الشيخ محمد بن حماد الصقلي الحسيني

فضيلة العلامة سيدي محمد بن حماد الصقلي رحمه الله أحد علماء القرويين، ومن أبناء مدينة فاس الذين بذلوا وسعهم لتوعية العامة والخاصة.

 ولادته ونشأته : 

ولد رحمة الله عليه بدرب القبول الكائن بأعلى حومة القطانين، وذلك سنة 1349هـ. 1930م، ونشأ في أحضان أسرة من البيت النبوي الشريف.

  وفي السنة الرابعة من عمره، التحق بـ"المسيد" الكائن بسيدي موسى من حومة كرنيز، وبدأ حفظ القرآن الكريم برواية الإمام ورش على يد الفقيه  محمد التدلاوي، وكان العمل جاريا بالكتاتيب القرآنية آنداك على حفظ المتون بموازاة حفظ القرآن الكريم، فحفظ المترجم الجزرية، والأجرومية، وألفية ابن مالك، ولامية الأفعال، والبيقونية في مصطلح الحديث، وبعضا من متن الشيخ خليل. 

 

 مراحل دراسته : 

فقد بصره في السنة السابعة من عمره، لكنه ذلك لم يمنعه من متابعة دراسته، بل استمر في اجتهاده وتألقه الدراسي. 

ولما بلغ الحادية عشر من عمره أتمَّ حفظ القرآن الكريم، فالتحق بمدرسة ابن غازي الابتدائية الحرة فأغنته دراسته بها لمدة ثلاث سنوات عن الالتحاق بالمرحلة الابتدائية لجامع القرويين، والتحق مباشرة بالمرحلة الأولى من الثانوي بها، وفيها وجد ضالته المنشودة، حيث أقبل على تعاطي العلوم الشرعية، وكانت مدة الدراسة بجامع القرويين هي أزهر فترات عمره وأغناها، فأقبل على العلم، ولم يكن فقْدُ بصره ليثني من عزمه عن الجِدِّ والاجتهاد برفقة النجباء من رفقائه في الدراسة الذين كان يلازمهم، ليسمع معهم قراءاتهم، ويشاركهم في مذاكراتهم ومناقشاتهم العلمية.

 إنشاء مؤسسة محمد الخامس لإنقاذ الضرير:

 ونظرا لما أفرزته معاناته مع طلب العلم بسبب كف البصر، أخذ يفكر في وسيلة لتخفيف العبء عن أمثاله من فاقدي البصر الذين يرجون تعاطي العلم فعمل مع ثلة من الغيورين على إنشاء مؤسسة محمد الخامس لإنقاذ الضرير فكانت هذه المؤسسة فضاء يلجأ إليه الكثير ممن نوّر الله بصيرتهم، وإن ذهب بنور بصرهم، منهم من يتعلم العلم، ومنهم من يتعاطى الحرف والصنائع، وحرصا منه على جلب وسائل لتيسير القراءة على هؤلاء سافر المترجم إلى باريس فتعلم طريقة (برايلن)  لتمكين المكفوفين من وسيلة تعلم الكتابة، واغتنم فرصة وجوده في باريس فسجل نفسه بكلية الحقوق بجامعة السربون، وزهد في متابعة الدراسة، رغبة منه في العودة إلى بلده للإشراف على مؤسسة محمد الخامس لإنقاد الضرير التي أنشأها بفاس.

 شيوخه : 

تتلمذ الشيخ محمد بن حماد على  يد السيد العربي الشامي، ومحمد بن إبراهيم، والشيخ محمد بن عبد القادر الصقلي... 

ومن شيوخه أيضا: الشيخ الرحالي الفاروقي، والشيخ عبدالعزيز ابن شيخ الجماعة الشيخ أحمد بن الخياط الزكاري، والشيخ محمد الفاضل بن عاشور، والشيخ الجواد الصقلي،والزعيم علال الفاسي، والعلامة محمد الناصر الكتاني... وغيرهم رحمهم الله تعالى.

مؤلفاته: 

 للمترجم كتابات في مختلف فنون العلم، منها في السيرة النبوية، والنسب الشريف والاحتفال بالمولد، وجل ما يتعلق بحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم من المولد إلى الهجرة، وله تأليف بعنوان " الدين والنبوة وحاجة البشر إليهما" .

وله محاضرات في أصول الفقه، وله أيضا "مجالات التبيين عند خاتم المرسلين" جعله مقدمة لتفسير سورة المجادلة، وله تفسير بعض سورة آل عمران، وله في الحديث شرح ألفية السيوطي في المصطلح لم يتم.

نشاطه العلمي : 

 كما أن له مساهمات في الدروس الحسنية منذ  انطلاقتها، وله أيضا مشاركة في التثقيف والتنوير والتوعية الدينية من خلال خطبة الجمعة، وقد عين خطيبا بمسجد الديوان بظهير السلطان محمد الخامس، وله برامج استمر بعضها مدة ليست بالقصيرة على أمواج إذاعة فاس، منها برنامج: "نصوص وهوامش" ، وعلى شاشة التلفزة برنامج "ركن المفتي" كما شارك في عدة ندوات إذاعية ومتلفزة.

 

 تكريمه : 

وتقديرا لجهوده في خدمة العلم وعطاءاته العلمية منح وسام الكفاءة الفكرية وووسام العرش من درجة فارس، ووسام العرش من درجة ضابط.

 وفاته: 

 توفي - رحمه الله - بمدينة فاس صباح الأربعاء 28 من ذي القعدة 1437 الموافق 31 أغسطس 2016 رحمه الله تعالى عن 86 عاما . 

رثاؤه : 

  

 وقالت المنظمة الإسلامية  للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو): إن الفقيد " يُعدُّ من أشهر علماء المغرب والعالم الإسلامي في العصر الحديث، ومن أبرز علماء القرويين الذين أغنوا المكتبة الإسلامية بمؤلفات وتحقيقات متميزة في أصول الفقه وتفسير القرآن الكريم . كما شارك في مؤتمرات وندوات متخصصة داخل المغرب وخارجه، وكانت له مساهمات قيمة في الدروس الحسنية الرمضانية، وفي التثقيف والتنوير والتوعية الدينية من خلال خطب الجمعة، والمشاركة في عدد من البرامج الإذاعية والتلفزيونية بالمغرب".

 وقال الدكتور عبدالعزيز بن عثمان التويجري المدير العام للمنظمة الإسلامية  للتربية والعلوم والثقافة ( إيسيسكو) " لقد فقد  المغرب والعالم الإسلامي عالماً موسوعياً وفقيها متبحراً وباحثاً مجيداً، غفر الله له وجزاه عن دينه وأمته خير الجزاء، وأسكنه فسيح جناته، وألهم أهله وتلامذته ومحبيه الصبر والسلوان. وإنا لله وإنا إليه راجعون". 

كتب تلميذه الأخ الكريم د. الناجي لمين :

شيخي سيدي محمد بن حماد الصقلي في ذمة الله   سيدي محمد بن حماد من شيوخي الذين درست عليهم بمؤسسة دار الحديث الحسنية في السنة النهائية من التخرج، كان ذلك على ما أذكر في سنة 1992، درسنا مادة مصطلح الحديث، وكان الكتاب المقرر هو : شرح الترمسي على ألفية السيوطي في المصطلح. ولا أذكر هل هو الذي اختارني لأسرد من الكتاب أو أنا الذي اقترحت نفسي. 

وكان يتميز في شرحه عن باقي أساذتنا الأجلاء بالحفاظ على استثمار علم المنطق في بيان العلاقة بين المصطلحات والقضايا العلمية، فكثيرا ما كان يردد العبارتين الآتيتين "بينهما عموم وخصوص من وجه"، و"بينهما عموم وخصوص مطلق".

 وفي أحد الايام أسر الي احد الطلبة النجباء بأنه لا يفهم كثيرا من القضايا في درس الشيخ ابن حماد، فقلت له إنه يستثمر علما اندرس أو كاد يندرس من مجالس الدرس في المغرب وهو علم المنطق.

 كان آخر درس في تلك السنة هو شرحه المستفيض لقول السيوطي متحدثا عن البخاري ومسلم وصحيحيهما:

 "وانتقدوا عليهما يسيرا **** فكم ترى نحوهما نصيرا".

 وجلب الامثلة من مقدمة فتح الباري، وهيأ الدرس على غير غرار ما هيأ به الدروس السابقة، فظهر لي أنه سيكون سؤال الاختبار، فتهيأت له. 

وكذلك كان الشيخ سيدي ابن حماد رجل كريم في بيته متواضع مع أهله، استضافني أنا والزوجة في نهاية تلك السنة المذكورة، وأكرمنا غاية الاكرام، وبينه وبين زوجته الفاضلة تفاهم عجيب ومودة كبيرة، رأيت ذلك بأم عيني.

 ومن ذكرياتي معه في ذلك اليوم: أننا خرجنا لأداء صلاة الجمعة، وكان الخطيب قد تناول موضوع مناسك الحج، على عادة خطباء الجمعة في أشهر الحج. وعندما رجعنا قال لزوجته ما معناه: الخطيب ألقى اليوم خطبة جامعة مانعة، فقلت له: نعم سيدي، ولخصها من شرح ميارة، وقال بكل تواضع: صحيح.  رحم الله شيخي وسيدي ابن حماد وأكرم نزله. امين.

وكتب الأخ الناجي أيضا : 

محمد بن حماد الصقلي العالم الأديب:

توفي مساء أمس الأربعاء العالم الجليل الأديب شيخنا سيدي محمد بن حماد الصقلي الفاسي عن عمر ناهز ستا وثمانين سنة.

التحق الفقيد منذ نعومة أظفاره بجامع القرويين بفاس، فنور الله بصيرته وإن كان لا يرى بعينيه، حيث أتقن العلوم الشرعية واللغوية التي كانت تدرس بالجامع. ثم التحق بمؤسسة دار الحديث الحسنية للدراسات الإسلامية العليا بالرباط فتخرج منها، ثم أصبح من أساتذتها.

نشاطه العلمي كان بالمغرب كبيرا ومفيدا. وكان من العلماء الذين يؤطرون برنامج ركن المفتي الذي كان يذاع بالقناة الرسمية. كما عرف بدروسه القيمة وقصائده الشعرية التي كان يلقيها أمام جلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله بشهر رمضان. 

ومازلت أذكر أنه ألقى في أحد ايام رمضان درسا حسنيا ثم طلب منه جلالة الملك أن يلقي درسا آخر.

 واشتهر بالكتابة في السيرة النبوية، كما اشتهر ببلاغته وفصاحته، وبتأثره بعلم المنطق في تناول القضايا العلمية.

رحم الله الفقيد وعزاؤنا لزوجته العالمة الفاضلة الدكتورة نعيمة بنيس ولأولاده وأحبابه.

 وبشر الصابرين الذين اذا اصابتهم مصيبة قالوا: إنا لله وانا اليه راجعون اولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة واولئك هم المهتدون.

 

   وكتب الأخ الكريم د. حمزة الكتاني :

بلغني اليوم نعي مجيزنا علامة فاس، الفقيه الأديب المشارك؛ الشريف محمد بن حماد الصقلي الحسيني، الذي وافته المنية في مصيفه اليوم بعد طول معاناة من المرض.  

 يعتبر شيخنا المذكور من أبرز علماء فاس الأحياء، أخذ عن كبار مشيختها في جامع القرويين ملأه الله بذكره، ثم التحق بدار الحديث الحسنية بالرباط، وأخذ عن مشيختها؛ كعلال الفاسي ومحمد الناصر الكتاني الذين يروي عنهما...  

 كان رحمه الله تعالى ضريرا لا يرى، وبالرغم من ذلك فله منظومات علمية وفي المدح النبوي، ومقالات ومؤلفات...

وكانت له حظوة عند ملكي المغرب الحسن الثاني رحمه الله، ومحمد السادس حفظه الله...  

 زرته مرارا واستفدت منه، واستجزته فأجازني، وتحملت عليه بعض المسلسلات الحديثية، واستفدت من مجالسته...   

عزاؤنا لابنه الدكتور خالد الصقلي، وزوجته أستاذتنا الدكتورة نعيمة السقاط، وسائر أبنائه وأهله وذويه، وتلامذته الآخذين عنه.

إنا لله وإنا إليه راجعون، ونسأل الله أن يعوض الأمة خيرا مما فقدت.