الشيخ محمد نافع شامي رحمه الله - 5 -

.


 
جمعيـــــة البــــر والأخـــــلاق الإسلاميـــة .
جمعية البِرِّ والأخلاق الإسلامية حلّت محل النادي الذي أُغلق ، وكانت فرعاً لأصلها في حلب ، التي كان يقوم على إدارتها ورعايتها رجال عظماء ، كالمحدّث الشهيد والمؤرخ العالم الشيخ راغب الطبّاخ ، وأعوانه فيها كالشيخ معروف الدواليبي ، والشيخ مصطفى الزرقا ، والشيخ محمد الحكيم ، وغيرهم .
تمّ الترخيص بافتتاح فرعٍ لها في إدلب فقام والدي بها رئيساً ، ومحققاً ما قدر عليه من مفهوم البرّ والأخلاق ، وبعضوية أحد عشر عضواً من خيرة الصالحين في إدلب .
وكان على اتصال دائمٍ برئيس الجمعية الأم في حلب ، الأستاذ الشيخ راغب الطبّاخ ، وأمين سرِّها الشيخ معروف الدواليبي ، ولولبها العلمي الفقيه الشيخ مصطفى الزرقا ، وبقية الأعضاء ، هذه الجمعية في إدلب ، حافظت على صلة الشيخ بجميع طبقات الشعب حيث مكّنته هذه الصِلة ، من التوجيه الدائم نحو الإسلام ، يبثّ تعاليمه فيهم ويُغذّيهم بتوجيهاته نحو العمل الاجتماعي والوطني والسياسي ، ويغرس في نفوسهم حوافزه نحو الخير ، في كافة ميادين الحياة . 
جمعيـــــة الإخـــوان المسلميـــن :
 ولما تأسست هذه الجمعية في دمشق ، كانت إدلب سبّاقة إلى تأليفها وتأسيسها ، وكان والدي رئيسها إلى أن انحلت الجمعيات والأحزاب ، في عهد الوحدة بين مصر وسوريا ، حيثُ أُقفلت رسمياً ، وسُلمت موجودات مركز الإخوان إلى مديرية مالية ادلب ، بموجب ايصالات رسميّةٍ ، واعتزل والدي العمل فيها منذ ذلك الوقت .
وفي غضون حياتها ، تخلّى والدي باختياره عن الرئاسة مرتين ، مرة للسيد عبد القادر معلم مدة سنة ، وأخرى لولده السيد حكمت المعلم مدة سنة .......
وكان تخليه عن الرئاسة بإصرار منه على الإخوان ، تأديباً لهم لأنّه كان غير مرتاح لسلوكهم ، حتى أنّه في مرة ثالثة ، صَمّم على ترك العمل معهم ، وقرر أن يكون عضواً عادياً في الجماعة .
ولكنهم أصرّوا على عودته فاشترط عليهم أن يستحصلوا له من الإدارة العليا في حلب على أن يكون دكتاتورياً مستبداً ، يعمل بدون مجلس إدارة ، فرضوا في إدلب ، ولكن الجماعة في حلب قالوا لهم: لا يمكن أن يكون هذا بشكل رسمي ، وإذا صحَّ هذا عندكم في إدلب ورضيتم ؟ فلا يمكن أن يوجد في بلدة ثانية ، ونحن لا نمانعكم من تطبيقه عندكم ، بالاتفاق فيما بينكم ، ونتيجة لإلحاح الإخوان في إدلب رضي بالمتابعة وسكت . 
واستمرت الجمعية تعمل في إدلب ، ولكن سمعتها كانت أكبر من حقيقتها ، ومهما يكن من أمر فقد حققت الجمعية آنذاك ، كثيراً من الخير المنحصر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتصديق قول الله عز وجل : ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ..… ) الآية. 
ونتيجة للتجارب التي مرَّت علي والدي في جميع أدوار العمل الاجتماعي والسياسي ، أدرك ، أنَّ سرَّ الإخفاق يكمن في جهل الناس بحقيقة دينهم ، وكانت الأهداف السياسية أحياناً ، تضطره للمسايرة والمداراة والسكوت ، عن هفوات العاملين معه في إدلب وغيرها ، وإدخال كل راغب في العمل في جماعة الإخوان بدعوى العمل على إصلاحه ، حيث كان مبدؤها " جمِّع ثمَّ ثقِّف " ، ولكن للأسف لم تكن الجمعية ، مدرسةً تُعلم تعليماً صحيحاً يُربي النشء ، كما لم تكن الهيئة قادرة على إلزام أعضائها وقسرهم على العمل المُرضي ، والذين انتسبوا إليها يقلون ويكثرون حسب الشدّة والرخاء ، وحسب الرغبات والأهواء وملء الفراغ ، فلا علم صحيح ، ولا تربية صحيحة، ولا تضحية محمودة بالمال يُساعد على مشاريع مفيدة ، ولا جامع نفسي يربطهم ببعضهم ربطاً سليماً ، بل كانت جمعية إتعاب للعاملين المخلصين الفاهمين كالمرشد العام وإخوانه ، وكان الشباب يملأون فراغهم في التردد على ناديها ، ولعبهم فيه ، وتسلّيهم في تجمعاتهم لا أكثر ، وبدلاً من أن يمتد الانتفاع من علمهم في أوساط الشعب كافة ، أصبح مقتصراً على جماعة محدودة في عددها وصفتها ، لأنها أخذت صفة سياسية وابتعد الشعب عنها ، خصوصاً حين يُضيّق عليها الحاكم ويلاحقها ، وفي الشعب نزعات حزبية متعددة لا تعدم هذه الأحزاب أن تجد أسباباً للطعن ، والشعب ينظر إليها نظرته إلى حزب من الأحزاب ، وهو دائماً مع القائم ، والشعب لم يقتنع بأن الجماعة تحقق مضمون الآية الكريمة :( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر..... الآية ) .
خصوصاً ومشايخ الشعب كانوا ضد الجماعة ، وناقمين عليها لأغراض شخصية وأسباب نفسية الله أعلم بها ، هذا عدا عن المناوشات التي كانت تنشب بين أفراد الجماعة .
 
وباعتبار والدي من طلاب العلم ، والواجب يقضى أن يكون للشعب كله ، لا لفئة محدودة ، ولثقته بعـدم صــواب مبدأ " جمِّع ثمَّ ثقِّف " ونظراً لإدراكه سرَّ الإخفاق ، والذي هو جهل المسلمين بدينهم ، بدأ يبحث عن طريقٍ تريح نفسه ، وبعد التأمل والتفكير هُديَ إلى الأسباب التي أفقدت الإسلام قوة الدفع لأهله إلى الأمام ، وهي أمور ثلاثة كانت أكبر المخاطر على المسلمين :
وهي : 
" الشرك ، والبدع ، والتقليد الأعمى "
فتوجّه إلى محاربتها ، واستعان بأصول الإسلام كتاباً وسنة ، واستفاد من توجيه الشيخ الجليل محدّث البلاد السورية الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ، والتزم طريق السلف الصالح ، وحاول جُهده أن يتحقق به ، وكان للشيخ ناصر الدين زيارة كل شهرٍ إلى حلب ، فرجاه أن يمر عليه في هذه الزيارة ، فكان يُعرّج على إدلب ، ويبيت فيها ليلة واحدة ثم يواصل سفره إلى دمشق ، وقد استمع الناسُ له في إدلب ، وضاق مشايخها بزيارته هذه ذرعاً ، فناصبوا والدي وإيّاه العداء ، ونعتوا الألبانيَّ بالأميّْ ، كَونه لم يتلقّ تعليمه في جامعة ، وصبّوا جام غضبهم على الشيخ ناصر لأنه غريب ، وقذفوه بالجهل ، ورموه بالضّلال ، وهم في الحقيقة إنما يريدون النيل من والدي ، لأنّ الألباني ينزل عليه ضيفاً كريماً ، ولم يتجرؤوا على شخص والدي ، لعلمهم بأنّ له في البلد شعبية ، فحاولوا انتقاصه من وراء طعنهم في الشيخ المذكور ، واستعانوا عليهما بالحكام وصوروهما لهم ، بأنّهما يُبدلان دينَ الله ويغيرانِ عقائد الناس ، واستغلوا سذاجة بعض الشعب ، ونقمة المحافظ على والدي آنذاك ، ولكنّ الله ردَّ عنهما كيدهم ، ومدّ في الدعوة إلى الله مداً غاظهم وقهرهم ، وأخذ الحقُّ طريقه إلى نفوس الشعب ، غير عابئ بضجيجهم المصطنع ، وكشَفَ حقيقة جهلهم للناس ، وبَوَأَهم مقاعد المنافقين والمخادعين والمفترين ، والحمد لله رب العالمين .  
كيف بدأت معرفته بالشيخ ناصر ؟
كان والدي - رحمه الله - يتردد على دمشق في بداية الستينات بحكم مرض ولده محمد فاتح " رحمه الله "، حيث كان يُعالج في مُستشفى المواساة فإذا وافق وجوده يوم جمعة ، كان يُصلي في مسجد الجامعة ، ولم يكنْ يومها للمسجد خطيبٌ معين ، فكان يَرقى المنبر آنذاك مَنْ يُكلف من الأساتذة والعلماء الحاضرين كالأستاذ عصام العطـار والأستاذ مصطفى السباعي وغيرهما . . . .
وفي مرةٍ جلس والدي ينتظر الخُطبة فإذا برجل هو الشيخ سعيد الطنطاوي يربتُ على كتفه برفق ويشير إلى المنبر قائلاً له : المنبر ينتظرك .... ، فقال له : لقد جئت مستمعاً لا خطيباً وإنّي لمشغول الذهن ، مبلبلُ الفكر ، بسبب مرض ولدي . . . ثم إني لست خطيباً لمثل هذا الميدان ، لمسجد الجامعة الذي يضم طلبة العلم والأساتذة والعلماء والمشايخ ، فأنا أخطب في بلدةٍ صغيرةٍ تُسمى ادلب ، بين ناسٍ بسطاء . . . . فكرر الشيـخ عبارته للمـرة الثانية " المنبر ينتظرك " ، فكان لا بُدَّ من الامتثال لإلحاحه ، فصعدَ المنبر .
وكانت الفترة ما بين الأذان الأول والثاني ، فترة اختيارٍ لموضوع الخطبة التي سيلقيها وقد اختار موضوعها ، فكانت تحت عنوان :
" الإسلام منتصر بعوامل ثلاثة ..... عامل من نفسه ، وعامل من معتنقيه ، وعامل من أعدائه ومناوئيه " .
واستمرت الخُطبة ما يزيد عن ساعة ، كان وقعها في نفوس الحاضرين طيباً ، حتى أن الطلبة الذين هم من إدلب ، ممن كان حاضراً راح يعتزّ على من رآه متأثراً بخطاب الشيخ من الحضور بأنّ هذا شيخنا في إدلب ….....
ولقد كان من بين الحاضرين للخطبة فضيلة الشيخ العلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ، فما كان منه إلا أن سأل عن الخطيب ، وبعث إليه يريد التعرّف به وهو ينتظره في صحن المسجد .
ولكنَّ لفيف الناس حول والدي بعد نزوله من المنبر ، للسلام عليه وطرح الأسئلة ، أخّره قليلاً عن تلبية طلب الألباني الذي كان على - ما قال بعد ذلك - أنه في عجلة من أمره وقد اضطر للخروج ، ولكنه وعد بأن يزوره في إدلب في بداية الشهر القمري التالي .......... وقد بَرَّ بموْعده فعلاً ، وجرى بينهما حوارٌ هادئ استمر مجلساً طويلاً ، لم ينته لدى زيارته الأولى ، فكان أن عاود زيارته ثانية في بداية الشهر القمري الذي تلاه ، ليعود الحوار حول بعض المسائل ، فكان حواراً فيه الخير ، التقى فيه الوالد فكرياً مع الشيخ وتوجّه الوالد إلى المنهج العلميّ الذي كان هو فكره من قبل ، ولكن عائق المذهبية الضيّقة ، والخوف من الخروج على العلماء ، كانا العامل الأساسي في ما كان عليه من تقوقع .
ويجدر بي أن أقول من خلال حكاية الطريقة التي تمّت بها هذه المعرفة ، أنّ الشيخ ناصر يُؤكد بفعله هذا ودأبه على لقاء الدعاة ، ليدلّهم على طريق الدعوة الصحيحة ، حرصه على دين الله والدعوة إليه ، إضافة إلى أنه أثبت أنه مرهف الحسّ قوي الفراسة ، فيمن يُمْكنُ لهم أن يتقبلوا هذه الدعوة الصادقة . . .
كما أحبّ أن أقول: إنَّ قبول والدي ، لِما تفضَّل به الألباني من فكرٍ في الدعوة والتقاءه معه فكرياً من أول مجلس ، لهو دلالة وبرهان لصِفةٍ لصيقةٍ به ، ألا وهي سرعته في العودة إلى الحقّ ، وعدم تحرّجه من الاعتراف به ، سواء جاء من عالمٍ كالألباني ، أو من أيّ إنسان آخر ، حتى ولو كان عامياً ، فالحق أحقُّ أن يُتَّبع .
وعلى ما أذكر فإنَّ أول موضوع بُحث بينه وبين الشيخ الألباني هو أنه لاقضاء للصلاة المفوَّتة عمداً .  
فعلى الرغم من أن الأئمة الأربعة قالوا بها إلا أن الوالد رحمه الله رغم أنه فوجئ بالقول المعارض ، وهو أمر عظيم لمن كان يعتقد أن التمذْهب بمذهبٍ من المذاهب الأربعة أمر واجب ، وأن ندين به أمر لازم ، إلا أنه لم يستطعْ من خلال نظره للأدلة الصحيحة التي كان الألباني يسردها ، أن يردّ قوله ، إضافةً إلى أنّ المنطق السليم يفترض عدم ردها ....
ولكنه بذات الوقت صعب عليه أن يسلّم من أول الأمر فاستمهل الشيخ الألباني للزيارة التالية حتى يجمع له من جعبته ما يَجْبه قوله ، ولكنّه بالنهاية استسلم استسلام العاقل للدليل والبرهان .
وهذا هو الفرق بينه وبين بقية المشايخ ، حيث أنهم كانوا لا يحسبون للبرهان والدليل حساباً ، بمقابل قول إمام مذهبهم أو حتى علمائه المتأخرين ، فكانوا لا يستحون من ردّ الآية ، أو الحديث ، بكلمة قال فلان وقال علان ......... ، وكانوا يشيرون للعوام بقولهم : إنَّ هذا الشيخ يخالف الأئمة الأعلام ويغيِّر الدّين ، ولكن والدي لم يكنْ ليأبه بهم ، أو يهتمّ بأمرهم ، مادام مقتنعاً بأنّه على صواب ، متمثلاً قول الإمام ابن حزم الأندلسي رحمه الله في مدح أئمة المذاهب الأربعة رضي الله عنهم بقوله :


 
عَــلامَ ؟ جَعلتُـمْ أيُّهـا النَّاسُ دينَنـــا ***** لأربعـةٍ لا شَـكَّ فـي فَضْلِهــم عِنــــدي
هُـمُ عُلمـاءُ الدِّيـن شَرْقــاً ومغرِبــاً ***** ونــورُ عُيـون الفَضْـل والحَقِّ والزُّهـدِ
ولكنَّهــم كالنَّــاس ليْـس كَلامُهُـــ ـم ***** دليـلاً ولا تقليـــدُهــمْ فـي غَــدٍ يُجــْدي
ولا زَعـمُـوا حاشَـاهُــمُ أنَّ قَوْلَـهُم ***** دَلـيلٌ فَـيسْتَهـدي بِـه كُـلُّ مَنْ يَـهــــدي
بَلَـى صَرَّحـوا أَنَّـا نُقابِـلُ قَـولَهُـــم ***** إِذا خالـــفَ المَنصـوصَ بالقَـدْحِ والرَّدِّ