الشيخ محمد نافع شامي رحمه الله - 9 –


حادثــــة أخـــرى مع محافظ إدلب :
كان المحافظ يرغب كثيراً في كسر القيود الدينية عند الطالبات ، وتجاوبت معه مديرة التجهيز آنذاك والتي كانت في زمنه ، فشدّدت على الطالبات المتحجبات ، وأكثرت بالاتفاق مع المحافظ من إقامة الحفلات المختلطة ، والتي يحضرها المدعوون والمدعوات من الرجال والنساء حتى إنها أقامت مرة تمثيلية ألبست فيها الطالبات الممثلات ثياباً من ورق ملون وشهدها الرجال والنساء .
واستطال المحافظ في اتباع هواه ، حتى أباح المشروبات الكحولية في الحديقة العامة أمام دار الحكومة ، وهذه الحديقة يرتادها كثير من الناس المتدينين ، لينعموا فيها ساعة من الزمن بالهواء النقي ، والمناظر النباتية الطبيعية الجميلة ، ورأى والدي العقلاء في البلد يتهيَّبون نُصحه ، أو الكلام معه في تصرفاته الكيفيّة ، فتقدّم إليه بعريضةٍ لطيفةٍ رجاهُ فيها مراعاة عقائد المسلمين وعواطفهم ، وطلب منه إلغاء ما أباحه من المشروبات الكحولية في الحديقة المذكورة ، طلباً مقترناً بالحُجج الشرعية والقانونية ، لأن الحديقة واقعة أمام دار الحكومة من الشرق ، وفي جهتها الغربية مدرسة تجهيز البنات ، يفصل بينهما الشارع العام ، وهي قريبة من جامع شهاب ، ومن مدرسته الفتح الأهلية ، بأقل من المسافة القانونية ، وأشار في خطبة الجمعية إلى هذا الأمر ، وإلى انخلاع الطالبات من لباس الحشمة ، وحثت الآباء على صيانة بناتهن من الانزلاق والتردي ، وكثر لغط الناس في نقد مشايخ إدلب على سكوتهم ، وعدم تعاونهم مع الشيخ نافع في مقاومة التهتك والتبرج وسألهم البعض عن سبب عدم تعاونهم معه فقالوا إن الشيخ نافع لم يطلب مِنا هذا التعاون .


بعد تقديم العريضة المذكورة ، وضعها المحافظ في سلة المهملات وانتظر والدي شهراً كاملاً ثم مدَّ الشكاية عليه إلى مكتب تفتيش الدولة في دمشق وهنا حدث فصل طريف لا ينبغي إغفال ذكره .
أرسل العريضة الثانية إلى مفتي البلد قبل إرسالها إلى دمشق بناءً على ادعائه السابق بأنَّه لم يطلب من المشايخ معاونته ، وأخذها إليه الأستاذ نافع عاقل الذي كان معلماً منتدباً إلى مدرسته الفتح الأهلية ، وأوصاه أن يلصق عليها الطابع إن رضي أن يوقعها ، وإلا فقد كتب منها نسخة ثانية بصيغة الإفراد ، فلما عرضها عليه صاح مستغرباً : أعوذ بالله هذه شكاية على سيادة المحافظ كيف أوقعها ، إن الشّيخ نافع يريد مني أن أوقعها معه ليحتمي بتوقيعي من غضبةِ المحافظ فأجابه الأستاذ العاقل : لا يا أستاذ إنه يريد أن يلغي احتجاجكم أمام الناس الذين لاموكم على عدم التعاون معه في مقاومة الباطل حيث قلتم إنّه لم يطلب منا المعاونة .


وعاد بالعريضة غير موقعة ولا غرابة في هذا ، إنما الغرابة في إخباره المحافظ ، هذه الواقعة بعد اطلاعه عليها ، فهتف المحافظ هذا فوراً إلى رئيس المباحث قائلاً له بسخرية : أتعلم نبأ المضابط والعرائض التي يقوم الشيخ الشامي بتوقيعها من الناس ، فنفى علمه بها ، فقال هازئاً به ، أين أنت إذاً ...!!! ؟ أهكذا يكون سهرك على الأمن ؟ فهتف رئيس المباحث بدوره يستدعي والدي ويسأله عن العرائض التي يقوم بتوقيعها ، فقال هناك عريضة واحدة باسمي وحدي فقط ، وأنا على وشك أن أضعها في البريد ، وأطلعه عليها وعلى مسودة العريضة السابقة ، التي أرسلها لمديرية الافتاء ، ليطلع المفتي عليها ، وبيّن له سبب إرسالها له ، وكيف أعادها .
واتصل رئيس المباحث بالمفتي يسأله عن العريضة ، فأجابه إنَّ الشيخ نافع الشامي يشتكي على سيادة المحافظ ، وقد طلب مني مشاركته هذه الشكاية فرفضت توقيعها ، وكان والدي يسمع جواب المفتي لرئيس المباحث ، لقربه من الهاتف ، ثم قرأ رئيس المباحث العريضتين فتعجب واستغرب ، وقال لا شيء فيهما يشوش أو يثير الحفيظة ، وهي عريضة موقعه باسم مرسلها إلى دائرة دولة ، والناس أحرار فيما يكتبون وفي ا لعريضتين الأدب والعلم والدليل على ما يُراد .


وفي هذه اللحظة دخل عليه ضيوفٌ من علماء دمشق ، ولكنّـه استأذن ليذهب بالعريضتين إلى مقابلة المحافظ وخيّـر والدي بين انتظار عودته والتسلّي مع الضيوف وبين الانصراف فاختار البقاء إلى جانب ضيوفه ، وعاد رئيس المباحث بعد ساعةٍ عاشها مع المحافظ في جدالٍ عنيف ، كما اتضح من وجهه وحديثه ، وكانت نتيجة هذه المقابلة أن أمر المحافظ مأمور الأوقاف ، أن يكفَّ يد والدي عن وظائفه الدينية في الخطابة والتدريس ، وأمر مدير المالية أن لا يصرف أمر الصرف لإعانة مدرسته الفتح الأهلية .


ولا يخفى أن انصياع مدير المالية ومدير الأوقاف ، لأمر المحافظ بهذا الشكل لا يجوز قانوناً ، ولكن جُبن الموظف ، واستبداد الكبير ، هو الذي يؤدي إلى مثل هذا التصرف المُخزي .
كانت آخر خطبةٍ خطبها على خشبة منبر الجامع الحمصي ، دوَّت أرجاء المدينة بعبارات تقطر منها العزة الإسلامية والكرامة وجرأة الأحرار .
موقف جرى ضمن زمــن الموقف .
لما تابع الشيخ نافع شكايته على المحافظ إلى مكتب تفتيش الدولة بدمشق ، جاءت هيئة تفتيشية وألغت أمر المحافظ ، بشرب الكحول في الحديقة العامة ، وكان ذلك بالنسبة إلى المحافظ طعنة في كبريائه ، فطاش سهمه .
وصادف وجود معرض للرسم في مدارس مديرية التربية ، فافتتحه المحافظ في مدرسة صلاح الدين الأيوبي ، وألقى كلمةً ، ولم يتمكن من كتم غيظه من الشيخ نافع ، فعرَّج في خطابه ، على أمور التبرّج الذي يدعو إليه ، وذكر مقاومة الشيخ له في ذلك ، وإنكاره عرض الطالبات المتبرجات باسم الفتوّة مكشوفة رؤوسهن ، بادية نحورهن ، محسورة ثيابهن ، فقال : إن بعض المشايخ في هذا البلد لا يروق لهم فرح الناس بأعياد الوحدة فراحوا يقاومونها ، لأنهم يكرهون الوحدة ، فتستروا بالدين في مقاومتها وقالوا إننا نعرض سيقان الفتيات ، وما دروْا أننا نعرض القوة التي كانت خفية ، نحن نعرض قوة النصف الثاني من المجتمع ليراها الناس ، فتقوى معنوياتهم ، ودندن حول هذا المعنى ثم قا ل : إن هؤلاء مخرِّبون ، هؤلاء هم منافقون يجب أن يُداسوا بالنّعال ، يجب أن نقول لهم كما قال سيادة الرئيس جمال عبد الناصر في خطابه :
" عودوا إلى جحوركم أيها المنافقون اخسؤوا أيها المخربون " .


كان هذا الكلام ، قبل عيد الفطر بأسبوع ، وسيمر يوم جمعة ثمَّ يعقبها العيد ، وكان والدي خطيب الجامع الحمصيّ آنذاك ، فأوكل خطبة الجمعة للأستاذ أحمد قطيع حفظه الله ، خوفاً من أن لا يتمالك نفسه ، فيتحدث عن خطاب وموقف المحافظ ، فيضيعُ كلامه سدىً ، لأن المحافظ لا يصلي الجمعة ، ولكنه يُصلي العيد من أجل المراسيم المعتادة ، لذلك انتظر والدي حتى إذا جاء عيد الفطر ، وحضر المحافظ الصلاة ، ارتقى المنبر ، وانطلق تحت عنوان : ( التاريخ يعيد نفسه ) .
فأجمل الخطوط العريضة في غزوة تبوك ، وبيَّـنَ أن الروم غاظهم ظهور دعوة الإسلام ، فحاربوها من الخارج والداخل ، حاربوها من الخارج بحشد الجيوش الجرارة على الحدود ، حيث بلغ ما حشدوه مئة ألف وزيادة ، وحرَّكوا عملاءهم المنافقين من الداخل ، فبنوا مسجد الضرار ، كما سماه الله تعالى ونهاه عن القيام فيه ، وقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم تخييب آمالهم ، فدعا المسلمين للتسلّح والخروج إليهم على الحدود ، ولم يسمح بتخلف أية قوة في سبيل الله ، عن التجهيز لهذه الغزوة ، وكان إذا دعا للغزو يُوَرِّى ، إلا في هذه الغزوة فكان يُصرّح ولا يُوَري ، وقد اجتمع فيها عدة أعسار ، ولذا سميت أيضاً غزوة العسرة ، ورغم الأعسار التي تجمعت فيها ، لم يتخلف عنها سوى ثلاثة أشخاص من المؤمنين ، فعوقبوا بالمقاطعة ونزل فيهم قول الله تعالى :
لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار … الآية ، وكان في ذلك تأديبٌ عظيمٌ لهم .
وإن وضعَ المسلمين إذ ذاك ، في تألّبِ أعدائِهم من الخارج والداخل ، يشبه وضع أمتنا اليوم ، فقد غاظت الوحدة الجزئية بين مصر وسوريه ، أعداء الأمة في الخارج فلم ينوا في سبيل تقسيمها ، بشيء من قواهم التي جندوها لخذل الأمة العربية ، والحيلولة دون تكامل وحدتها ، كما أوعزوا إلى عملائهم في الداخل ، من المنافقين وأعداء الأمة ، أن يخرّبوا هذه الوحدة ، وقد خفى على سيادة الرئيس جمال عبد الناصر بعض هؤلاء المنافقين المخربين من أبناء هذه الأمة ، فوصلوا إلى مراكز حساسةٍ في الدولة واستخدموا سلطتهم في عوامل التخريب ، وأوضح الأمثلة على هذا ما نحسه من استغلال بعض ذوي السلطان أعياد الوحدة لتكريه الناس بهذه الوحدة ، وتبغيضهم بعهدها ، فراحوا يعرضون فيها الطالبات المتبرجات باسم العيد ، ونحن الآن نسألكم معشر المسلمين ، أيُّ واحد منكم يسرّه أن يُعرض عرضه أمام الناس ، ولا شك أنكم تكرهون هذا ، وتبغضون من يفعله أو يفرضه عليكم ، وبذلك تصبح الوحدة بغيضة إلى النفوس ولو علم سيادة الرئيس بهذا الواقع لطرد أولئك المنافقين المخربين من وظائفهم ، ولزجَّهم في غيابات السجون ولأمرَ الناس بنبذهم ، ومن حَقِّ كل مواطن حرٍ أبي مسلم أو غير مسلم ، أن يقول لهؤلاء الخونة كما قال سيادة الرئيس جمال عبد الناصر في خطابه :
ادخلوا في جحوركم يا مخربون فإنّكم انتم المنافقون ، وإنكم تستحقون أن تداسوا بالأقدام والنعال ، لأنكم أعداء الوحدة التي تعبت الأمة كثيراً في تركيزها ، عودوا إلى جحوركم أيها المنافقون ، اخسؤوا أيها المخربون .
ومن أساليب أمثال هؤلاء في التهديم أيضاً ،انتقاص العقلاء والنبلاء والعلماء الأحرار الذين يدركون تهديمهم ، ويحذِّرون الناس من دسهم وكيدهم ومكرهم ، حتى لا يُعارَضوا في محاولاتهم ... فحذار حذار أيتها الأمة من هؤلاء المنافقين الخ ........
وبعد هذه الفصول التي جرت في عهده بمدة يسيره ، وقع الانفصال وأدرك الناس أنَّ من أكبر العوامل في تفتيت تلك الوحدة ، هو الظلــــم الذي قـــام به فسقة الأمـــــة، الذين أوتوا سلطاناً عليها ، وأســـف الجميـــع على فواتـــها .
وإنَّــا لله وإنا إليه راجعون .

 

للاطلاع على الحلقة السابقة اضغط هنا