الشيخ محمد علي الدرة - من أعلام النحو في حمص

ولادته ونشأته:

محمد علي بن طه الدرة من مواليد 1926م في قرية تلذهب ( وتشكل مع مجموعة قرى أخرى ما يُسمَّى (الحولة) تابعة لمحافظة حمص ـ سوريا ، ينتسب إلى قبيلة الصبيحات . ودُرَّة : هي جدة والده.

ولد والده ـ طه ـ رحمه الله تعالى ـ في أوائل القرن العشرين، وكان أمياً لأنه نشأ يتيماً فضلاً عن الأحوال الاجتماعية البائسة التي كانت تعيشها البلاد إبان الحرب الأولى حيث الفقر المدقع ، والجهل المطبق، وانتشار الأمية بين السواد الأعظم من الناس ، فلم يكن مدارس ولا جامعات.

دراسته وانشغاله بالزراعة مع أسرته:

كان والده يتحرَّق على أميَّته ، ويتمنى لو رأى ابنه قارئاً كاتباً، وعندما بلغ السادسة من عمره ، دفع به إلى المكتب الموجود في مسجد القرية، حيث الشيخ مرعي الضاهر ـ رحمه الله تعالى ـ وفي أقل من سنة حفظ القرآن الكريم ، على طريقة الكتاتيب المعروفة ، ثم بدأ بتعلُّم الكتابة ـ الخط ـ والتجويد ومبادئ الحساب، ليتخرج بعدها من المكتب، وذلك عام 1937 ، وينخرط بالزراعة مع أهله ، حتى بلغ الثانية والعشرين من عمره.

حادثة غيَّرت مجرى حياته:

سلَّم إليه والده ـ رحمه الله تعالى ـ شؤون البيت والزراعة لما تحتاجه من تدوين حسابات وغير ذلك ، فكان يكلفه بالذهاب إلى المدينة لإحضار طلبات العائلة واحتياجات مصلحة الزراعة، وكان هذا المشوار يحدث مرة واحدة كل سنة نظراً لبعد المدينة وعدم وجود وسائل نقل ، بل كان الذهاب ركوباً على دابة والعودة مشياً على الأقدام، وهذه المشقة تجبره على المبيت في المدينة، فبات ليلة من الليالي من عام 1947م في المدينة عند صديق لهم ( تاجر يسوِّق إنتاجهم الزراعي)، وكان يذهب في صلاة الفجر يومياً إلى المسجد المجاور لمنزل مضيفهم، وبعد صلاة الفجر يجلس في المسجد يتلو القرآن الكريم ، وفي أحد الأيام وبعد أن خرج المصلون أطفئت أنوار المسجد، وظن أنه بمفرده في المسجد، وبدأ برفع صوته بالتلاوة يتغنى ويترنم بالقرآن ، حسب ما تعلمه بالكتاب ظناً منه أنه مُجيد بذلك ، ولكن إمام المسجد كان خلف إحدى سواري المسجد يسمعه دون علم منه، فأتى إليه بهدوء ورفق وقال : « يا بني قراءتك بحاجة إلى تركيز أكثر، وبإمكانك أن تذهب إلى مدرسة للمشايخ في مسجد خالد بن الوليد لتتعلم وتتفقه، ويبدو عليك أنك فيك خير، وأهل لهذا». هذه هي الحادثة التي وجهته إلى طلب العلم، فأثَّر ذلك في نفسه عاد إلى أهله واستأذنهم بالالتحاق بالمعهد العلمي الشرعي في جامع خالد بن الوليد التابع لجمعية العلماء بحمص، وعلم فيما بعد أنَّ ذلك الشيخ الفاضل هو (محمد الياسين) والد الشيخ أبو السعود ـ كبير فقهاء الشافعية في حمص ـ رحم الله الجميع وأجزل لهم الأجر والمثوبة.

دراسته في المعهد الشرعي:

التحق بالمعهد الشرعي بحمص عام 1947م، وعمره اثنان وعشرون عاماً، ووضع في الصف الأول، وبعد فترة وجيزة من الزمن لاحظ الشيخ محمد جنيد ـ رحمه الله تعالى ـ انقباضاً منه، وعدم انسجام مع روح الصف والدراسة، فسأله عن ذلك، فذكر أنه يحسُّ بالخجل من نفسه مع طلاب الصف، فهو شاب وهو صغار، فالتمس الشيخ محمد جنيد ـ رحمه الله تعالى ـ من مدير المعهد آنذاك الشيخ طاهر الرئيس ـ رحمه الله تعالى ـ أن ينقله للصف الثاني، فقال المدير: لكنه لا يعرف النحو والإعراب، فقال الشيخ محمد جنيد : ضعه في الصف الثاني ، وأنا خارج وقت الحصص أدربه على الكتاب الأول يقصد الجزء الأول من السلسلة المعروفة لحفني ناصف بك وزملائه.

دراسته الخاصة عند الشيخ محمد جنيد رحمه الله:

نقل بعد حوالي شهر من انتسابه للمعهد إلى الصف الثاني، والشيخ محمد جنيد يأتي صباحاً يومياً يتلقى منه درسا في النحو قبل الدوام حتى يستطيع مجاراة طلاب الصف الثاني الذين كانوا يدرسون الكتاب الثالث من سلسلة ( كتب حفني ناصف) وانتهى من الكتاب الأول مع الشيخ محمد جنيد ، لكن لا زال الفارق بينه وبين زملائه ( في مستوى النحو) موجوداً، فذكر ذلك للشيخ وصفي حفظه الله وأمد الله في عمره ، فوافق على إعطائه درساً في الكتاب الثاني.

دراسته الخاصة عند الشيخ وصفي مسدي حفظه الله:

كان يذهب إليه في مسجده (جامع القاسمي) يومياً بعد صلاة العصر، فاستفاد منه كثيراً، بل عشق النحو على يديه لأسلوبه الجذاب وتمكَنه العميق، وظهر ذلك عليه أثناء الحصة، حيث بدأ يجبيب الأستاذ في الصف ( الشيخ أحمد كعكة ـ رحمه الله تعالى ـ ) بل ويناقشه فَسُرَّ الشيخ أحمد بذلك، وعندما كان ينفرد بإجابة لا يعرفونها يُوبِّح الشيخ أحمد الطلاب، ويقول لهم: ( يا كذا ... يا كذا.. محمد علي له شهران أو ثلاثة فقط، وأنتم لكم سنتان، وقد أصبح أحسن منكم في الإعراب!!).

فيقولون مُحَرشين: إنه يذهب للشيخ وصفي يومياً ويأخذ درساً.

شدة شغفه بالنحو ورغبته في تحصيله:

ومن شدة شغفه بالنحو ورغبته فيه أنه آلى على نفسه ألا يفوت فرصة يمكن الاستفادة منها من أي شخص إلا واستثمرها ومن ذلك : أن أحد طلاب الصف الثاني ( وكان مكفوف البصر) كان يُحسن الإعراب ، فكان يلتمس منه إعراب كلمة ... إعراب جملة .. إعراب آلة، ويقول له : يا شيخ ديب، علمني الإعراب، وإذا أخطأت فاضربني بالعصا على يدي، فكان أحياناً يبادره بالسؤال، ويتخير مشكلات الإعراب، وإذا أخطأ يضربه فعلاً ويضحكون جميعاً.

تفوقه على أقرانه:

انتهى العام الدراسي ( للصف الثاني) ، وظهرت نتيجة الامتحان، وكان الأول بين زملائه/ وكانت درجة النحو بالذات كاملة، فكان ذلك محل إعجاب المشايخ بل واستغرابهم ، أما زميله ، المكفوف( الشيخ ديب) فجُنَّ جنونه وأخذ يقول: علمته النحو ونال درجة أعلى مني...؟!!.

استفادته من الإجازة الصيفية:

بدأت الإجازة الصيفية، وذهب إلى القرية ليساعد أهله في جَنْي المحصول ، ثم عاد مع بداية العام الدراسي لإكمال الدراسة في الصف الثالث ، وقُرِّر عليهم في النحو ( الكتاب الرابع من سلسلة حفني ناصف الذي منَّ الله عليه بشرحه وإعراب أمثلته وشواهده فيما بعد)، وأيضاً ظهر اهتمامه وتفوُّقه بسائر الدروس وبخاصة في النحو، حيث كانت درجاته فيه دوماً كاملة في جميع الاختبارات الفصلية والنهائية، ونال أيضاً الدرجة الأولى بين زملائه ونجح للصف الرابع، ونقص عدد طلاب الصف، فأعلنت الإدارة أنها ستدمج الصف الرابع مع الخامس بصف واحد لقلَّة العدد بالصفين ، وهنا أدرك أن كتب الصف الخامس ستكون مشكلة أمامه ولن يفهمها فاعتذر لأهله عن الذهاب إليهم بالعطلة الصيفية، ومكث بالمدينة لتحضير منهج الخامس ، وأخذ الدروس المهمة عند المشايخ( النحو والفرائض والبلاغة والمنطق وغير ذلك من الدروس المهمة التي تحتاج إلى أستاذ وشرح وإيضاح) وأكثر المجيء على الشيخ طاهر الرئيس ـ رحمه الله تعالى ـ في الجامع الكبير ليسمع الدروس صباحاً بعد صلاة الفجر يومياً.

حصوله على شهادة المعهد:

ودرس الخامس ونجح فيه بتفوق أيضاً، وحصل على شهادة المعهد وبذلك يكون قد مكث في المعهد ثلاث سنوات فقط، اجتاز خلالها خمس سنوات دراسية.

رؤيا صالحة:

أثناء انتسابه للمعهد الشرعي، رأى رؤيا صالحة ، ذكرها في ترجمته لنفسه فقال: (رأيت نفسي أني في المدينة المنورة ، وسألت عن الحجرة الشريفة، ووقفت عند القبر ورأيته دارساً ، فأخذت أبكي وأقول: يا رسول الله، فإذا بي رأيته قد استيقظ وقعد فأكببتُ عليه أُقبلِّه وأبكي ، قلت: يا رسول الله كيف تجدني ؟ قال: أنت مليح).

فقصَّ رؤياه على الشيخ طاهر الرئيس ـ رحمه الله تعالى ـ فبشره وقال: هذا لك خاصَّة وللناس عامة.

عمله بالإمامة والخطابة في قرية تلعمري ومتابعة دراسته العصرية:

بعد تخرُّجه في المعهد الشرعي عام 1950م، ذهب إلى قرية تلعمري ( شرق مدينة حمص) ليعمل بها إماماً وخطيباً، وبعد سنة من العمل الدعوي هناك تزوج الشيخ الدرة من عائلة معروفة بالتدين مشهورة بالالتزام والتقوى والورع وهم عائلة بيت غزال فكان زواجه عام 1951م.

وكان يحسُّ بوقت فراغ كبير، ففكر في الوظيفة الحكومية لتحسين وضعه المعاشي، ( حيث أن راتب الإمامة كان زهيداً ) ولشغل الفراغ، فألزم نفسه بالدراسة العصرية (دراسة خاصَّة في المنزل والامتحان آخر العام لدى مديرية المعارف)، فحصل على الشهادة الابتدائية عام 1952م (سرتفيكا)، ثم الشهادة المتوسطة 1954م، ثم جهز نفسه لخوض اختبار الثانوية، وفي اللحظة الأخيرة وجد من نفسه عزوفاً، بل صدوداً كبيراً لم يدر تفسيره، وبعد سنين طويلة استشرف السبب، فحمد الله على ما أراد به من خير ووفقه لخدمة كتابه العزيز، وللغة هذا القرآن العظيم، وعدم استغراق الوقت والجهد في الوظيفة الحكومية ، فأقبل على القراءة الذاتية والانكباب على مطالعة أمهات الكتب( في النحو بالذات) قراءةً وحفظَ متون ومنظومات، والاطلاع على الشروح والحواشي، إضافة لفنون العلم الشرعي الأخرى التي لم يهملها، ومكث على ذلك مدة خمسة عشر عاماً تقريباً قبل أن يجلس على مائدة التأليف.

تعيينه مدرساً في المرحلة الابتدائية ثم الإعدادية:

على أنه في آخر سني عمره جاءته الوظيفة الحكومية دون سعي منه، فبعد أن ظهرت بعض إصداراته في النحو، قابله الأستاذ عدنان بغجاتي وزير التربية السوري الأسبق، وأطلعه على باكورة تآليفه (فتح القريب المجيب، إعراب شواهد مغني اللبيب) فسُرَّ به واستصدر قراراً بتعيينه في ملاك وزارة التربية تشجيعاً لجهوده، وحيث أنه لا يحمل أعلى من المتوسطة ، فعُين في المرحلة الابتدائية ، ثم اقترح الأستاذ عبد الوهاب السطلي ( الموجه الاختصاصي للغة العربية بحمص) انتدابه للمرحلة الإعدادية، فوافق الدكتور شاكر الفحام ( وزير التربية آنذاك) على ذلك لدى مقابلته له.

تعيينه مدرساً دينياً:

وبعد ثماني سنوات انتهت علاقته بوزارة التربية لبلوغه السن القانوني، وبدأ بوظيفة جديدة ( مدرس ديني تابع للإفتاء) بتسهيل وخدمة خاصَّة من الأستاذ عزيز أبو اليسر عابدين ـ رحمه الله تعالى ـ ( مدير الإفتاء العام بوزارة الأوقاف السورية) سابقاً، وعمل في هذه الوظيفة النبيلة (الوعظ والإرشاد) التي هي مهمة الأنبياء وواجب العلماء إلى أن أقعده العجز والهرم عن القيام بواجبه، فتقدم باستقالته، وأشار عليه الأستاذ زياد الأيوبي مدير الإفتاء آنذاك بالوزارة ، بالاستمرار قدر طاقته، فاعتذر أن يبقى في عمل يتقاضى راتبه، ولا يؤديه على الوجه الأكمل.

إمامته وخطابته في قرية السنكري ثم في قرية ( زمرين):

بعد مكوثه خمس سنوات في قرية تلعمري 1950 ـ 1955م، انتقل إماماً وخطيباً إلى قرية السنكري شرق حمص بتكليف من جمعية العلماء في حمص لظروف خاصَّة كانت تحيط بتلك القرية، لكن لم يجد من حوله من ينشد العلم أو يستطيع أن يفيد أحداً فضلاً عما اطلع عليه من فساد عقيدة أهلها، مما جعله يبحث عن مكان آخر.

فانتقل إلى قرية (زمرين) في محافظة طرطوس عام 1960م، واستفاد صحياً وعلمياً في هذه القرية، حيث أنها تقع في قمة جبل هواؤها عليل، ومناخها طيب، فزالت عنه بعض الأمراض التي كانت تُصاحبه، واستفاد علمياً بالوعظ والإرشاد، فأهلها طيبون يقبلون الموعظة كما أن شبابها ومعلِّمي المدارس فيها ( عندما رأوا استقامة لسانه في الخطب المنبرية) أدركوا بحسهم أنه ممن يستفاد منه في النحو، فأقبلوا يقرؤون عليه «الشذور» و«المغني» وغيرهما، وحرَّضوه على تعليم أبنائهم، فأخذ يعقد دورات في الصيف في تلاوة القرآن والنحو في مسجد القرية للطلاب، فاستفاد منه جمعٌ غفير. وأثناء وجوده في تلك القرية حدث الانفصال بين سورية ومصر، وصار الشباب المتحمِّسون يتكلمون عن المشايخ ويتهمونهم بتأييد الانفصال، فساءه ذلك، وقرر مغادرة القرية رغم تشبث غالبية أهلها به.

تدريسه في قرية (دير بعلبة) ومشاركته في مسابقة التوظيف بحمص:

أتى إلى قرية (دير بعلبة) القريبة جداً من مدينة حمص عام 1963م، وأخذ في التعليم والإرشاد، فوجد تدخُّلاً في شؤون الوعظ من بعض أهلها ، وأعلنت مديرية أوقاف حمص 1966م عن مسابقة لطلبة العلم لملئ شواغر إمامة وخطابة بالمدينة، ولديه رغبة شديدة بالعودة إلى المدينة منذ زمن، حيث أن المدينة أوسع صدراً لطالب العلم، وفيها يفيد ويستفيد، من خلال لقائه بالعلماء.

إقامته بمدينة حمص وتعيينه إماماً بجامع العنابة:

دخل المسابقة، وكان الأول على جميع المتقدِّمين، وعُيِّن إماماً بجامع العنابة بحمص براتب 90 ليرة سورية فقط عام 1966م، وهو راتب زهيد حتى في ذلك الوقت، حيث أنه عندما ترك دير بعلبة كان مرتبه أعلى مما عُيِّن به في المدينة.

ملازمته للأستاذ الشيخ طاهر الرئيس:

فرح الشيخ محمد علي ـ رحمه الله تعالى ـ بعودته إلى المدينة، وعاد إلى جو العلم والعلماء في لقاءاته بهم في اجتماعات جمعية العلماء، كما عاد إلى أستاذه وشيخه السابق الشيخ طاهر الرئيس، وإلى غرفته المعروفة في الجامع الكبير بحمص التي كانت بمثابة دار الفتوى لأهل حمص.

كان يعقد في تلك الغرفة درس يومي بعد صلاة الفجر يقرأ فيه شرح القسطلاني على البخاري، وشرح المنهاج في الفقه الشافعي، وكان درس علماء، فيه نقاش وأخذ ورد ، يحضره من العلماء: الشيخ أبو السعود، والشيخ عبد الخالق الحصني، والشيخ عبد الكريم بن الشيخ طاهر رحمهم الله تعالى، وكذلك يحضره رجل من كبار التجار، وهو من فقهاء الشافعية المعدودين، هو الحاج عبد الغني السلقيني تبحَّر بالفقه من كثرة ملازمة العلماء .

وقد شهد للشيخ محمد علي الدرة شيخه الشيخ طاهر وولده الشيخ عبد الكريم في غيبته، ونقلها له بعض الإخوان قالا: ما كنا نظن محمد علي هكذا، لقد تعب على نفسه في هذه الفترة الماضية، وبقي الشيخ طاهر ـ رحمه الله تعالى ـ على تقديره واحترامه له، ومما قاله له أكثر من مرة في بيته عندما أقعده المرض والعجز عن الذهاب لغرفته في الجامع الكبير: ( يا محمد علي هذه الغرفة للشافعية في حمص، وهي أمانة في عنقك بعد موتي وكلتك بها) وفعلاً بعد وفاة الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ (في أوائل السبعينيات الميلادية ومن قبله ولده الشيخ عبد الكريم) قام بالاستمرار بالدرس الصباحي، وكان يحضرْ الحاج عبد الغني السلقيني وآخرون إلى عام 1980، حيث اضطر لإيقافه لظروف خارجة عن الإرادة، وإلى الله المشتكى.

تفرغه للقراءة والتحصيل العلمي:

عندما عُيِّن إماماً في جامع العنابة بحمص ، بقيت عائلته في دير بعلبة بعدياً عن الجامع ( لعدم قدرته على استئجار بيت في حمص) فأقام في غرفة صغيرة تابعة للمسجد، وانقطع عن الناس حتى عن أسرته، فكان لا يذهب إلى البيت إلا مرة أو مرتين في الأسبوع ، وكان ابنه محمد بشير، بسنِّ المراهقة يأتيه بالطعام يومياً من البيت في دير بعلبة، فكانت فرصة مكملة للتفرغ للعلم والمطالعة.

تدريسه كتاب مغني اللبيب:

في صيف عام 1968م حضر إليه طالب جامعي( قسم اللغة العربية) يرغب بقراءة أبحاث من ( مغني اللبيب) مقررة عليه في الجامعة ، ومساعدته في ذلك وقال له: ذُكرتَ لي بخير في النحو، وأُرشدت إليك للاستفادة منك.

بدأ بالقراءة معه، وبعد مدة ظهر عليه الفهم والاستفادة ، حيث كان يقف به عند الشاهد الشعري كثيرا إعراباً وتمحيصاً وموضع الاستشهاد ، فسرَّ بذلك وقال: ( ليت هذا الشيء الذي تقوله إليَّ يطبع لينتفع به عموم الطلاب) ومن هنا ابتدأت فكرة التأليف عنده.

بدء عمله في إعراب شواهد مغني اللبيب:

استخار الله سبحانه لذلك، وبدأ الكتابة في ( إعراب شواهد مغني اللبيب) ، وكانت خطته في الكتابة أن يقدِّم بحثاً موجزاً عن كل أداة من الأدوات التي بحث فيها ابن هشام وفصَّل الكلام فيها، ثم يبدأ بشواهد كل أداة، وفق ترتيب المصنف بأن يعزو الشاهد لقائله بعد البحث والتمحيص في الدواوين وكتب الأدب، ثم يشرح معاني الكلمات الغربية من كتب اللغة، وإذا كان من قصة أدبية مرافقة للبيت ذكرها ترويحاً عن نفس القارئ وتشويقاً له، ثم يبدأ بالإعراب التفصيلي للبيت مع تقليب وجوه الألفاظ، إن وجدت ، ثم يعود لتثبيت موضع الاستشهاد في البيت.

وهذه كانت خطته في جميع الشواهد التي أعربها فيما بعد، كشواهد جامع الدروس العربية، وشواهد همع الهوامع.

وكان يجلس ما يقرب من اثنتي عشرة ساعة يومياً على طاولة الكتابة (للظروف المساعدة التي ذكرناها سابقاً).

مراجعة عمله من الأستاذين: الدرويش والفاخوري:

التمس من يُراجع له ما كتب، لأن دخوله ميدان التأليف جديد، وكان متهيباً من ذلك، فعرض ذلك على بعض المشايخ الفضلاء في حمص، فاعتذروا لظروفهم وقلة فراغهم، فأُرشد إلى شخص معروف في حمص بطول باعه في النحو هو الأستاذ محيي الدين الدرويش، فأعطاه كراساً من المخطوط رجاء مراجعته وإبداء رأيه ، على أن يعود إليه بعد أسبوع فوافق.

عاد إليه بعد أسبوع فقابله باحترام شديد بل وبدهشة، خرج إلى باب داره يستقبله، وهو يقول: حيَّاك الله ، حياك الله، ما حسبتك كتبت مثل هذا.

تكرر اللقاء مع الأستاذ الدرويش، وكان يجري الحوار والنقاش، واستفاد منه، لكن لمس منه عجلة، كما لاحظ منه اعتداداً برأيه فوق العادة، فقد يرى نفسه فوق سيبويه والخليل ـ أحياناً ـ.

انتابه قلق من أن تفوته بعض القضايا دون مراجعة لعجلته، فبحث عن مراجع آخر فأُرشد إلى الأستاذ رفيق الفاخوري، ومن عادته الجلوس مع بعض أقرانه الأدباء في مقهى محدد يومياً، فذهب إليه في المقهى ، وانتحى به جانباً، وذكر له صلته بالأستاذ الدرويش ومراجعته، وقال له: ذُكرت لي بخير وأريد أن أتيقَّن منك. فقال ـ رحمه الله تعالى ـ : أعتذر عن المراجعة الكاملة، لأن الكتاب ضخم، ولكن إذا كان من مشكلات فنتعاون على تذليلها، فكان يتردَّد عليه في المقهى ويجلس معه في إحدى نواحيه، يعرض عليه الأمور التي تحتاج إلى نقاش. وانتهى من كتابة الجزء الأول بعد سنة تقريباً، وتعثرت طباعته،وطبع بعد سنتين من صدور الجزء الأول الكتاب بكامله، في أربعة أجزاء ، ثم أعيد طبعه أكثر من مرة.

شرح قواعد اللغة العربية:

بعد صدور«فتح القريب المجيب» التمس منه بعض من يتصل به أن يشرح الكتاب الرابع من مجموعة كتب حفني ناصف بك، وزملائه المسمَّى ( قواعد اللغة العربية) فشرحه وأعرب أمثلته وشواهده، ولقي رواجاً وطُبع عدة طبعات، وكان الأستاذ رفيق الفاخوري يقول له عنه: قبل شرحه له إعجاباً به: كتاب القواعد) برقيات، أي : لاختصاره واحتوائه على المعاني الكثيرة بألفاظ موجزة.

إعراب شواهد : «جامع الدروس العربية»:

ثم شرع في إعراب «شواهد جامع الدروس العربية» للشيخ الغلاييني ـ رحمه الله تعالى ـ لما لمس من فائدة هذا الكتاب ، فقلما يستغني عنه طالب العلم في مكتبته ، فصدر في مجلدين باسم:«فتح رب البرية ، إعراب شواهد جامع الدروس العربية».

فتح الكبير المتعال إعراب المعلقات العشر الطوال:

بعد ذلك ، بدأ في إعراب المعلقات العشر الطوال، واستغرق ذلك منه زمناً كما أنه لم يعثر على ناشر ينشره لغاية 1984م، حيث قامت مكتبة الرازي بدمشق بطبعه ونشره في مجلد ضخم، ثم قامت مكتبة السوادي بجدة بإعادة طبعه ثانية في مجلدين.

إعراب شواهد «همع الهوامع»:

ثم قام بإعراب شواهد «همع الهوامع» للسيوطي، ولا زال عنده مخطوطاً لم يطبع .

سبب توجهه لإعراب القرآن الكريم:

عندما بدأ بإعراب «شواهد مغني اللبيب» كانت بين يديه طبعة للمغني بتحقيق العلامة المتفنِّن المعروف صاحب الأيادي البيضاء على طلبة النحو وعلى كتب التراث، الأستاذ محمد محيي الدين عبد الحميد ـ رحمه الله تعالى ـ ، وقد ذكر في مقدمة التحقيق أنه ( شرح مغني اللبيب ، وفعل به ما فعل بأوضح المسالك، والقطر والشذور حتى أصبح أربع مجلدات ضخام، وعرضه على الناشرين فأبوا لكثرة تكاليفه وقلة طلابه، فعندما بدأ بإصدار الأجزاء من إعراب شواهد المغني وكان الشيخ عبد المولى الأتاسي حفظه الله يدرس بالأزهر، كلفه بإيصال نسخة من عمله لفضيلة الشيخ عبد الحميد حتى يعلم ما صنع ، فأفاد الشيخ عبد المولى أن الشيخ محيي الدين عبد الحميد سرَّ كثيراً بعمله، وقال: ليته أيضاً يتولى إعراب الآيات الموجودة في مغني اللبيب، فوضعته هذي الكلمة أمام مشروع إعراب القرآن بكامله، لأن ابن هشام ـ رحمه الله تعالى ـ يثبت من الآية موضع الاستشهاد فقط، ولن يُستطيع أن يستوفي هذا المقطع من الآية حقه من الإعراب إلا إذا أُتي على إعراب الآية بكاملها تقريباً لتعليق جار ومجرور أو ظرف أو عطف كلمة وغير ذلك، وهذا معناه إعراب معظم آيات الكتاب الكريم، فوضع نصب عينيه مشروع إعراب كامل القرآن.

تنفيذ المشروع الكبير:

في عام 1981م صمَّم على تنفيذ أكبر مشروع في حياته يعدُّه ذخراً لنفسه عند الله عزوجل بخدمة كتابه العزيز(إعراب القرآن الكريم وتفسيره)، وتوسع بالتفسير ليساعد على فهم المعنى، كما قدَّم وجوه الإعراب الممكنة لكل كلمة وبخاصة عند تعدد وجوه القراءات التي تنتج وجوهاً إعرابية متعددة.

صدور كتاب «تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه»:

صدر إعراب القرآن الكريم وتفسيره في ستة عشر مجلداً( نشر دار الحكمة بدمشق) ولقي استحساناً كبيراً وثناء عاطراً وقبولاً لدى أهل العلم، وقد اعتمدته ( مكتبة لبنان) فيما بعد كأحد المراجع لإصدار( معجم إعراب القرآن الكريم) الذي قدم له فضيلة شيخ الأزهر.

ثناء العلماء عليه :

قال العلامة الشيخ أحمد كعكة رحمه الله : يجب أن يكون عندنا من يختص بدراسة الدكتوراه والماجستير في اللغة العربية ، ويشرف عليهم الشيخ محمد علي طه الدرة ، بل يمنح أصحابها درجة الدكتوراه.

- وقال الشيخ عزت عبيد الدعاس رحمه الله: الشيخ محمد علي طه الدرة سيبويه عصره

- أما الشيخ محمود جنيد رحمه الله تعالى فقد أوصى أولاده وطلابه بمتابعة وملازمة الشيخ الدرة وأثنى عليه بالخير.

- ووصف الدكتور مروان عطية إعرابه وتفسيره للقرآن بالجودة والإتقان والروعة و الموسوعية

صفات الشيخ وأخلاقه:

كان الشيخ ربعة من القوم ، حنطي البشرة ، تامّ الخِلقة ، نحيف الجسم كان صادحاًَ بالحق لا يخشى لومة لائم كما أنه كان من ذوي الهمم العالية والورع الشديد ، كان لاينقطع عن درس له أبدا صيفاً أو شتاءً ومن صفاته لين الجانب والتواضع الجم والبعد عن طلب الشهرة كما أنه كان كثير الإنفاق في طريق الخيرات ، كثير البذل لا يرد من يسأله وكان كريماً جواداً سخياً بيته مقصد للرواد والزوار من شتى بقاع العالم

وفاته:

توفي ـ رحمه الله تعالى ـ ظهر الأربعاء 25 ذي القعدة 1428، وهو ممتع بعقله، إذ قدم له حفيده محمد نور الفطور، وقال : جلسوني، ثم تشهد ثلاث مرات، وأسلم روحه لبارئها، وقد صلي عليه بعد ظهر يوم الخميس، 26/11/1428،الموافق 5/12/2007 في جامع خالد بن الوليد رضي الله عنه بحمص، وقد غصَّ المسجد وساحاته بالمصلين ،وألقيت كلمات في تأبين الشيخ رحمه الله، كان من أبرزها تأبين الشيخ إسماعيل المجذوب حفظه الله الذي أشار في كلمته إلى حياة الشيخ العلمية، وبُعده عن طلب الشهرة ودأبه في تحصيل العلم. ودفن بمقبرة حمص: تل النصر ـ رحمه الله تعالى ـ وأثابه رضاه، وجزاه عن العلم وخدمته خير الجزاء.

وقد ألقى الشيخ زكريا رحال رحمه الله في تأبين قالشيخ صيدة عنوانها : (رحيل الدرة) منها قوله:

يا خادم القرآن عذراً ما أتت * كلماتنا بالمدح من قبل الرحيل

يا خادم القرآن آن لمثلكم * أن يستريح وقد مشى درباً طويل

يا خادم القرآن حسبك أنه * لازال علمك في الورى نعم الدليل

يا سيدي الجُمل التي أعربتها * تبكيك تبكي ماضياً معكم جميل

يا سيدي حزنا وقد حكم القضاء * بأن تكون اليوم في الأخرى نزيل

نبكيك أم نبكي عل تقصيرنا * في شكركم يا سيدي الشكر الجزيل

أحسنت كم أحسنت في أجيالنا * لغةً وعلماً نافعاً يشفي العليل 

يا سيدي أبصرت باسمك حكمةً * قدسية لمعت لأرباب العقول

فمحمدٌ وعلي طه درةٌ * في عالم القرآن قد لقي القبول

بذل العلوم تكرماً ومحبةً * مر الزمان ولم يكن أبداً بخيل

واحسرتاه عليه درة عصره * أعطى الكثير وما رأى إلا القليل

إن لم نحط بمقامكم علماً * وأنتم في الحياة فحسبنا نعم الوكيل

واليوم جئنا لا لنطلب علمكم * يا سيدي أسفاً عل العلم الجليل

لكننا يا سيدي جئنا نودع * عالماً في غربةٍ عبر السبيل.

اختصرت هذه الترجمة في 1/1/1429

من ترجمة ذاتية كتبها الأستاذ محمد علي الدرة لنفسه.

ثم أعدت النظر فيها وأضفت إليها بعض الفوائد في 1/ 9/ 1439