ووالله لو أنني وجدت ملاحظة صغيرة لأبديتها لك، فلا نقد على نثرك 

ولا نظمك، وأنتم بني الفحام أهلها وأبناء بجدتها من قديم الزمان (6).

هذه بعض المعالم من حياة الشيخ الأدبية والوطنية، فإذا انتقلنا إلى الجانب الشرعي رأيناه الفقيه الداعية إلى الله، الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من خلال دروسه وخطبه في مساجد البلدان، التي تنقل بينها ثم استقر في مدينة حلب، عام:1960م، فعمل إماماً وخطيبا في جامع (العمري)، وتحول بعد عام إلى جامع (التكية المولوية)، وأقام في هذا الجامع يؤم الناس، ويخطب الجمعة والعيدين، ويلقي دروسه إلى أن وافته المنية.

وهو صوفي النزعة (نقشبندي) المشرب، صحب الشيخ محمد أبا النصر الحمصي، وأخذ عنه الطريقة (النقشبندية)، فأحبه وبقي وفياً له طول حياته، كما كان يفخر بتتلمذه على الشيخ عيسى البيانوني، ويحفظ الكثير من أشعاره وأقواله، وقد خمس بعض هذه الأشعار.

أما صديقه وصاحبه الشيخ بكري رجب، فهو معجب به أشد العجب مقدر لشعره في مدح النبي  معترف له بالأستاذية في علم الشعر والعروض، وكان حزنه عليه عظيماً يوم وفاته، فرثاه بقصيدة جميلة أرخ فيها وفاته مطلعها.

رزئ الإسلام والحزن وجب=عندما نودي قضى بكري رجب (7)

 

تقي النفس، سليم الطوية، لا يحمل حقداً على أحد، كثير الذكر والعبادة، يحب الخلوة بنفسه والبعد عن الناس، ويرى فيهم شاغلاً عن الله.

أسمر اللون، طويل القامة، بعيد ما بين المنكبين، جميل الوجه، يزين رأسه بعمامة بيضاء، يلفها على (طربوش أحمر)، وقد آتاه الله بسطة في العلم والجسم.

وفي أواخر حياته حببت إليه العزلة والبعد عن الناس، وأقام في غرفة متواضعة في (التكية المولوية) (8) إلى أن وافته المنية، سنة: تسع عشرة وأربعمئة وألف للهجرة، وحزنت عليه مدينة حلب، وشيع بجنازة مهيبة إلى مقبرة (الصالحين). رحمه الله.

 ـ خط الشيخ محمود الفحام ـ

  ـ التكية المولوية ـ

المصادر والمراجع

1- ترجمة خطية أملاها علي صاحب الترجمة.

2- ديوان الشيخ محمود الفحام -مخطوط -.

3- مقابلات شفهية متعددة مع صاحب الترجمة.

4- مقابلة شفهية مع الشيخ محمد درويش خطيب.

5- مذكرات المؤلف وذكرياته عن الشيخ. 

---------------------------

(1) انظر ترجمات شيوخه هؤلاء في مكانها من الكتاب.
(2) عن ترجمة أملاها علي الشيخ بنفسه، في غرفته المنعزلة في التكية المولوية، شتاء عام: 1993م.
(3) الصواب: أن يقول في الشطرة الثانية: أعزًّ وأرفعَا، لأنه مفعول ثاني فرأى قلبية لكنها الضرورة الشعرية.
(4) آثرت أن أثبت ما رواه الشيخ لي بالحرف نزولا عند رغبته ـ رحمه الله ـ لأنه كان فخوراً بتاريخه هذا
مردداً اكتب هذا بالضبط وصدقني إنه ما حدث فعلا. (عن مقابلة شفهية جرت في التكية المولوية شتاء 
عام 1993م).
(5) هكذا أورد المترجم القصيدة والتعليق عليها في ديوانه، فأثبتها كما جاءت في الديوان نزولا عند رغبته (رحمه الله)، وللشيخ ديوان شعر مخطوط، قدمه لي وأخذت عنه صورة، وأرجو الله أن يوفقني لتحقيقه ونشره.
(6) عن لقاء مع المترجم في غرفته في التكية المولوية شتاء عام: 1993م 
(7) انظر القصيدة كاملة في ترجمة الشيخ بكري رجب. ص 358.
(8) كثيراً ما كنت أزور الشيخ في غرفته هذه، فأجده وحيداً يقوم بقضاء حوائجه بنفسه، فأحاول مساعدته، فيرفض بشدّة، قائلاً: أنا أكره المشايخ الذين يتخذون من تلاميذهم خدماً، ويطلب مني أن أستريح، فإذا ما انتهى من غسل آنيته أو بعض ثيابه، وأعدّ إبريق الشاي، جلس إلي وراح يحدثني دون توقف، وكنت أدهش من غزارة علمه وحلاوة منطقه، وأعجب لهذا الرجل الذي ملأ الدنيا بخطبه وأشعاره، وشغل المحتلين والطغاة بمواقفه الجريئة، كيف انتهى به الحال إلى هذه الغرفة المنعزلة في جامع المولوية، وقد تتلمذت عليه، ولازمته مدة طويلة من الزمن، وقرأت عليه نتفاً من علوم شتى، فكان في كل مجلس يأتي بكتاب في الفقه أو الحديث أو الأدب أو غير ذلك، فأقرأ عليه منه بحثا، ثم يفيض الشيخ ـ حمه الله ـ في شرحه والتعليق عليه، وأخذت عنه علم (حساب الجمّل)، وقامت بيني وبينه صداقة حميمة،  وكنت أكثر من زيارته، وهو يفرح بها، وكثيراً ما كان يكلفني بالنيابة عنه في خطبة الجمعة أوالعيدين، وكان يشترط علي عندما يوكلني في خطبة العيدين أن أقرأ مقدمة الخطبة التي صاغها مسجوعة، وكتبها بيده في ستينيات القرن المنصرم وهو معجب بها أيما إعجاب، ثمّ قدمها لي هدية مع ديوانه المخطوط ، كما كان يشترط علي في خطبة العيدين أن أرحب بـ (آل الزرقا) الذين سيحضرون خطبة العيد في هذا المسجد ليزوروا قبور أجدادهم من (آل الزرقا) ، الشيخ محمد الزرقا والشيخ أحمد الزرقا، وأن أرافقهم في هذه الزيارة وأدعو لأمواتهم بالرحمة والمغفرة، رحمه الله. (مذكرات المؤلف).