الشيخ محمد نافع شامي رحمه الله - 7 –

 مواقـــف مشرِّفــــــــــة:
في خلال الحرب العالمية الثانية وقبل أن يحتل الألمان فرنسا ويُخرِّبوا خط (ماجينو) الذي تعبت به فرنسا واعتزّت به وتاهـت به عُجباً وغروراً ، قامت فرنسا بمصادرة السيارات في سوريا لمصلحتها الحربية ، وكان عندنا في إدلب ، مستشار فرنسي أحمق يدعى " هبرار " واقتضتِ مصلحة أهل إدلب أن يُضربوا ، فأصبحنا يوماً وإذا بالحوانيت على اختلاف عملها كلها مغلقة ، فاستدعى المستشار والدي لدائرته وكان من عادته أن يستقبل من يبغي محاسبته واقفاً ليقف معه الشخص المستدعى ، احتقاراً له ، فاستقبله قائماً في وسط الغرفة ، وبعد أن صافحه جلس والدي بدون إذن على الأريكة المحاذية لمنضدته ، فغضب وانفتل على كرسيه فقعدْ ، وقال متسائلاً من الذي عمل الإضراب ، فأجابه والدي لا أدري ، فقال : لقد علِمنا بأنك أنت أوحيت للناس أن يُضربوا ، فهاجمه بغضب قائلاً :
معلوماتك خاطئة ، ونحن علماء المسلمين لا نَكْذب ، فقال : أتدري لماذا أشخصتك عندي ؟ فأجابه ، لا يعلم الغيب إلا الله ، قال : جئتُ بك لأعَرفك أن فرنسا قوية ، وأنتم ضعفاء ، فرنسا مثل جرّة الحديد ، وأنتم مثل جرة الفخار ، وإذا التطمت الجرتان تنكسر جرة الفخار وتبقى جرة الحديد سالمة .
 فأجابه والدي بابتسامةٍ ساخرة : هذا منطقٌ ليس فيه عَجَب ، ولكن المُهم في الموضوع معرفة المتهجم المعتدي ، والاغترار بواقع الحال ليس من شأن العاقل الحكيم ، لأن القويَّ ما وُلد قوياً ، والضعيف لا يبقى ضعيفاً ، ولا يبقى القوي قوياً ، ولقد سبق أن كُنا أقوى منكم ، حيث وصلت جيوشنا إلى قلب فرنسا في جبال البرينيه ، ولكنْ لم نكن معكم ، مثلكم الآن معنا ، إذْ كان قصدنا إنارة قلوبكم بالإيمان ، وعقولكم بالعلم والمعرفة ، بينما قصدكم من احتلال بلادنا ، تنمية اقتصادكم وامتصاص ثرواتنا ، استهدفنا إعزازكم بنشر الحق والفضيلة ، وهدفكم إذلالنا وإفقارنا ونشر الوباء في بلادنا ، فإنَّ أول مندوب جاء إلى بلادنا حاكماً منكم ، هو " ويغاند " قد استجلب عدداً من المومسات الموبوءات بالزهري والسيفلس لينشر الوباء عن طريقهن .
ولما رآى المستشار هبرار أنَّ والدي لا يخاف سطوته ، ألقى الله في قلبه الرعب ، وحسب لاعتقاله في ذلك الظرف ألف حساب ، فبدَّل حديثة ، وغيَّر لهجته ، وتواضع له ، وصرفه وهو يكتمُ الفساد ، وهمس في أذن القائمقام رئيس الحكومة المحلية ، أن يوجِد سبباً يعتقله به ويزجّه في السجن ، ومن المعلوم أن الحكومة المحليَّة لا تُخالف أمر السلطة الفرنسية ، فنزل القائمقام إلى السوق ، وانهال على شخـص يَضـربه ويلكُمـه ، وهو يقـول بصـوت مرتفع : أما كفاكـم ..... تقول للناس بكل وقاحة إنَّ الشيخ نافع يأمركم أن تُضْربوا ، وقَصده أن يُسمع الناس أنَّ الشيخ نافع يدعو إلى إغلاق المدينة ليكون ذلك سبباً يبرر به اعتقاله ، بينما كان والدي خاليَ الذهن ، والشخصُ الذي ضربه واعتقله لا يَعرفه إذا ذاك ، وفعلاً بعث برجال الشرطة واعتقل والدي على غرّة ، وأشاع في الناس بأنه وجد معه أوراقاً تَدينه بأمر خطير ، وأنه يعمل جاهداً لتخفيف وزره ، وبقي في المنفردة في سجن إدلب بضعة عشر يوماً ، لا يسمح له أن يرى النور ، ويوثق الباب بالسلاسل ويوضع فيها عدة إقفال ضخمة ولا يسمح بتكليمه لأحد ، حتى جاءه آخر الأمر المدّعي العام من رجال العدلية ، وكان محباً ومقدراً للرجال الأحرار فأخذ إفادته ، وعلى إثرها أُطلق سراحه ، فخرج من السجن وإذا بجمع غفير من الناس كانوا بانتظـاره ، فسلّمـوا عليه وهنـؤوه بالسلامة وساروا معه إلى بيتـه .
 وفي الطريق تقع دار القائمقام ، فلما بلغوها طلب منه بعض المتوهّمين المخدوعين من وجوه البلد ، أنْ يدخل الدار ليشكر القائمقام ، فانفجر وصاح بصوت عالٍ سمعه القائمقام من بيته لأنه كان واقفاً في باب داره ينتظر مروره ، وكان مما قاله : كيف تطلبون مني أن أسلم على الخائن التافه ، وهو المُطالَب أن يَعتذر مني ويطلب الصفح عن إساءاته ، إنَّ بيته جهنم فكيف أدخله ، ولما سمعه القائمقام يتهجم عليه ، تجاهل ما سمع وخف مسرعاً إلى الشارع يُسلم على والدي بكل تواضع ، ويرجوه أن يشرب عنده فنجان قهوة ، فاعتذر وهو في حال من الغضب الشديد ، ولكن من كان ممسكاً بذراعه غلبوه على أمره ، ومالوا به إلى بيته فامتثل ، ثم استأنف السّير إلى بيته ، وانتهى فصل الرواية  

مواقـــــف مختصــــرة:
1- كان في إدلب محل عمومي للمومسات فأغلق عن طريقه وبمعاونة الأستاذ الشيخ طاهر منلا الكيالي رحمة الله .
2- وكان في إدلب خمَّارة ( مكان مرخّصة لشرب الخمور ) صاحبهـــا مسجل في النفــوس مسلماً ،
  ( وكانت القوانين آنذاك لا تسمح للمسلمين بمزاولة هذه المهنة الرخيصة ) وقد عجز والدي عن إغلاقها في عهد الحكم النيابي الحر- كما يُزعم – وخذله السكِّيـرون من أولى الأمـر ، والمتزلفون لهم ، والخائفون على كراسيهم ، والمدارون لمصالحهـم الخاصة ، وأغراضهم الشخصية ، ومن ينتسبون إلى العلم ، كل هؤلاء لم يُعنَ منهم أحدٌ للأمـر ، فسجل والدي اثنى عشر خطاباً متتابعات ، وجهها إلى نُوَّاب إدلب مناديـــب السلطان ، مع سبع برقيات شديدة اللهجة ، إلى رئيس الجمهوريـة ، ورئيـس الوزراء والمجلس النيابي ، ولو أراد إغلاقها بالقوة والعنف لفَعلْ ، ولكان الأمـر عليه سهـلاً ، ولكنه لا يريد الفوضى ، و لا يدعو إليهـا .
3- مقاومة المنكرات ، كلعب الميسر في المقاهي والبيوت ، والأفلام السينمائية الهابطة ، والمسارح الخليعة ، والمراقص ودور الخنا والفجور ، والمجاهرة بترك الصلاة .
وكان له في مقاومة ما ذُكر مواقف مشهودة ، أذكر منها موقفاً مع القائمقام حيدر مردم باشا الذي افتُتحت في عهده أول سينما في إدلب، وكانت صلته بهذا القائمقام تقوم على النصح له والإشفاق عليه ، وكان يشيد بمدح والدي والثناء عليه ، لِما رآه وعَلِمهُ من جُرأته في الحق وصدقهِ في النُصْح ، وقد عرض على والدي استلام دائرة الأوقاف في إدلب فاشترط عليه لاستلامها ، إطلاق يده في الإصلاح وصدِّ الأئمة والمشايخ ، الذين سيكونون أول الثائرين . فأجاب بعجزِه عن ذلك ، لأنَّ المستعمر هو المسيطر ، لذلك رفض والدي استلامها .
وصادفَ أن عُرض في السينما على عهده فيلم سافل ، فيه رجل يجرد حبيبته من لباسها تجرداً تدريجياً ، حتى كان آخر ما نزعت من ثيابها سروالها وصـاح النـاس كلهـم : ( بَيَّـنْ ، بيّـن ، بيّـن .... ) وعلا الهرج والمرج ، وكان هو وزوجته وبنته ليلى حاضرين في هذا الفيلم . 
كان والدي في زيارة الأستاذ الشيخ طاهر منلا الكيالي صبح جمعةٍ ، ومشايخ إدلب من طلابه متحلقون حوله يروون له هذه القصة ، قصة الفيلم السينمائي وأخذتْهم العصبية الدينية ، وأرادوا أن يكتبوا خطبة حماسية يوزّعونها بأمر الأستاذ الكبير على خطباء المساجد الإحدى عشر ، ولكن ضيق الوقت حملهم على أن يُقرّوا إرجاءها للجمعة المقبلة . 
شاهد والدي وسمع كل ما جرى دون أن يشاركهم الثورة والبحث والتقرير ، ولأنّه كان موكلاً عن خطيب جامع الحمصي في ذلك اليوم ، قرّر في نفسه أن يتناول الموضوع بعدما سمع تفصيله منهم ، وخرج من زيارته إلى المسجد فارتجل خطاباً كان عظيم الوقع في نفوس المصلين ، وما أن انتهت الصلاة حتى خرج صاحب السينما ومالك بنائها إلى المستشار الفرنسي يُعلمه بأن الشيخ محمد نافع شامي ، هيّج الناس ضدَّ السينما ، ودعاهم إلى هدمها ، فاتصل هذا بالقائمقام ، واتصل هذا برئيس المخفر ليُحضر والدي ، فأرسل هذا شرطياً أديباً مهذباً ، خرج إليه ، فرجاه مقابلة رئيس المخفر ، فقال له قد حان الآن وقت راحتي وسأقابله بعد العصر ، فألحّ في رجائه ، مُحتجاً بأن رئيس المخفر يريد السفر ، والأمر يقتضي مقابلته قبل أن يسافر ، فلبس والدي ثيابه وأجابه إلى طلبه ، ولما دخل المخفر استقبله رئيس المخفر السيد حبيب درويش و كان نصرانياً بكل تبجيلٍ و احترام ، وقال له : إنَّ سيادة القائمقام يَطلب مقابلتك ، حيث بلغهُ أنكَ دعوت الناس ضدّ السينما ، ( واستغرب والدي إشخاصه عن طريق الدرك ) .
ولما دخل والدي بيت القائمقام ، ومعه رئيس المخفر ، وجد مأمور الأوقاف الشيخ حسن بركات ، أما القائمقام فكان في حرم الدار ، وأُخبر بمجيئ الشيخ فخرج إليه مقطِّب الوجه ، ودون أن يسلم عليه ويرحب به ، بادره بالسؤال قائلاً :
على أي شيء خطبتَ اليوم ... فقال والدي : على السينما ومفاسدها ، وإذا به يقول كنت احترمك وأقدّرك ، ويُؤسفني أن تكون مُسيّراً بيد الغير ، فقاطعه والدي ، دون أن يسمح له بإكمال مقالته ، قائلاً بغضب وكبرياء : وأنا كنت أحترمك ، وأقدّرك ظناً مِنّي أنك ذكيّ تفهم الرجال ، ولم يَخطر في بالي أن يَمضي عليك في إدلب سنتان ، ولم تعرف من هو الشيخ نافع ، لذلك اسمع أُعَرِّفك من هُو ؟ !!!
 إنه رجل يصدر عن رويّة وتفكير ، وهو يُسيّر غيرَه ولا يُسيرُهُ إلا عِلمه ودينه ، والذي يَسير بوحيِ الغير ، مع شديد الأسف هو أنت لا أنا ، أنت الذي تؤمر فتُطيع .
 واستشاط غيظاً فرفع صوته قائلاً ، يوجد في حلب والشام مشايخ أعلمُ منك ، فلم نسمع بواحدٍ قاوم السينما مثلك ، فأجابه بصوت أرفع من صوته ، وما يدريك أنهم لم يقاوموها ، فقال : لما فُتحـت السينمـا في مصـر كان شيخ الأزهر أول من حضرها ، هو وزوجته وأولاده فأجابه والدي ، هذا خبر يَحتمل الصِّدق والكذب ، وعلى فرض صحته فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عندما بلّغ شريعة ربه للناس ، لم يقل لهم : إني تارك فيكم شيخ الأزهر فاتبعوه ، وإنما قال : إني تارك أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنتي ، ولما رأى نفسه قد ضَعُفَ باطله أمام الحقّ ، قال بلغته العامية : أيْ طيّب الك حريتك فقال له طبعاً إلى أبعد مما تتصور ، ونهض والدي وغادر بيته دون أن يحييه .
ولا أنسى أنه استحضر مأمور الأوقاف ليلومه على فسح المجال لوالدي بالخطبة لأنه غير موظف آنذاك ، وتلعثم المسكين في الجواب حيث أراد أن يقول له : إن مثل الشيخ نافع لا يُنازع في الخطابة ، ولكنه لم يستطع .
كما أنه جعل إشخاص والدي إلى بيته بواسطة رئيس المخفر حبيب شاويش ، وحضور مأمور الأوقاف الشيخ حسن بركات ، لسببٍ واضحٍ بَـيِّن ، وهو أن ينتقل إلى المستشار خبر توبيخه للشيخ نافع ، وما درى المسكين ، أنه باء منه بشرّ توبيخ دوّى في البلد بشكل يرفع الرأس عالياً ، وفيه عزُّ المسلمين وذل المُبطلين .
وأقسم والدي بالله أنّه بعد هذا المجلس ، صار إذا مرَّ به في الطريق ، يَنحني ليُسلم عليه ، فيصدّ والدي عنه .
 بقي أمرٌ لا ينبغي إغفاله وهو أنّه بعد هذا المجلس نشط والدي أكثر ، في التوسع في معايب السينما ومفاسدها ، وفساد من يرتادها من الأكابر والأصاغر، وذلك في جميع مجالس العامة ، وما كان أكثرها وأوفرها حيث لا يمر اجتماع نكاح أو زفاف أو وليمة أو أيّ مناسبة ، إلا وبيَّن وفصّل وعلّم .
أما المشايخ الذين ثاروا الخبر الفيلم السينمائي السّفيه ، وقرروا توزيع خطبةٍ موحّدة في الجمعة المقبلة لتسفيه السينما ، فقد صاموا عن الكلام فيها ، كأن ألسنتهم قد خرست أو قُطعت ...... وهكذا يَهدمُ الإسلامُ أهلُه الذين هم من هذا الطِراز .

الحلقة السابقة اضغط هنا