الشيخ محمد نافع شامي رحمه الله - 6 –

- من المواقف الجريئة :  
كافأت وزارة التربية مدرستة " مدرسة الفتح الأهلية الخاصة " بمعلمٍ من التعليم الرسمي يُندبُ إليها ، ويتقاضى مُرتبه من الدولة ، وقد صـدر القرار الوزاري بذلك ، ولكنه حيلَ بينه وبين التنفيذ ، من قبل المتنفِّذين في مديرية التربية المعروفة بدار المعارف آنذاك ، بدافعٍ من الانتقام ، وتنفيذاً لرغباتِ بعضِ الأهواءِ من الحكّام ، فسافر والدي إلى مكتب الوزيرِ في دمشق ليستقصيَ الأمر ، ويُطالب بتنفيذ مضمون القرار .
 ولما دخل مكتب مدير الوزير ، وكان عنده عددٌ من الحضور ، فسلَّم ومدّ يده بادئاً بمصافحة منْ على يمينه ، انتبهَ إلى أنَّ بين الحضورِ سيّدة ، وكان الجميع قد قاموا لمصافحته فكان لا بد من مصافحتهم .
..... ولكنه سيمر على السيدة ، فإمّا أن يُصافحها ويكسبَ رضا مدير مكتب الوزير ، الذي بيده قضاء أمر معاملته التي جاء من أجلها ، وإما أن لا يُصافحها منتصراً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مُرضياً ربَّه ، فستخجلُ حينئذٍ وسيضطرب القوم ، وسيكون المديرُ في مَوقف مُحرجٍ تجاه ضيفته ، فسيضيق عندئذٍ ذرعاً بهذاً الزائر ، وسيكون غيرَ مُرحّبٍ ولا مَرْغوبٍ فيه ، وعلى الحاجة التي جاء لأجلها السلام .........
كلُّ ذلك دار في خَلَدِه وفِكره ، في تلك اللحظات إلى أنْ وصل إلى السّـيدة التي مدَّت يدها للسّلام عليه ، فما كان منه إلا أن حَيّاها واضعاً يده على صدره مُعتذراً عن المُصافحة ومتابعاً مصافحةَ بقيةِ القَوم . . .
ثم جلس على مقربةٍ من مكتب المدير ، وهو يُلاحظ وجوهَ القوم وتعبيراتهم ، ووجْهَ المدير الذي يَكاد يقطرُ الدمُ منه حُنقاً وضيقاً ، والذي بادره بنبرة شديدةٍ ، ولهجـةٍ قاسيـةٍ : نعم ، ما حاجتك ؟ ..... هنا التفت إليه قائلاً : هيه هيه . . . على رسلك أيها الفاضل ، إلى أن نُطفئ النار التي اشتعلت ! وبعدها أُعلمك حاجتي .... ، ثم بدأ حديثه بوصف ما حَدث ، من عدم مقابلة السيّدة بمدِّ يده لمصافحتها ، مما جعلهـا في حـرجٍ تعدَّى إلى القوم وصاحب الغرفة .
ثمَّ تحدَّث عن المرأة ، كيف كانت تُعامل في الجاهلية ، وماذا كان وزنها وقيمتها ، وكيف أعاد لها الإسلام كرامتها وقيمتها ، حتى أنه منع من مصافحتها حرصا ً على كرامتها ، من أن تمتد إليها أيدي السُّفهاء بالعبثِ واللهوِ بحجة المصافحة والتحية والسلام والاحترامْ ، وامتنعت يدُ أطهر البشر ، ومَنْ لا يُمكن أن يَجرحَ أحدٌ بمدى طهارته ، عن مصافحة المرأة ، سداً للباب الذي يمكن أن يدخل منه السُّفهاء ، للنيل من كرامة المرأة ، فلقد بايع الرسول صلى الله عليه وسلم الرجال ، فشدَّ على أيديهم مُصافحاً ، ولما بايع النساء قال :
" أنا لا أصافح النساء ، إنما قولي لواحدة كقولي لمائة " وذلك إشعاراً منه بقيمة المرأة وأنها تتولى الواحدة منهن التحَدّثَ باسمهن جميعاً . 
وقال عليه السلام : ( لأنْ يُطعن أحدكم في رأسه بمخيطٍ من حديد ، خيرٌ له من أن يمسَّ امرأة لا تحل له ) .
وبذلك كانت المرأة في الإسلام محفوظة الجانب ، مصونةَ الكرامة ، ولذلك فيا أختي ( ووجَّه حديثه إلى السيّدة ) من هذا المنطلق فأنا قد امتنعتُ عن مصافحتك فلا تؤاخذينني . .
هنا وقفت السيدةُ يعلو وجهها الابتسام ، وقد تَملكها الإعجاب والسرور بالحديث - وهنا يلزم أن يُسجَّل هذا الموقف للسيّدات اللواتي فرحْنَ في قبول هذا الحكم - قائلة : ( يسلم تُمّك يا أستاذ ، يسلم تمّك يا أستاذ ... ) وبلهجةٍ فيها الحرقة على ما تُكابده ، كما شعر بذلك كلّ من كان في المجلس ، وتحسسَ مكابدةَ الفتيات اللاتي يتعرضن للفسّاق ، من جرّاء المُصافحة من مهانة ، حين يَعبثون بأيديهنَّ باسم المصافحة ، وهن لا يَملكنَ أن يَقلنَ شيئاً يُحَقّرن فيه ذلك العابث ، لأن معه السِّلاح الذي يُدافع فيه ( وأنّه يحترمُ تلك السيدة فيصافحـها ، ولكنها غير أهل لذلك الاحتـرام ، إذ تُقابلـه بتلك الصفاقـةِ وذلك الموقف اللا مؤدب . . . ) .
عندما انتهى الحديث ، إلى ذلك الموقف الجميل من السّيدة وثنائها على محدّثها ، انفرجت أسارير القوم ومُضيفهمْ، وانبسطَ في وجه والدي وظهرَ عليه السُّرور ، وعندها قال له والدي: أمّا الآن وقد أُطفئت النار التي اشتعلت ، فقل لي الآن " ماذا تُريد " ..... فضحك الرجل ، وسأله حاجتة فذكرها ، فاستغرب عدم التنفيذ ، واتصل بمنْ بيده الأمر واستفصلَ عن سبب التأخير ، وكان شديدَ اللهجة معه حيث وبَّخه وأمره أن يُسارع بالتنفيذ فوراً ، ثم ألتفتَ إلى والدي قائلاً : اذهب إلى مدرستك وسيكون ماأردت من يـوم غَـد ، وخرج معه مودعـاً إلى الباب . 
وهكذا فإن موقفَه الجريءَ هذا في إعلان ماعَرف أنَّه حق ، ارضاءً لله عز وجل ، بعيداً عن الملق والمدارة وإرضاء الناس ، جعل الله يُهيئ له من يُدافع عنه ويعاونه على مطلبه ، وفوق ذلك جعل الهيبة والإجلال والتقدير والإكبار في نفوس من هابهم أول الأمر ، ولكنّ هيبتهم زالت من نفسه عندما ذكر هيبةَ الله الأكبر ، فالله أكبر ، وما سواه لا يستحق أن يكون في مقابلة: الله الأكبر