الشيخ محمد نافع شامي رحمه الله - 8 -



موقـــف مــع أول محافــظ عيـّـن لإدلب في عهــد الوحــدة السوريــة المصريــة :
كانت إدلب تُلِح في مُطالبة الحكومة بجعلها محافظة ، وفي عهدِ الوحدة أُجيب طلبها وتقرر اعتبارها محافظة ، فغمرتها فرحةٌ عظيمةٌ ، وقد أعربتْ عن هذه الفرحة بخروج جماهير عظيمة ، لاستقبال أول محافظٍ توجّه إليها ، وهو السيد عبد الغني جَمَّال ، ويظهرُ أنَّ هذا الاستقبال الرائع ، الذي لم يسبق له نظير إلا للرئيس جمال عبد الناصر حين مرَّ بإدلـب ، أدخَلَ على نفسه العُجْبَ والغرور ، حيث طَمأنت له إدلب كبرياءه .
أما والدي فقد سلّمَ عليه في اليوم الثاني من قدومه ، وكان العقيد " الفتيحّ " من دير الزور ، قد قَدِم إدلب قبله ببضعة أيام لاستلام منصبه ، وهو قيادة شرطة المحافظة .
فلما دخل والدي للسّلام على المحافظ ، كان العقيد " الفتيح " موجوداً في المجلس ، ومعه رجلٌ كان قائمقاماً عندنا ويَعرف والدي مَعرفة طيبة ، وهو " أمين باشا عليوي " فاستقبل هذا الرجل والدي بحـرارة بالغة ، والتزمهُ معانقاً بشكل لفَـت نظر العقيد والمحافظ ، ثم قدَّمـهُ إليهما بعباراتٍ أطـراه بها جداً .
وبعد انتهاء فترة استقبال المُسَلِّمين عليه حكى أمين باشا العليوي الذي كان برفقة العقيد الفتيّح للمحافظ درجة الصِلة والمحبّة بينه وبين والدي ، فاغتنمها والدي فرصة مناسبة ليروي لهما طرفاً من سيرته معه ، فقال موجهاً كلامه للعقيد ، حيث رأى أنَّ المحافظ قد تشاغل بأوراقٍ كانت على مكتبه :
أظنك يا سيادة العقيد – والكلام الآن للوالد - تستغربُ مِنّا هذه الصِلة ، مع تباين المَسلك فهو رجل يتعاطى الخمرة وفي غالب الظنّ أنّه لا يُصلي ، وأنا معروفٌ بتعصّبي الديني ، فمن أين جاءت هذه المحبّة والصِلة ، قال نعم ....!! قلت إليك البيان : رأيتُ فيه الرجلَ المنتصرَ للحقِّ والفضيلة ، وهذا كل ما يَهمّني أن يكونَ عليه الحاكم ، بصرف النظر عن أحواله الشخصية .
فقد كان أمين باشا عندنا قائمقاماً في عهد الشيشكلي ، الذي جعل فيه للقائمقام غير العسكري دورة عسكرية ، ليكون الحكم عسكرياً ، وذات يوم وكان يوم جمعة زارني بعد العصر رجل نصراني موظف في الكتيبة ، حريصٌ على شباب هذه الأمة و أخلاقها ، علمت منه أن ( جوقةَ تياترو ) ترقص في السينما كل ليلة ويرتادها الشباب وأكثرهم من طلاب المدارس والمراهقين ودار السينما تغص بروّادها من هؤلاء ، حتى أنّ قِسماً كبيراً منهم يبقى واقفاً على رجليه لضيق الكان الذي غصَّ بهم وامتلاء المقاعد ، والراقصات شبه عاريات من الثياب بل يلبسن ثياباً من حبال كالتي توضع على أبواب حوانيت الحلاقين ، وتنجابُ هذه الحبال حال الرقص عن مواطن الفتنة من أجسادهن ، وأخبرني أنه مضى على هذه الجوقة ، خمسة عشر يوماً ، وكان يوم السبت عطلة فخرجت صبح الأحد في السابع عشر من الشهر لأقابل قائمقام البلد فوجدت عنده قائد الدرك ولا أذكر اسمه ، ولكنه يُكنى بالزهراوي فتوجهت إلى القائمقام معزياً بعبارة ( عظم الله أجركم ) فرَدَّ علي تعزيتي مستغرباً وتساءل : بأي شيء أُعزيه فقلتُ بوفاة الأمَّة ، فقال : لم أفهم قصدك بعدْ ، فقلت يا أمين باشا : إن الوزارات مؤسسات تقوم على مصالح الرعيَّة ، ولكل وزارة ميزانية تُصرف في سبيل تحقيق غاياتها ، فوزارة التربيـة والتعليم ، التي تضـمُّ جيشاً من المعلمين ، الذين يسهرون على تربية النشء وتعليمه وتقويم أخلاقه ، ويصرفون الأموال الطائلة لأجل الوصول إلى هذه الغاية النبيلة ، نُـقَـوِّض عملهم ، ونَـدكَّ بُنيانهم ، فنفتح مرقصاً لنهدم به كل ما بناه الأساتذة والمخلصون ، أليسَ في هذا موت الأمة .
قال : كذلك لم أفهم أين هو المرقص ، لقد مرت عليَّ رخصة تمثيلٍ فسمحتُ بها ، قلت إنها جوقة رقصٍ ترقصُ كل ليلة من سبعة عشر يوماً ولم تعلم بحالها فالبلية أعظم ، قال اليوم تغلق ، هنا تدخّل قائد الدرك فقال لي بعنجهية وكبرياء ، من قال لك يا أستاذ ، فأجبته بجُرأة وما هو غرضك في ناقل الخبر، المهمُّ معرفة الواقع ، فإن كان ما ذكرته غير صحيح فعليّ إثباته ، وإن كان صحيحاً فلا يهمّك أن تعرف المُخبر ، فأنت رجل مسئول عن الأمن ولك عيونٌ تأتيك بالحوادث الخطرة المعكرة للأمن ، وأنا وكلّ مواطن مسؤول عن الدين والأخلاق ولنا عيون تأتينا بالأخبار الخطيرة على الدين والأخلاق ، فإذا أعلمتني بعيونك أُعلمك بعيوني ، والتعاون في مجالات المخاطر واجب الواعين في الأمة .
فأجاب مع التراجع عن كبريائه قائلاً : صحيحٌ ما ذكرت ولكنْ لم يبق في رخصتهم إلا أيامٌ قليلة ، فقلت له هذا منطق عجيب غريب ، يمكن أن يُسمى بالمنطق المفلوج ، فثار قائلاً كيف ذلك ؟ قلت يستطيع العاقلُ أن يفهم إذا قيل له بقى في عمر الخير دقيقة واحدة بأنه يجب أن تُستوفى ، ولكن إذا قيل له بقي في عمر الشر قليل أو كثير ، وهو قادر على اجتثاثه ، لا يستطيع أن يفهم انتظاره لينتهي أجله المحدد له ، ألسنا قادرين على إلغاء رخصة هذا الشر ، فكرر أمين باشا قوله طيّب اليوم تُلغى .
ثم أراد تحوير الحديث فقال يظهر لي أنْ لا تعارف بينك وبين سيادة القائد " قائد الدرك " ، قلت نعم ، قال ولِمَ ؟ قلتُ : إنَّ قوى الأمنِ لا تحب التعرّف على أمثالي ، لاحتمال أن يُؤمروا باعتقالهم ، فعدم التعرف عليهم يُيسر لهم تنفيذ الأمر ، ويجوز أن يتعرفوا عليهم ، إذا تصاغروا لهم وذلوا بين أيديهم واعتزوا بهم ، وأنا لا أعتز بغير ربي لأنَّ من اعتزَّ بغير الله ذل ، وإذا ما تعرفت على حاكم وعاشرته ، فلكيْ أُعينـه على الإصلاح لا لأرجو قضاءَ مصالحي الخاصة عنده .
قال : بارك الله فيك يا أستاذ ، وعدتُ مرةً ثانيةً لأقولَ إلى أمين باشا : لي رجاء ثانٍ عندك يا أمين باشا قال تفضل ، قلت أنت رجل إداري ، والرجل الإداري يجنح إلى المدارة ويميل نحو الأكثرين ، فيجوز أن يلقاك الكثيرون فيقولون لك لا تستمع لهذا الشيخ الذي لم يراجعك غيره بهذا الشأن ، وهل إدلب إلا كغيرها من مدن سوريا ففي دمشق وحلب وحمص وحماه واللاذقية ودير الزور وغيرها ، توجد هذه الأجواق ولا يعارضها أحد ، وليس حضورها إجبارياً على أحد ، فتميل لإرضاء الأكثرين بحكم وظيفتك ، لذلك أخصّ رجائي بأن تستشعر في أعماق نفسك بأن الذي راجعك بهذا الشأن هو أكبر من الشيخ نافع ، وأكبرُ منك وأكبر من محافظ حلب ومن الوزراء ومن رئيس الجمهورية ، ... اسمه الحــــقّ فإذا استشعرت في نفسك هذا لا ترد على أولئك المعترضين ، فقال طيّب طيّب على الرأس والعيـنْ .
قلت رجاءٌ ثالثٌ وكفى ، فابتسم وقال نعم تفضّل ، قلت أرجو أن تتأكد أنَّ صِفة هذه البلدة محافِظة ، فأكثر أهلها مُتدينون ، لذلك أرجو أن تُغلق دونها أبواب هذه المشاكل ، وهي لك شاكرة ، أدامك الله نصراً للحقّ وللفضيلة ، فقال لك ما تريد ، فودعته شاكراً داعياً له بالخير .
ولكني علمت بعد ذلك ، أن وقعت الواقعة بينه وبين قائد الدرك ، لأنَّ الجوقة كانت تبيتُ عنده في نهاية السّهرة ُ عفا الله عنا وعنه ، ولكن القائمقام نفَّـذَ ما وعدْ ، فأنا من أجلِ ذلك أحبُّ أمين باشا حباً عظيماً ، جزاه الله خيراً على صالح عمله . " انتهى كلام الشيخ " .
بعدئذٍ تَوجّه العقيد ( الفتيّح ) إلى الوالد متسائلاً : ما رأيك في التمثيل ؟ فأجابه باختصار شديد أنَّه لا مانع منه إذا خلا من مظاهر ممنوعة شرعاً ، أما ما اعتاده الناس من التمثيليات المشحونة بالإغواء والإغراء ، والمظاهر المثيرة مما لا يُبيحه الشَّرع ، فغير جائز ، كما لو أراد تمثيل عاقبة خيانة الزوجة ، ومصاحبتها لغير زوجها ، فأظهروا لرواد المسرح ، تآمرها وحبَّها ومداعبتها ومواعيدها ومبادلتها إياه الأشواق والحركات المريبة والقبلات والهمسات والخلوات ، وشهوات السمع والبصر إلى آخر ما هنالك ، فإن مُشاهدة هذه المناظر يُنسي العاقبة .
فلما سمع منه هذا الجواب صمت غير مقتنع فيما يبدو ، أو كأنه أفسح المجال للمحافظ ولكنه لم يتكلم بشيء ، ثم ودعهما باحترام ، وسرعان ما سمع والدي أنَّ المحافظ راح يغتابه في مجالسه الخاصة ، ويصفه بالجمود الفكري ، والرجعية المذمومة ، والتعصب الممقوت ، ثم جاهر بعدائه له .
زاره بعد ذلك مع مدير التربية مرَّةً في مدرسته الخاصة ، زيارة توجيهية ، فتفقَّـد الصفوف ، وانتقدها مرَّةً بصغرها ، وأخرى بقلةِ النُّور ، وثالثةً بقلة النوافذ ، ورابعة بضيق الباحة ، وآخر ما قال عندما خرج الطلاب إلى الباحة ، فرأى الطلاب بين كبير وصغير هؤلاء الطلاب الكبار ، لا يجوز أن يكونوا مع الأطفال الصغار ويجب عزلهم في دار أخرى فقال والدي ، إنَّ هذا لا يتسنّى لي ويصعب عليّ ، ورخصة مدرستي روضة وابتدائي أصلاً .
فقال : المهم إذاً أنْ نجمع دراهم ونضعها في جيبنا ، .... وهنا اعتدل والدي في جلسته وقال له : لقد ظهر لي أنك لا تعرف من أحوال مدرستي شيئاً ، لذلك أصبح لِزاماً علىَّ أن أُعرفك حقيقة هذه المدرسة ، التي يعرفها هذا المدير ، وأشار إلى مدير التربية ، وهو الأستاذ جميل محفوظ ، وذلك من خلال إضبارتها ومسموعاتها وخرِّيجيها .
إنَّ هذه المدرسة فُتحت في عهد الاحتلال الفرنسي في الوقت الذي كانت فيه الحريات مخنوقة ، ولا يَجرؤ المعلم في المدارس الرسمية أن يقول : وَطْ ... نصف كلمة وَطَـنْ فُـتحت هذه المدرسة لتزوِّد النشء بالعلم والدين والخلق المتين ، وتربيته تربية تجعل منه جيلاً يعتز بالله ، ويقوى على حفظ وطنه ، والمطالبة بحقوقه ، ورعاية مصالح أمته ، وليطرد المستعمر من دياره ، ولا أَدلَّ على ذلك من سؤال أساتذة مدارس التجهيز حين يرون تلميذاً أديباً مُجداً فيقولون له : يظهرُ أنك آت من مدرسة الفتح فيجيب التلميذ : نعم اكشفْ إضبارتها ، لتعلم أنها سجّـلت أعلى نسبة في النجاح في فحوص السيرتفيكـا ، وأنها غالباً تسبق المدارس الرسمية التي يُصَبُّ عليها نهرٌ من ذهب ، وآخر ما ألفت نظرك إليه ، أن تسأل دائرة السجل العقاري عما جناه صاحب هذه المدرسة من أملاك من وراء هذه المدرسة ، فإذا ما سألت وعلمت حقيقة هذه المدرسة التي ابتعدت عن استهداف المال وتحاشت المتاجرة بالعلم والتربية ، وأخلصت في عملها ، تُدرك حينئذٍ أنك أخطأت في اتهامك إياها باستهداف جمع المال ، ومع ذلك إذا كانت هذه المدرسة لم تُعجبك فأغلقها . وهنا ، وللتاريخ أقول ، أعجبتني كلمة قالها مدير التربية نفت اقتناعه بما سمعه من اتهامات المحافظ المستبد حيث قال مخاطباً والدي : ومن يجرؤ على إغلاقها أو اتهامها في سلوكها ، إنَّ إضبارتها سجلت أحسن المزايا التي نعتزّ بها ، وإنك مشكورُ العمل والجهود يا أستاذ ، وجزاك الله خيراً .
وبذلك ختم هذا المجلس مع المحافظ فانصرف ولكنّه كان محقوناً وحاقداً .

للاطلاع على الحلقة السابعة اضغط هنا