1326 ـ 1413 هـ
1909 ـ 1992 م
الشيخ أبو محمد، محمد بشير بن أحمد حداد الحلبي الحنفي.
عالم عامل، ومقرئ فاضل حافظ، وفقيه حنفي، صوفي المشرب.
ولد الشيخ المترجم له في حلب الشهباء، في حي (الشميصاتيه) (1) سنة: ست وعشرين وثلاثمئة وألف للهجرة، في أسرة عرفت بالعلم والصلاح والتقوى، فوالده الشيخ أحمد كان رجلاً صالحاً مباركاً، يقصده الناس التماسا لدعائه وبركته، وكان يعمل أماماً ومؤذناً في جامع الحدادين.
توفي والده ولمّا يتجاوز السنة الرابعة من عمره، فكفله أخوه الأكبر محمد علي(2) واعتنى بتربيته وتعليمه، ودفع به إلى دار الحفاظ، فتلقى فيها القرآن الكريم تلاوة وتجويداً، ثمّ حفظه غيباً برواية حفص عن عاصم، في مدة لا تتجاوز الثلاث سنوات، على شيخه الشيخ المقرئ محمد بيازيد.
انتسب بعدها إلى المدرسة (الحلوية)، وفيها تلقى مختلف العلوم الشرعية والعربية، من التفسير والفقه والحديث الشريف والتوحيد والنحو والصرف والبلاغة وغيرها من العلوم، على شيخه الشيخ عبد الوهاب بن الشيخ محمد طلس (3)، مدير المدرسة (الحلوية)، ومدرسها ومتوليها.
وكان من زملائه في المدرسة (الحلوية): الشيخ عناية الله البخاري، والشيخ عبد السلام طويلة، والد الأستاذ الفقيه عبد الوهاب طويلة، والشيخ بشير الصياد، والشيخ عبد الفتاح حميدة الناصر.
بعد تخرجه في المدرسة (الحلوية)، انطلق للعمل على نشر العلم، فعمل مؤذناً وإماماً وخطيباً في عدد من مساجد المدينة وجوامعها، ثمّ استقر إماماً وخطيباً في جامع (الكلتاوية)، وأقام فيه مع أهله مدة من الزمن، وفي هذا المسجد تعرف إلى الشيخ محمد النبهان، وقامت بينهما علاقة ودّ ومحبة امتدت إلى آخر العمر، ثم انتقل بالخطبة إلى جامع الفردوس ثمّ جامع المدرسة (الشعبانية) ثمّ في جامع الترمذي.
وأثناء ذلك كان الشيخ يعمل على تعليم الطلاب الصغار القرآن الكريم والقراءة والحساب والإملاء في عدد من الكتاتيب، افتتحها في أماكن مختلفة في حيه والأحياء المجاورة، بالاشتراك مع بعض إخوانه أو منفرداً.
ورغم انشغال الشيخ المترجم له بالتعليم والإمامة والخطابة، لم ينقطع عن طلب العلم ومطالعة كتبه، فقد كان حريصا على حضور مجالس العلماء، وقراءة الكتب العلمية على شيوخه، فمن شيوخه الذين أخذ عنهم، وحضر مجالسهم وتلقى العلم عنهم: العلامة الشيخ أحمد الكردي، وقد أخذ عنه الفقه الحنفي، وقرأ عليه كتاب: رد المحتار (حاشية ابن عابدين) مرتين ونصف، خلال ثمان وعشرين سنة، في المدرسة (العثمانية)(4) ، وقامت بينه وبين شيخه هذا علاقة حب وثيقة، والعلامة الفقيه الشيخ شريف واني الكردي الحلبي الحنفي، درس عليه كتاب (ملتقى الأبحر) مع شرحه (مجمع الأنهر ملتقى الأبحر)، لمدة عشر سنوات في منزله، وهو كتاب في الفقه الحنفي، والعلامة الشيخ محمد سعيد بن أحمد الإدلبي الحلبي الشافعي، وقرأ عليه كتاب (قطر الندى وبل الصدى) في النحو، والعلامة الشيخ أحمد بن محمد الشمَّاع الحلبي الحنفي، وكان يحضر درسه بعد صلاة الجمعة (بجامع الحدادين)، في الوعظ والإرشاد، والعلامة الكبير الشيخ محمد نجيب سراج الدين الحلبي الحنفي، وكان يحرص على حضور درسه العام، والعلامة النحوي الفقيه الشيخ عبد الله حمَّاد الحلبي الشافعي، درس عليه قسماً من (حاشية ابن عابدين)، والشيخ محمد خير عقيل الحلبي الشافعي، تلقَّى عليه الفقه الشافعي، حيث قرأ عليه كتاب (حاشية الباجوري على ابن قاسم) في دكانه في (سوق الزهر) في محلة باب الحديد، والشيخ محمد سليمان الحلبي الشافعي حيث تلقى عليه الفقه الشافعي، في دكانه في محلة (أقيول)، والشيخ محمود العلبي، درس عليه الفقه الحنفي، والعلامة الشيخ علي العالم الكيالي الحلبي قاضي حلب ومفتيها، وقد أخذ عنه الفقه الحنفي في المدرسة الرضائية (العثمانية)، والفَرَضيُّ النحوي الشيح محمد الناشد الحلبي الحنفي، الملقَّب بالزمخشري الصغير، وقد قرأ عليه (حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح) بعد صلاة العصر ليومين متتالين من كل أسبوع في (جامع الحدادين) لعدة سنوات، إلى أن توفي الشيخ الناشد، والشيخ أحمد بن الشيخ محمد سعيد الإدلبي الحلبي الرفاعي الشافعي، والشيخ أحمد بن محمود مصري الحلبي الشافعي (5)، وكان الشيخ المترجم له حريصا على حضور مجالس إخوانه من علماء عصره، ومدارستهم القرآن الكريم، والعلوم الشرعية والعربية، كما كان له مجلس فقهي في المدرسة الرضائيَّة (العثمانية) استمر لسنوات عديدة، يتداول فيه الرأي في المسائل الفقهية مع عدد من إخوانه منهم: العلامة الفقيه المفتي الشيخ محمد أسعد العبجي الحلبي الشافعي، (مفتي الشافعية)، والشيخ عبد القادر كوراني، والشيخ محمد ناجي أبو صالح الحلبي الشافعي، والشيخ عبد الله ريحاوي.
وكانت للمترجم له علاقة صحبة وصداقة وودّ، مع معظم علماء عصره في مدينة حلب، ومن أشهر أصدقائه الشيخ محمد النبهاني، والشيخ عبد الفتاح أبو غدة، والشيخ محمد الحكيم، والشيخ محمد بلنكو (مفتي حلب)، والشيخ محمد السلقيني، والشيخ عبد الله خير الله، والشيخ محمد الصابوني، والشيخ محمد أبو الخير زين العابدين (6)، وغيرهم من علماء حلب الكبار.
تولى الشيخ المترجم تدريس القرآن الكريم وتفسيره، في المدرسة (الكلتاوية)، دار نهضة العلوم الشرعية، كما كان له مجلس لإقراء القرآن في كلّ يوم من بعد صلاة العصر إلى صلاة العشاء في (جامع الكلتاوية)، ولهذا فقد كثر طلابه والآخذون عنه، ولعل من أشهر تلامذته أبناؤه: الشيخ محمد عبد المحسن، والشيخ محمد منير، والشيخ أحمد مهدي، والشيخ محمد سعد الدين، والشيخ محمد ولي، والشيخ محمد أمين مشاعل، والشيخ نزار لبنية، والدكتور عبد الرحمن عتر، أما طلبة العلم الذين تلقوا عليه في (الكلتاوية) فهم كُثُر، نذكر منهم: الدكتور محمود الزين، والشيخ محمود الحوت، والشيخ عثمان العمر، والدكتور محمود شبلي، والدكتور عبد العزيز أحمد الجاسم، وغيرهم.
والشيخ المترجم له مُولع بجمع الكتب وقراءتها، حتى تجمعت لديه مكتبة كبيرة تضم الكثير من نفائس الكتب في مختلف العلوم، وكان من عادته أن يختار لطلابه أنفس الكتب العلمية وأكثرها فائدة، ويهديها للمجدين والنابهين منهم.
وكان الشيخ المترجم صوفي المشرب، يملأ أوقاته بالذكر، وتلاوة القرآن الكريم، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، أخذ الطريقة (النقشبندية)(7) عن شيخه الشيخ محمد أبي النصر خلف الحمصي، وأذن له بأورادها وأذكارها، وتابع سيره فيها مع الشيخ المربي محمد النبهان، كما أخذ الطريقة (الرشيدية) عن شيخها الشيخ عبد الحميد المهندس، الذي أذن له بأورادها وتسليك المريدين فيها.
في أوائل الثمانينات من القرن الميلادي المنصرم، هاجر الشيخ إلى العراق، وأقام في بلدة (الفلوجة)، وذلك لصلته الوثيقة بعلمائها وأهلها، الذين أكرموا وفادته عليهم، وأنزلوه مكرماً في دار جامعها الكبير، وهناك استأنف نشاطه العلمي، فكانت له في هذا الجامع مجالس علمية، يلقي فيها دروسه في الفقه، والتلاوة، والتجويد، ويردّ على أسئلة المستفتين، ويستمع لحفظة القرآن الكريم عليه، فكثر طلابه والآخذون عنه هناك، وبعد تسع سنوات، قطعها بالدعوة إلى الله ونشر العلم وإفادة طلابه في العراق، شدّ رحاله إلى المدينة المنورة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وأقام فيها مسروراً بمجاورة النبي صلى الله عليه وسلم، يكثر من زيارته والسلام عليه، ويلتقي فيها بإخوانه العلماء، ويتدارس معهم المسائل العلمية، ويقرئ الطلاب القرآن الكريم، وقد لازمه وقرأ عليه القرآن عدد من طلبة العلم في المدينة المنورة، نذكر منهم: الدكتور عماد حافظ (إمام جامع قباء في المدينة المنورة)، والمدرس في الجامعة الإسلامية، وقد قرأ عليه ختمة تامة من القرآن الكريم.
عفيف النفس، كريم الخُلق، جواد، سخي، يحب الضيف ويكرمه، صالح، زاهد في حطام الدنيا، شديد التواضع، خافت الصوت، لا يسمع صوته إلا إذا انتهكت حرمات الله. حافظ لجوارحه، يكره الغيبة والنميمة، ولا يسمح بهما في مجلسه.
مهيب الطلعة، طويل القامة، أبيض اللون، مُشْرب بحمرة، منور الشيبة، ذو لحية كثيفة بيضاء، يلبس الجبة الطويلة، ويزين رأسه بعمامة بيضاء زادته مهابة وجمالاً.
بقي الشيخ على هذه الأخلاق الحميد، إلى أن أدركته المنية في المدينة المنورة، أواخر شهر جمادى الآخرة، سنة: ثلاث عشرة وأربعمئة وألف للهجرة النبوية الشريفة، الموافق للرابع والعشرين من شهر تشرين الأول عام: اثنين وتسعين وتسعمئة وألف للميلاد، وصلي عليه في الحرم النبوي الشريف، بعد صلاة الظهر من ذلك اليوم، ثمّ ووري جسده الطاهر في (بقيع الغرقد)، مجاورا أحبابه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأل بيته الكرام الطيبين الطاهرين، وحزن عليه أهله، وإخوانه وتلامذته وأحبابه، وأقيمت له مجالس العزاء في المدينة المنورة، وفي عدد من مساجد حلب، حيث صلي عليه صلاة الغائب، ورثاه كثير من الأئمة والخطباء والشعراء. ـ رحمه الله ـ
المصادر والمراجع
1- ترجمة خطية كتبها حفيد المترجم له الأستاذ أسامة أبن الشيخ أحمد مهدي حداد، في موقع الإسلام في سورية على شبكة الأنترنت.
2- سجلات مديرية الأوقاف في مدينة حلب.
3- مقابلة شفهية مع شيخنا الشيح محمد زين العابدين الجذبة - رحمه الله - جرت في بيته صيف عام: 1993 م.
4- مقابلة شفهية مع الشيخ محمد عثمان بلال - رحمه الله - جرت في مكتبه في مكتبه في دار الإفتاء عام: 1993 م.
5- مقابلة شفهية مع الشيخ محمد أديب حسون - رحمه الله - جرت في غرفته في جامع أسامة بن زيد صيف عام: 2002 م.
6- مقابلة شفهية مع الشيخ محمود الحوت. جرت في المدرسة الكلتاوية صيف عام: 2009 م.
7- مذكرات المؤلف.
الحواشي:
(1) تعرف بحارة سوق الدجاج، تقع إلى الشمال الشرقي من باب الحديد، أول طلعة (ثكنة هنانو)، ولفظة (الشميصاتية)، لفظة تركية تعني (ذات اللحم السمين)، ولها معان أخرى، وانظر نهر الذهب 2/315، وأحياء حلب وأسواقها، ص 252
(2) رجل فاضل تولى الأذان بجامع الحدادين بعد وفاة والده، وعمل مختاراً لمحلة (الشميصاتية)، لمدة طويلة فأكسبه ذلك معرفة كبيرة بأنساب أهل حلب، كما كانت له مشاركة في مقاومة المحتل الفرنسي.
(3) انظر ترجمته في مكانها من الكتاب.
(4) انظر حديثنا عن هذه المدرسة في كتاب (التعليم الشرعي ومدارسه في حلب في القرن الرابع عشر).
(5) انظر ترجمات شيوخه هؤلاء في مواضعها من كتاب (علماء من حلب في القرن الرابع عشر) للمؤلف.
(6) انظر ترجماتهم في المصدر السابق.
(7) انظر حديثنا عن هذه الطريقة في ترجمة شيخها الشيح محمد أبي النصر خلف الحمصي في كتابنا (علماء من حلب في القرن الرابع عشر).
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول