الشيخ محمد بشير المراد - عالم عامل


الشيخ محمد بشير بن الشيخ أحمد المراد المفقود سنة/ 1402 هـ-1982 م


ولادته ونشأته :

ولد الشيخ محمد بشير المراد سنة 1340 هـ - 1920 م بمدينة حماة في أسرة علم ودين ، حيث نشأ وترعرع في كنف والده الشيخ أحمد بن الشيخ محمد سليم المراد ، التقي الصالح والفقيه الورع والذي لقِّب بأبي حنيفة عصره .
طلبه العلم وشيوخه :

تلقى الشيخ علومه الأولى على يدي والده من قرآنٍ وفقهٍ وتوحيدٍ وتصوفٍ ونحْوٍ وغيرها ، وقد أحاطه أخوه الكبير الشيخ عبد العزيز بكل رعاية وعطف ، فكان له بمثابة الأب ، وقد تلقى على يديه بعض العلوم وخاصة علم المواريث ، بالإضافة إلى تعليمه فنون السباحة وركوب الخيل ، بعد ذلك التحق بمدرسة عنوان النجاح وبعد أن أتم المرحلة الابتدائية التحق بالصف الثاني الشرعي بالمدرسة الشرعية ، وذلك سنة / 1933 م والتي كان يدرِّس فيها النخبة من علماء مدينة حماة كالشيخ محمد توفيق الصباغ الفقيه الشافعي المعروف رئيس جمعية العلماء ، والشيخ محمد زاكي الدندشي ، والشيخ أسعد المعراوي ، والشيخ مصطفى علوش ، والشيخ عارف القوشجي ، والشيخ محمد البوشي الشققي ، والشيخ نوري الحافظ ، والشيخ علي خير الله ، وبقي فيها ثلاث سنوات ، وأخذ منها الشهادة الشرعية سنة / 1936 م ، وكان معه في هذه السنوات زميله ورفيق دربه وابن عمه الشيخ محمد علي المراد الثاني ، حيث كانا في سن متقاربة فكانت دراستهما معاً في كل مراحلها ، بعدها سافر إلى مصر و التحق بالأزهر الشريف حيث درس في كلية الشريعة أربع سنوات ، ثم تخصص في القضاء الشرعي لمدة سنتين على أيدي شيوخها الأفاضل أمثال : الشيخ مأمون الشناوي ، والشيخ يوسف السنهوري ، والشيخ عيسى منون ، والشيخ إبراهيم حمروش ، والشيخ محمد الجمل ، والشيخ محسن أبو دقيقة ، والشيخ محمد السايس ، وكان على رأسهم في حينها الشيخ مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر ، وقد أخذ عن كثير من العلماء الموجودين في ذلك الوقت أمثال : الشيخ يوسف الدجوي ، والشيخ مصطفى أبو سيف الحمامي ، والشيخ محمد زاهد الكوثري ، والشيخ الشنقيطي ، وغيرهم من العلماء الأجلاء .
بعد حصوله على الشهادة العالمية الأزهرية تخصص قضاء سنة / 1948 م عاد إلى وطنه وعُيِّن مدرساً للتربية الإسلامية في محافظة دير الزور شمالي سورية ، وبعد سنة أعلنت الحكومة عن حاجتها لتعيين قضاة شرعيين وأجرت مسابقة لاختيار المتقدمين ، وعندما رأى أعضاء اللجنة الفاحصة اسمه وأنه ابن الشيخ أحمد سليم المراد تم تعيينه مباشرة دون اختبار له ، ثقةً منهم بالشيخ ووالده وأسرته المعروفة بالعلم الشرعي ، فعُيِّن قاضياً شرعياً في مدينة درعا وذلك سنة / 1950 م ، وبقي فيها خمس سنوات ، وكثيراً ما كان يُنتدَب إلى دمشق .
وفي هذه السنة تزوج من ابنة ابن عمه الشيخ محمد ظافر المراد ، وبعد مضي السنوات الخمس نُقل إلى محافظة اللاذقية على الساحل السوري ، وفي هذه الفترة حصلت معه قضية كانت سبباً في إخراجه من سلك القضاء ، تتلخص في إثبات زوجيةِ خادمةٍ من مخدومها الثريِّ المتنفذ الذي حاول جاهداً بالترغيب والترهيب إثناء الشيخ عن القضية دون جدوى حتى اكتملت أركانها ونطق بالحكم الذي انتظره أهل اللاذقية كثيراً من خلال قضاةٍ سابقين , فكانت النتيجة الانتقال إلى مدينة النبك ، ثم التهديد بالقتل ، ثم إنهاء الخدمة من سلك القضاء بمساعي هذا المتنفذ بقرار جمهوري وذلك عام 1958م ، وقد كتب ابن اللاذقية الأديب القاص الشيخ محمد المجذوب رحمه الله تعالى في إحدى مجموعاته القصصية هذه القصة التي أثارت الرأي العام في اللاذقية ، فترجمها الشيخ المجذوب قصة أدبية رائعة لشدة إعجابه بجرأة بطلها الذي تصدى لهذا الثريِّ الذي حاول جاهداً بكل أنواع الإغراء أن يثني الشيخ عن قراره لكن دون جدوى ، وقد أبدل الشيخ المجذوب بعض الأسماء فجعل القاضي رشيد بدلاً من بشير وذلك حرصاً منه على سرية الأسماء والأشخاص .
- عاد الشيخ إلى مدينته حماة حيث عمل مدرساً في دار العلم والتربية ، وفي الثانوية الشرعية ، وفي سنة / 1960 م عين مفتياً في بلدة السلمية شرقي حماة ، فكان يذهب إليها في بداية كل أسبوع ويعود في نهايته .
- بعد وفاة الشيخ محمد سعيد النعساني ( ت 1387 هـ - 1967 م ) مفتي حماة عين الشيخ مفتياً لمحافظة حماة ، وبقي في هذا المنصب حتى ساعة اعتقاله أثناء أحداث حماة الأخيرة عام 1982م .
- رزق الشيخ بخمسة ذكور وهم : محمد أيمن ، ومحمد مأمون ، ومحمد ميسر وأحمد ماهر ، وعبد الباسط ، وخمس إناث .
إجازاته العلمية :
أجازه والده الشيخ أحمد المراد بما أُجيز به من مشايخه وبخاصة ثَبَت الأروادي في العلوم الشرعية ، ومنها إجازة في الحديث الشريف إلى الإمام البخاري رحمه الله تعالى ، وإجازة في الفقه الحنفي إلى الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه ، وفي الطريقة النقشبندية خصوصاً ، وفي بقية الطرق عموماً ، وذلك في يوم الاثنين / 14 ذي القعدة / 1371 هـ / 4 آب / 1952 م .
زهده وعبادته وتصوفه :
- تقول الوالدة حفظها الله تعالى : ما تقلب مرةً في فراشه وهو نائم إلا ونطق بالشهادتين . - كان مواظباً على صلاة التهجد في حله وترحاله ، مع مواظبته على أوراد الصباح والمساء ، وبعد المغرب كان مواظباً على قراءة سور معينة من القرآن الكريم ، وكان محافظاً على ورد وختم الطريقة النقشبندية – طريقة العلماء – الذي أخذه عن والده شيخ الطريقة الشيخ أحمد رحمه الله تعالى .
- اعتكافه في العشر الأواخر من رمضان في الجامع الجديد ولم يفوت سنة واحدة منذ أن استقر في مدينته حماة .
- حج ست حجات : الأولى في الأربعينات أثناء دراسته في الأزهر ، والأخيرة كانت عام / 1981 م
أعماله التي كان يقوم بها :
- أثناء وجوده في السلمية كان له دور بارز في خدمة الإسلام والمسلمين وخصوصاً أن هذه البلدة تعتبر معقلاً للطائفة الإسماعيلية ، حيث وقف في وجههم وحال بينهم وبين محاولاتهم العديدة للمجيء برُفات آغا خان - الذي يعبد من دون الله - من الهند .
فقد قام الشيخ على رأس وفد من أهالي السلمية بزيارة للرئيس ناظم القدسي ، وطالبه بعدم السماح للإسماعيلية بإحضار رفات – معبودهم - للسلمية ، فوعده بذلك قائلاً : ( لن يستطيعوا بإذن الله مادمت في الحكم ) ، ووفى بوعده رحمه الله تعالى .
- تعرض لبعض المضايقات أثناء حوادث حماة عام / 1964 م من قِبَلِ عناصر الحرس القومي ، ولما وصل إلى حماة قادماً من السلمية منعه الجيش من الدخول ، فعاد أدراجه إلى السلمية إلى أن خفت حدَّة التوتر .
- أثناء وجوده في السلمية كان يجلس كل ليلة بعد صلاة العشاء مع بعض أحبابه وأصحابه في جلسة علمية فيها الوعظ والإرشاد والفقه والفتوى ، وذلك طيلة بقائه فيها .
- درسه اليومي مع ابن عمه والد زوجته الشيخ محمد ظافر المراد بعد صلاة العصر صيفاً وشتاءً ، وقراءته الفقه الحنفي في حاشية ابن عابدين ، وذلك بعد أن استقر في حماة .
- درسه الأسبوعي يوم الاثنين في بيته لبعض الأطباء أمثال الدكتور عبد الرزاق الكيلاني رحمه الله تعالى .
- درسان في يومي السبت والأحد من كل أسبوع لبعض الشباب طلاب العلم الشرعي في مقر جمعية النهضة الإسلامية ، ثم نقل إلى زاوية السلسلة في منطقة باب البلد ، دَرْسٌ في الفقه الحنفي يقرأ في كتاب " اللباب في شرح الكتاب " ، وآخر في التوحيد يقرأ في كتاب " شرح جوهرة التوحيد " .
- أثناء حرب تشرين / 1973 م أشار عليه أخوه الشيخ محمد سيادي بالقيام بتدريس شباب العائلة الفقه الحنفي ، فكان يجلس في بيته بعد المغرب ،ويقرأ عليهم دروس الفقه والفرائض والنحو .
- رغبته في نقل دائرة الإفتاء إلى الغرفة العليا في الجامع الجديد حتى تكون مرتبطة بالمسجد ، وحتى يعود للمسجد دوره الذي فقد منذ زمن طويل ، ولأن كثيراً من المراجعين من أهل المدينة أو خارجها لا يحبون الذهاب إلى الدائرة لبعد مكانها ويفضلون المجيء إلى البيت ، ولأن مقر الجامع الجديد في سوق – التجار – الطويل ، والناس عادة في الأسواق يسألون العلماء عن كل مسألة تطرأ عليهم ، وحتى يكون قريباً منهم كانت هذه الرغبة .
- استقباله لكل الناس بشتى أنواعهم وفئاتهم ومللهم ونحلهم في بيته العادي المتواضع في أي وقت ، حتى أصبح البيت وكأنه محكمة شرعية يفتح بابه من بعد صلاة الفجر وحتى ساعة متأخرة من الليل.وكان يوصي أهل بيته ألا يعتذروا من أحد إذا كان نائماً بل يوقظوه مهما كان الوضع .
- استشارته ومدارسته لرفيقه وزميله وتِربه الشيخ محمد علي المراد في كثير من المسائل الفقهية ، واستعانته به - لوجود مكتبته العامرة ومتسع من الوقت لديه – بخلاف الشيخ فلا يكاد يجد فرصةً أو وقتاً لمراجعة مسألة معينة ، ولانشغاله بعلم الفرائض وعمل المناسخات لحصر الإرث ، ولأن المحكمة الشرعية بحماة كانت ترفض أي مناسخة إلا بتوقيع الشيخ رحمه الله تعالى .
-إذا استعصت قضية على المحكمة المدنية بحماة يحولها رئيس المحكمة إلى فضيلة المفتي ويعتبر حكمه فيها نافذاً غير قابل للنقض أو الاستئناف ، وقد وصلت إحدى هذه القضايا إلى المفتي بعد مكوثها أكثر من عشرين سنة في المحاكم وخلال جلستين أو ثلاث انتهت القضية وخرج جميع الأطراف وهم راضون بحكم وقضاء الشيخ رحمه الله تعالى وذلك بفضل الله ومنِّه وكرمه .
- كان رأيه أن العالِم الذي يتولى منصباً يسخره لخدمة الإسلام والمسلمين أفضل من الذي يبتعد ولا يلي منصباً ولا يخدِم أحداً – وفي هذه المسألة اختلف الشيخ منذ أيام الدراسة في الأزهر مع زميليه وقرينيه ابن عمه الشيخ محمد علي المراد والشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمهما الله تعالى وكانا يخالفانه الرأي - ، لذلك كان يخدم الناس بكل فئاتهم ، ويذهب معهم عند المسؤولين لقضاء حوائجهم ، ولا يتردد في ذلك ولا يرد أحداً ، وكان يقول : من أعطاه الله مكانةً ووجاهةً ولم يخدم الناس فسيسأله الله عن ذلك ، وكان كثيراً ما يردد قصة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حينما كان معتكفاً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، حيث رأى رجلاً مهموماً فسأله عن سبب همه ، فأجابه بأن عليه ديناً لفلان ، فأخذ ابن عباس نعليه وخرج من المسجد لقضاء دين هذا الرجل .
- السعي في توظيف كثير من العاطلين عن العمل والمستحقين للوظيفة .
- تخصيص راتب شهري لبعض العائلات الفقيرة بوساطة عدد من أهل الخير .
- السعي لبعض العائلات الفقيرة التي ليس لديها بيوت للسكنى ، وذلك بإشراكهم في جمعيات سكنية حتى يحصلوا على شقة للسكن بأقساط مريحة جداً
- السعي في بناء كثير من المساجد داخل المدينة وخارجها .
- تدريسه لبعض المواد الشرعية في الثانوية الشرعية ، وفي التكية الهدائية .
- إعطاء شهادة لمن يهمه الأمر لكثير من الشباب طلاب العلم الشرعي أصحاب اللحى أثناء خدمتهم الإجبارية بكونهم من أصحاب السيرة الحسنة ، وأنهم كانوا ملتحين قبل دخولهم الجيش .
- حل المشكلة التي حصلت في منطقة سهل الغاب حيث وقعت مقتلة عظيمة بين سكان تلك القرى وأغلبهم من القبائل البدوية السُّنِّيَّة وذهب ضحيتها أكثر من عشرين قتيلاً ، وقد حاولت الحكومة تهدئة الوضع بشتى الطرق والوسائل فلم تفلح ، ، عندها أرسل الشيخ محمود الشقفة إلى الشيخ محمد بشير المراد رحمهما الله تعالى ،يطلب منه التوجه إلى تلك المنطقة لحل المشكلة وذلك بأمر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفعلاً توجه الشيخ محمد بشير ومعه أولاد عمه الشيخ محمد علي والشيخ سعد الدين المراد ، وأحياناً يكون معهم الشيخ محمد منير لطفي والشيخ عبد الله الحلاق رحمهما الله ، واستطاعوا حل المشكلة بعدة جلسات ، واصطلح القوم وحُقنت الدماء ، وذلك بفضل الله ومَنِّهِ وكرمه ، وصدق وإخلاص من قام بهذا العمل ، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء .
- في آخر حجة له رأيناه فيها في حج عام / 1401 هـ - 1981 م عرض عليه ولده الكبير محمد أيمن - الذي كان يعمل في دولة الإمارات - الخروج من البلد والسفر إلى الإمارات والعمل بها ، فهناك سيجد أعلى الوظائف الحكومية من خلال شهادته وتخصصه ، فالتفت الشيخ إليه قائلاً : أخشى أن يسألني الله إن تركت البلد فلم يعد بها أحد للسؤال والفتوى إلا الفقير وهذا الشيخ - وأشار إلى الشيخ عبد الله الحلاق الذي كان معه في رحلة الحج .
-كان كثيراً ما يدعو الله أثناء سجوده في صلاة الجمعة بأن يرزقه الله الشهادة في سبيله ، كما أخبرنا بذلك ابن عمه الذي كان يسمعه وهو ساجد أثناء أدائه لصلاة الجمعة وهو بجانبه .
وفاته :

بقي الشيخ في حماة ولم يخرج منها رغم الضغوط الكبيرة عليه ، إلى أن جاءت أحداث حماة الكبرى ، ففي يوم الاثنين / 22 / 2 / 1982 م داهمت صباحاً بيتَ أخيه المرحوم الشيخ عبد العزيز قوةٌ من الجيش والأمن واعتقلت كل من كان فيه من الرجال وعددهم ثمانية ، وكلهم من العلماء وطلاب العلم ، وبعد عصر هذا اليوم داهمت بيتَ الشيخ قوةٌ مماثلة حيث اعتقلته مع ولده أحمد ماهر الذي لم يتجاوز الخامسة عشرة من العمر إلى جهة مجهولة ولم يعرف مصير الجميع إلى الآن .
رحم الله الشيخ ومن كان معه ، وتقبلهم في زمرة الشهداء ، وجعلهم في أعلى عليين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً