الشيخ محمد نافع شامي رحمه الله -1-


تـرجمتهُ وسيرةُ حياته


-1-

 

مقدمة لترجمـة حياة والدي الشيخ محمد نافع شامي " رحمه الله ":


 بداية أحمدُ الله عزَّ و جلَّ ، أنْ يسَّر لي الحديث عن ذلك الانسان الفاضل .. أسأله تعالى أن يُقدّرَني كي أستطيع أن أردّ جُزءاَ صغيراً يسيراً من الجميلِ لمن كان سبب وجودي في هذه الدنيا .. فأذكر جانباً من سيرته وبعضاً من مواقفه , وأبيّن ما خلّفه وراءه من آثار تشهدُ له ، ثم أختم بما قال الناس في رثائه .
سأحدثكم اليوم عن ذلك الرجلِ الذي عَرفتـُموهُ بالعلم والتـُقى والخير والفضل ....
سأحدثكم اليوم عن الميـِّتِ الحيّ .. ...عن والدي ( الشـّــيخ نــــافع الشـــّامـي ) رحمـه اللّه تعالى ، وأسكنه فراديس جنانه ..
فإنّ من أصعبِ الصّعبِ أن نتحدَّثَ عن إنسانٍ لا نعرف عنه شيئاً , وأصعبَ منه أن نتحدث عن إنسان نعرف عنه كل شيءٍ ، فنجمع البحر في قطرة , والروضَ في زهرة ، وذكريات الفقيد في كلمة رثاء .
كنّا نظنّ أنّ حبلنا من ابن الثمانين ونيّف لــــــن ينقطع ؟ ! وما فكّرت أن أقوم يوماً فأَرْثي والدي , وإنْ أنا فعلتُ فمن أينَ أبدأ ؟؟! .. مـــن أيــــن !... وما كنت قد أعددت لهذا المقام كلامـــأ.. 
واسمحوا لي أنْ أبـدأ من النّهاية ..... , لأنّ النّهاية قد تكونُ هي البدايةُ أحياناً .  
كَفّـي فــي كَفـِّه لصيقتـان ، و نَفَسـي في مجال نَفَسـه ، قائمٌ بحـذاءِ رأسـه ، يَحْسَبُنا الرائــي للوهلةِ الأولـى أننا نَتناجـــى ...
الغُرفـة تخلو و تزدحم ، فَمَنْ في دارنا بين صغير و كبيرٍ من أفراد العائلة ، يُطلُّون على الحبيبيْنِ المتناجيين ...
تساؤلاتٌ طفوليةٌ يُبديها الصغار ، تشق حاجز الصمت المطبق على البيت بأكمله بين الحين و الآخر .
هاجسٌ وحيدٌ في لبِّ الجميع ، و سؤالٌ واحدٌ في فكر الجميع و لو فتحت طاقة فيما بين ألبابنا ، و أنشأت جسراً بين أفكارنا ، لا تَّضح لك ذلك ، و لكن لا أحد يَجرؤ أن يُعلن هاجسَه أو يُحرِّك بسؤاله شفتيه .
ننتظرُ مُرغمين وقلوبنا في أيدينا.....لَحْظةً ما يُحبُّ أحدنا أن تَحيـن ، و يدفعُ عمره ثمنـاً – لوكـان بالإمكـان – أن لا تدنو .
تباركتَ يا خالق الجَمال ، و مُصورَ الكمال ... ما زادته الثمانينُ و الأربع من السنين التي أكلت من جسمه و أكلت من حياته إلا بِشْراً يطفحُ على وجهه و إشراقاً يغمره بالنور ، و جمالاً في هيبــةٍ و حسناً في وقار .. 
الأبصار مشدودة إلى جانبٍ واحد ، و القلوب متعلقةٌ بابن الثمانين و نيّف ، صاحب القلب الذي ضم إلى قلبه قلوب من حوله ، وإلى روحه أرواح من هم قطعةٌ منه ، فإذا به قوة تُحيل الكون في قلبه كنزاً من الحُبِّ والرحمة والعاطفة .
هي ذي الساعة الماضية في قدر الله قد أزفت ، و العمر مضى و بقي العمل الذي هو حياتك أيها الذي يمضي مع من مضى ... 
الكلماتُ عاجزة عن التَّعبير في وصف المشاعر التي انتابتني و من حولي حين فاضت روحه الطاهرة إلى بارئها تقطع صلة الجسم بالحياة الأرضية لتصلها بحياة أبدية لا موت فيها ...
ثلاث زفرات متقاربة كأنها نفثات مصدور ينفث بها كرباً و يزيل بها هماً جاثماً ، جاءت عُقيب حرارة و حمى أفرزا على جبينه حبات من العرق الغزير كأنه قطرات الندى على ورقة خضراء في بكرة يوم حار من أيام صيف قائظ .
 وسكن الجسد و هدأ ، و فار التنـّور الذي في صدري، و بدأت صراعاً في لحظةِ خوف لا يطاوعني فيه قلبي أن أصدق ما عقله فكري من المصيبة المتوقعة التي صعب ارتقابها ، من أن الساعة أزفت وانفلت الأمر من اليد ، فكنتُ كمن يحاول نفخ روحي في روحه و أنا أنفخ من نفسي بضمه إلى نفسه ، و كمن يريد نقل نبض قلبي إلى قلبه و أنا أضغط على صدره بحركات تعلمتها لإنقاذ غريق ، و ما علمت إلا مِنْ بعد ، أننا الغرقى ، و هو الذي أرجو أن يكون نجا ... 
رحت أتجرَّعُ الكأس على مَهَلْ ، لأنها كانت أكبرَ منْ أنْ تُساغ بِجُرعةٍ واحدة . 
الساعـة تشيــر إلى الثانيـــة بعد منتصــف الليل ، والليلة ليلــة جمعــة ، و هي ليلة السابــــع و العشرين من شهر رمضان لعام ( 1411 ) هــ . ألفٍ وأربعمائةٍ وإحدى عشرَ للهجرة - الموافق : لليوم الرابع عشر من شهر نيسان لعام ( 1991 ) م . ألفٍ وتسعِ مائة وواحدٍ وتسعينَ للميلاد .
 إنا لله و إنا إليه راجعون
 رحمك الله أيها الوالدُ الحبيب ! ...
فما رأيتك هادئاً مطمئناً كهدأة نفسك و اطمئنانِك آخرَ أيامك...
وبهدأة جسدك أيها الحبيب، تفجَّرت صدور من ضمّهم قلبك الكبير آهاتٍ ونشيجٍ وانهالتِ بالدموعِ المآقي والعيون .
لقد فقدْنا الصَّدْرَ الذي فيه وحده لِينُ الحياة ، لأن فيه قلبكَ و روحـَكَ أيُّهـا الحبيــبُ الفَقيــدْ .
و حانت اللحظة التي يَختطفُ فيها فمُ الأرض تاريخاً في جسد إنسان ، و مشى الناس لينتهوا إلى آخر الطريق ، و مشيت أنا لأنتهي إلى آخر مصيبتي ... لقد أدركتُ آنذاك أن كنزاً حقيقياً أمامنا ماثلٌ سيهالُ عليه التراب بعد لحظات ... هاهنا سَتُخْفي الأرض نجماً تألق ، و تاريخاً سطر صفحاتَه جهادٌ نبيل ، و عملٌ مضيئ ، و انتهى الأمر في هنيهةٍ من الدهر لم تكن عندي من الدهر .
و لكأني حين أنظر إلى تلك الجموع العظيمة في ذلك الميدان الفسيح في ذلكم الموقف الحزين الرهيب أشعر و يشعر كل من وقف ذلك الموقف أن تشييع الفقيد من قِبَلِ هذا الجمع الخليط ، الذي ضم المدينة على اختلاف طبقاتهم و درجاتهم و ثقافاتهم و أعمارهم و درجة مسئولياتهم و مذاهبهم و اتجاهاتهم الفكريــةِ و الدينيــةِ و السياسيةِ و العلميةِ ، إنما يمثل استفتاءً أجمع على رجل تمثلت به الرجولة و الاستقامة و الثبات و النزاهـة و الإخلاص ، فلم يُعرف يوماً بمداهنة أو نفاق ، و لو أراد في حياته أن يلمع اسمُه في سنام منصب أو رفيع مكانة سلطوية ، لما كان عليه في ذلك كثيرَ عناء ، بل إن ذلك قد عرض عليه عرضاً في فرص كثيرة من حياته فما كان منه إلا الرفض و الاستعلاء على المنصب و السلطة و النفوذ و الغنى و الجاه ، و في أوقات كان يعيش فيها عيش الفقراء .
و كان لــسان حاله و مقاله يردد دوماً ، مقالةَ إمامنا الشافعي رحمه الله :
أنا إن عشت لســت أُعـدم قـوتاً و لئن مت لســت أعــدم قبــــــراً .
هـمّتي همة الملوك و نفســــــي نفس حرٍّ ترى المذلـــــة كُفــــراً .
والمقولة الأخرى وأظنها أيضاً للإمام الشافعي حيث يقول : 
علــيَّ ثيـابٌ لو يُباع جميعهـا بفلسٍ لكان الفلس منهنَّ أكثرا .
وفيهنَّ نفسٌ لو تُقاس بمثلها نفوسُ الورى كانتْ أجلَّ وأكبرا .
 
لقد صغرت المدينة فاحتواها الطريق إلى المقبرة ، و عظم الطريق حتى لكأنه المدينة ... 
أسلمناه إلى قبره ليصبح وراء الزمن فلا نصل إليه ، و ليبدأ في رحلة الموت هذه عمراً جديداً غير الذي كنا به نحياه ...
و عدنا من المقبرة إلى الدار لتتدفق جماعات الوافدين إلى حيث اعتادوا من قبل ...إلى غرفة الديوان ، الباب مُشْرع ، وهو كذلك دوماً للزوار والمستفتين ، وأصحاب الحاجات ، و لكنه اليوم مُشْرعٌ لاستقبال المودعين !...
 و لعمري ، بتنا لا ندري أنحن المُعَــزِّينَ أم نحن المُعَــزَّوْن !...
يرحمك الله أيها الرجل الذي قضى فمضى ...
همدت حياتك من جسدك لتحيا في تاريخك الذي هو أخراكَ اليوم . 
وهبت للناس حياتك ، زاهداً بما في أيديهم ، تمدُّ لهم يد العون قدرتك ، فأحبَّك الناس ، و التفوا حولك .
كنت تستخدم السياسة و الحكمة في دعوتك للناس ، تستميل البعيد عن الجادّة حتى ليشعر أنه من المقربين إليك دون غيره ، و ما ذلك إلا لنظرة الحب و العطف و الرحمة التي تحملها لكل الناس تبغي لهم الهداية و الخيـــر  
كم تحملت عداوة الجهلاء ، و سماجة الأجلاف ، و سفاسف السخفاء ، و بلادة الأغبياء ؟!.
آه آه من هذه الدنيا !... فما جمعت إلفين في روضة إلا ليفترقا .
و وُوريَ الميِّتُ الحَيّ ... !...
نعم ...... إنـَّــه الميِّت الحيّ ... 
لقد مات كما يموت كل من جبِِلَّتُهُ الماءُ و الطين ، فما كَتبَ الله لبشر الخُلد ...... " إنك ميت و إنهم ميتون "  
و لكنه لا يزال في مآثره و أعماله حياً في قلوب من عرفوه و خبروه و عايشوه ...