عاش الشيخ محمود الحامد والد سيدي رحمهما الله تعالى، غلبت عليه صفة التصوف واشتهر بها، وكان حار المزاج حاد الطبع، كثيراً ما تطغى عليه الأحوال الشديدة، على جانب كبير من الصلابة الدينية والورع، عفيف النفس، كريم القلب، يعيش من كتّـابه الذي أنشأه لتعليم الأطفال القراءة والكتابة. ولقد تربى وتلقى التصوف على يد الشيخ الكبير عبد الفتاح العبد رحمه الله تعالى، الذي تتلمذ على يد الشيخ محمد سليمان الاروادي رحمه الله تعالى، وهو أحد خلفاء مولانا خالد النقشبندي رحمه الله تعالى.
مولده
في هذا البيت، بيت العلم والتصوف، ولد سيدي رحمه الله تعالى سنة 1328هـ - 1910م، وكانت ولادته بعد انقطاع حمل أمه عدداً من السنين، حتى شكا والده إلى بعض خواصه انقطاع حمل زوجته، فأخبروه أنه كان في حمص شيخ مبارك اسمه الشيخ سليم خلف ( [2])، يكتب بعض الكلمات على ورقة يعطيها لمن تشكو إليه انقطاع حملها، فتلحسها، فتحمل بإذن الله تعالى، ولقد توفي؛ لكن ولده الشيخ محمد أبو النصر يقوم مقامه في هذا، وهو يتردد على حماة لتفقد مريديه.
وبتقدير الله سبحانه كتبت الورقة بيد الشيخ أبي النصر، وحملت الأم بعد ذلك بإذن الله تعالى، وولد الشيخ رحمه الله تعالى. وعاش في كنف والديه وبين أخويه ستة أعوام تقريباً، وفجع في السادسة من عمره بوالده، وفي العام نفسه فجع أيضاً بأمه، وذاق مرارة اليتم والفقر عدداً من السنوات، وكانت من أشد السنوات التي مرت على البلاد، وهي سنوات الحرب العالمية الأولى.
وكان والده يتحدث مراراً أن ولده هذا سيكون عالماً، ورآه مرة بعض الصالحين، فأسرع إليه مقبلاً ومعانقاً وهو يردد: الشيخ محمد، الشيخ محمد.
ولما مرض الوالد مرض الوفاة، اشتد به القلق على أولاده، خاصة وأنه لم يتمكن في خلال حياته كلها، أن يوفر لهم شيئاً من المال يتركه لهم، والبلاد تلفها المجاعات والأوبئة طيلة الحرب العالمية الأولى، فأخذ يبحث عن وصي يوصيه عليهم، فلم يجد أحداً؛ لأن كل إنسان يشغل خلال الأزمات بنفسه، فما كان منه إلا أن أوصى الله عليهم، فكان يردد في مرض وفاته: " إني أوصي الله على أولادي " وأشار إلى ولده الكبير بدر –وكان حينئذ في سن الخامسة عشرة من عمره –ليقترب منه، فهمس في أذنه بكلمات، أوصاه بها أن يعتني بأخويه الصغيرين.
كانت وفاة الوالد في تلك الظروف القاسية ضربة شديدة، تبعتها أخرى بوفاة الوالدة، فلم تحتمل العائلة الصغيرة شدة هذه المصائب فتفرق شمل الإخوة، واضطر الأخ الكبير للانفصال عن أخويه الصغيرين.
ذكر لي سيدي رحمه الله تعالى، هذه المرحلة في حياته، حدثني عن مشاعر الألم التي كانت تحز في نفسه، وتمور في فؤاده، دون أن يستطيع في ذلك الوقت التعبير عنها، قال: لو كان لليتيم لسان يبين به عن لوعاته وآلامه؛ لأبكي الحجارة الصماء، مرت بنا أيام، كنا كثيراً ما نبقى في المدرسة في فرصة الغداء دون طعام، معظم التلاميذ يذهبون إلى بيوتهم، ونحن نبقى في المدرسة؛ لأنه لم يكن لنا بيت ولا طعام، حتى إن أخي كان يبكي أحياناً من شدة الجوع، أما أنا فكنت أشغل نفسي باللعب عن آلام الجوع.
نشأته العلمية
لم يغفل بدر الدين عن تعليم أخيه محمد حتى في أشد أيام البؤس، فقد أدخله المدرسة الابتدائية ، وهو ما يزال في الفترة التي كان يعيش فيها عند الأسر الفقيرة في أطراف البلد، وأيقظ فيه روح الجد، لما كان يرى فيه من مخايل الذكاء، نال الدرجة الأولى على رفاقه في الصف الأول، وفي السنة الثالثة من دراسته إنفرجت الحياة قليلاً لأخيه بدر الدين من بعد إنسحاب الأتراك من سورية وقيام الحكم الفيصلي فيها، حيث عمل أخوه معلماً ابتدائياً، واستمر الأمر هكذا حتى أنهى محمد مرحلة الدراسة الابتدائية، وتخرج من الصف السادس سنة 1922م، فأدخله أخوه المدرسة الإعدادية، لكن محمداً لم ينسجم مع بيئته الجديدة في المدرسة، وشعر بنفره منها، وبدا عليه التقصير في دروسها، فإن ميله إلى العلم الشرعي والتزامه حلقات بعض الشيوخ في طلبه، وسلوكه الديني الصارم، فأحس أخوه أنه يحمله على الذهاب إليها حملاً، فأخرجه من المدرسة الإعدادية سنة 1923م، ووضعه عند معلم خياطة للملابس العربية ليتعلم عنده مهنة الخياطة، ويتابع معها طلب العلم الشرعي كما يريد فكان محمد يعمل في النهار في الدكان، ويحضر بعد المغرب دروس العلماء في المساجد، وينضم بعد العشاء إلى الحلقات الخاصة لطلب العلم، إلى أن افتتحت في حماة مدرسة دار العلوم الشرعية سنة 1924م، فرغب محمد في دخولها، وكان أخوه بدر الدين في تلك السنة في دمشق يتمم دراسة الصف الأخير من دار المعلمين، فأرسل خاله الشيخ سعيد الجابي يستشيره في إدخاله فيها، فأقر بدر الدين الفكرة، وعلى الفور ترك محمد دكان الخياطة، ودخل المدرسة الشرعية، التي كانت أسعد أيام حياته، فرغم صغر سنة بين أقرانه من طلاب المدرسة كان الأول بينهم. وما كان رحمه الله يهتم لشؤون المعيشة، إنما كان همة في إرواء ظمأه العلمي وإشباع طموحه الفكري، ولم تكن المدرسة الشرعية كافية له بل كان يتردد صباحاً ومساءً على الدروس العلمية الخاصة التي كان يعقدها الشيوخ في المساجد لخواص طلابهم، حتى بلغ عدد الحلقات العلمية التي كن يحضرها تسع حلقات في اليوم، سمعت هذا منه رحمه الله تعالى.
مشايخه
تتلمذ على أيدي كبار العلماء منهم شيخ الشافعية في حماة، ورئيس جمعية العلماء فيها، الشيخ محمد توفيق الصباغ أدام الله توفيقه، ومنهم سماحة الأستاذ الجليل الشيخ محمد سعيد النعساني مفتي حماة، ذو الباع الطويل في العلوم والمعارف، ومنهم فضيلة الأستاذ الفقيه الحنفي،
الحجة العالم العامل، التقي الورع، الزاهد في الدنيا، شمس علماء حماة، الشيخ أحمد المراد رحمه الله.
المدرسة الخسروية بحلب
في سنة 1347هـ – 1928م أنهى رحمه الله دراسته في مدرسة حماة، فرحل في السنة نفسها إلى حلب يبحث عن منهل علمي جديد يروي منه ظمأه العلمي، فهيأ الله له سبيل الانتساب إلى المدرسة الخسروية الشرعية فيها، (وكانت تعتبر في ذلك الوقت من أرقى المدارس الشرعية في بلاد الشام)، وهنا ظهرت شخصيته العلمية بين أقرانه وحتى بين شيوخه، فقد وصفه الشيخ أجمد الشماع -وهو أحد الشيوخ في المدرسة - قائلاً: " بحر علم لا تنزحه الدلاء "، كان يحرص رحمه الله تعالى على شهود الدروس العلمية التي تلقى في مساجد حلب، فكان يداوم على دروس عالم حلب الكبير الشيخ نجيب سراج الدين رحمه الله تعالى، ولم يقتصر في دراسته على المناهج الرسمية بل كان يطالع الكثير من المصنفات، يدفعه إلى ذلك شغفه العلمي، وحرصه على بناء شخصيته العلمية بناءً كاملاً، وكم كان يذكر رحمه الله كلمة أخيه الأستاذ بدر الدين وهو في وداعه قبل سفره إلى حلب، قال له في محطة القطار: " أعوذ بالله من نصف عالم ".
شيوخه في حلب
الأستاذ الشيخ أحمد الزرقا الفقيه الجليل، وكالشيخ أحمد الكردي مفتي الحنفية في حلب، والشيخ عيسى البيانوني، والشيخ إبراهيم السلقيني العالم العامل والتقي الورع، والشيخ محمد الناشد، والشيخ راغب الطباخ، والشيخ أحمد الشماع، والشيخ عبد المعطي، والشيخ فيض الله الأيوبي الكردي المحقق العظيم في علمي التوحيد والمنطق، والشيخ محمد أسعد العبجي مفتي الشافعية في حلب وهو والشيخ عبد الله حماد الباقيان في قيد الحياة من مشايخي، جزاهم الله خير الجزاء وبارك عليهم أحياءً وأمواتاً.
ومما يزيد في أهمية هذه المرحلة بالنسبة لسيدي رحمه الله أنه فيها حصل له التحول الكبير عن أفكار دعاة السلفية، التي كان يتبناها منذ كان في حماة، إلى السلوك في طريق التصوف على يد شيخه العظيم الشيخ محمد أبي النصر خلف النقشبندي رحمه الله تعالى.
العودة إلى حَمَاة
وفي سنة 1353هـ عاد رحمه الله بعد أن أنهى دراسته في حلب، ولم تطل فترة استقراره في حماة، فقد رحل عنها سنة 1356هـ إلى مصر، ملتحقاً بالأزهر الشريف، ففي هذه السنوات الأربعة أثبت الشيخ مكانته العلمية فجذب أنظار علماء البلد لديه؛ حتى أكرهوه على أن يستلم بعض المناصب الدينية في البلد، وكان كارهاً لها، ففي سنة 1354هـ كلف بالخطبة في جامع الأشقر، وألقى أول خطبة في الجامع المذكور يوم الجمعة لأربع خلون من ربيع الآخر.
وفي هذه الفترة أيضاً، خاض الشيخ صراعاً فكرياً عنيفاً ضد الذين كانو يناوئون الصوفية في حماة، وهم أتباع خاله الشيخ سعيد الجابي رحمه الله تعالى، ومن المعلوم أن سيدي كان موافقاً لهم قبل رحلته إلى حلب، بل إن خاله الشيخ سعيد كان يعدّه ليكون خليفته في هذا، فأصيبوا بتحوله إلى الصوفية بخيبة أمل مريرة، زاد من مرارتها الموقف الصارم الذي وقفه الشيخ منهم ، حتى تمكن رحمه الله من تثبيت أقدام الصوفية في البلد، بعد أن زعزعتها الحملات العنيفة التي كان يشنها الشيخ سعيد عليهم في دروسه العامة.
وموقف سيدي هذا أدّى إلى تركه الخطبة في جامع الأشقر، لكن الله سبحانه وتعالى عوضه عنه بجامع السلطان، كما جر عليه كثيراً من التعب والعناء، فنصحه شيخه أبو النصر أن يبتعد عنهم، وعن مجادلتهم. وأنى له هذا وهو قريب منهم! لذلك كتب إلى شيخه رحمه الله قائلاً: " كنتم أرسلتم لي كتاباً تأمرونني فيه بالإبتعاد عن المنكرين بقدر الإمكان، وعدم مكالمتهم ومجادلتهم فيما يتعلق بأمر الطريق، وقد وفقني الله تعالى لامتثال أمركم حسب الطاقة، ووجدت له أثراً حميداً في نفسي وأشعرتُ بالتقدم والزيادة من الخير ببركتكم وعطفكم، غير أني لا بد لي ياسيدي من الخلطة ببعضهم، والاجتماع بهم، وأنا من هذا تجاه أمر واقع، أتمنى الخلاص منه، فلا أقدر عليه، ولا يخفى على مولاي –أعزه الله تعالى –أن المنكر لا يصبر عن الجدال مصداقاً لقوله –صلى الله عليه وسلم -: " ما ضل قوم بعد هديّ كانوا عليه؛ إلا أعطوا الجدل " وعن هذا تقوم المجادلات بيننا ويشتد الخصام، ولا نتوصل لنتيجة مرضية، ويتعبني ذلك تعباً عظيماً وعناءً كبيراً، وأحس بظلمة أرواحهم تسري إلى قلبي ... هذا وقد صار لي سوء الحظ بهم، وليتني أتمكن من النجاة منهم، فلا أراهم ولا أسمع بهم " اهـ
ومع هذا لم ينقطع الشيخ عن دراسته العلمية، فقد كان دائب المطالعة، وقد يسر الله له أن يستلم حجرة في الجامع الجديد، جعل منها مكان لدارسة العلم مع بعض زملائه من شباب المشايخ في البلد، كما بدأ يلقي دروسه العامة في هذه الفترة، ففي سنة 1353هـ عهد إليه الشيخ أحمد المراد –رحمه الله تعالى –بالتدريس مكانه بعد الظهر في الجامع الجديد. وبعد تركه جامع الأشقر، طلب منه الشيخ أديب الحوراني –رحمه الله تعالى –أن يخطب عنه في جامع السلطان، وبعد مدة كلفه بالتدريس. ومنذ ذلك الوقت أصبح مسجد السلطان المركز الرئيسي لجهوده العلمية.
الرحلة إلى مصر
وفي عام 1356هـ الموافق 1938م سهل الله له سبيل الارتحال إلى مصر، والانتساب إلى الأزهر، ومن الأسباب دراسته في مصر ما ذكره في رسالة أرسلها إلى شيخه أبي النصر بعد عودته إلى حماة، قال فيها: " إن موقفي في حماة أحرج موقف، فقد عاداني أقاربي وأتباع خالي، وهم أكثر الناس عندنا، وأصبحت غير مقبول النصح عندهم، ومخدوشاً من الوجهة العلمية في نظرهم، إذ يرون أن علمي خرافات وبدع، جئتهم بها، وقد فسد الرأي العام عندنا، وأصبحت غريباً في وطني، وغير خافٍ عليكم ضعف الطلب في حماة، وإني أمرؤ أرغب في العلم، لهذا كله أسأذنتكم فأذنتم لي، وإني أعلم ما سأحمله من المشقة في البعد عنكم وعن إخواني، ولكن الغاية التي أطلبها تدفعني إلى احتمال المصائب وتلقِّي الشدائد، وقد قال لي أحد أشياخي لما ذكرت له أن الشوق لسيدي يكاد يحملني على العدول عن الأزهر: ( إن هذا السفر سعادة نلتها بسر شيخك. وذكر لي أن الذي يريد نشر الطريق في حماة، ينبغي أن يكون واسع العلم، لا يعبأ بالمنكرين، بل يقيم الحجة عليهم، ويلزمهم الحق بالدليل، وهذا أمر لا تقدر عليه بدون تعلمك في الأزهر الشريف ) فوجدت لقوله وجهاً من الصواب " .اهـ
وسافر إلى مصر وهو يظن أنه يفاجأ باختلاف كبير، فقد سبقت مصر البلاد العربية في تأثرها بأفكار الغربيين وعاداتهم، فانتشر فيها السفور والاختلاط بين الرجال والنساء إنتشاراً كبيراً، ولم يستطع رحمه الله تحمل رؤية المنكرات، فما كان منه بعد بضعة أيام من وصوله، إلا أن عاد إلى حماة. ولكن الناس في حماة استهجنوا عودته، ولاموه أشد لوم، وأصبحت عودته حديث الأندية، فأينما ذهب تأخذه الأبصار، وحيثما سار تتبعه الغمزات و الابتسامات، وسبب ذلك أن الناس كانوا ينظرون إلى الأزهر نظره إجلال وإكبار، ويعتبرون الدراسة فيه نعمة كبرى، ولهذا استقبلوا سيدي رحمه الله بما استقبلوه به، وأنكروا عليه إنكاراً لم يستطع احتماله، فكر راجعاً إلى مصر وترك حماة ليلاً، ولم يتمكن من زيارة شيخه لوداعه.
والحقيقة أن ما يراه الزائر لأول وهلة في مصر، لا يعبر عن حقيقة المجتمع المصري، فالمجتمع المصري ينطوي على خير كثير، ولا يزال في مصر الكثير من العلماء والصالحين، وهذا ما حصل لسيدي رحمه الله، فبعد بضعة أشهر تغير نظرته إلى المجتمع المصري؛ وانقلب الكره والنفور عنده إلى محبة لمصر وأنس بالمصريين، فتعرف على كثير من الصالحين، وأقام صداقات قوية معهم، واشتهر بلقب الشيخ الحموي، وكانوا يراسلونه عندما يعود أثناء العطلة الصيفية إلى حماة.
وفي مصر تعرف على الشهيد حسن البنا رحمه الله تعالى، وتحولت هذه المعرفة إلى علاقة حبيبة عالية بينهما، وإلتقى بالعالم الكبير الشيخ زاهد الكوثري رحمه الله تعالى([3]) ، وقد نصح سيدي أن لا يختلط بالناس كثيراً، وذلك لما لاحظه عند سيدي من شدة نفوره من المنكرات، وتألمه من رؤيتها، وفيها تعرف على الرجل الصالح، والعالم العامل، فضيلة الشيخ مصطفى الحمامي رحمه الله تعالى، تأثر به كثيراً وأعجب بصلاحه وتقواه، وكان كثير الزيارة له.
ومن الملاحظ أن أكثر الذين تأثر بهم سيدي في مصر، كانوا من خارج الأزهر، ولم يستفد من الأزهر زيادة في علمه. فقد قالوا له بعد إختبار الانتساب إلى الأزهر: " إنك عالم لا تحتاج إلى الدارسة فيه "، ولكنه كان يعلن أنه استفاد من دراسته في الأزهر طريقة تحقيق المسائل وتدقيقها، وهو أمر ظاهر في آثاره العلمية وفي أجوبته الفقهية، وكان زملاؤه في الدراسة يدهشون من كثره معلوماته، وغزارة محفوظاته، وخاصة في الأحكام الفقهية.
الاستقرار في حماة
وفي عام 1362هـ / 1942م عاد رحمه الله إلى حماة، ليعيش آخر مراحل حياته. وفي هذه المرحلة أثمرت جهوده، وأينعت ثماره، ومع أنها مرحلة الاستقرار؛ فإنها كانت أكثر مراحل حياته، تعباً ومشقة، فهي مرحلة الجهاد، فلما عاد الشيخ إلى حماة، كانت البلاد في ذروة جهادها الوطني من أجل الحصول على الاستقلال، وهذا أحد الأسباب التي دفعت الشيخ للرجوع إلى بلده. ليضم صوته إلى أصوات المطالبين بالاستقلال، ويذكي بخطبه الحماسية جذوه النضال والجهاد في قلوب الأمة، داعياً إلى الثورة على المستعمرين، وتطهير البلاد منهم، وهو الأمل من عمره الذي كان يراوده منذ رآهم يدخلون البلاد، وكان وقتئذ في العاشرة من عمره، ودعا الله سبحانه وتعالى ببراءة الطفل وصفائه، أن يريه خروجهم من حماة كما شاهد دخولهم، ولقد حقق الله أمنيته هذه، وأقر عينه برؤيتهم يخرجون من نفس الشارع، ومن أقواله ضد الإستعمار " أيها الإخوان لقد استخفت فرنسا بنا، وخاست بكل العهود، ولم ترع للمواثيق حرمة، لقد طلبت منا آخراً أن نقبل أموراً، فيها ترسيخ أقدامها في هذه البلد واستعباد أهلها، فاغضبوا ثم اغضبوا، وثوروا ثم ثوروا، فما عاد السكون ينفع، وما عاد السكوت يفيد، لقد كان نبيكم صلوات الله عليه وسلامه يرتجز هو وأصحابه قائلين : *
إن المشركين قد بغَوا علينا=وإن أرادوا فتنة أبَيْنا أبَيْنا أبَيْنا
وما أجدرنا إعادة ذلك الرجز قائلين :
هذي فرنسا قد بَغَت علينا=وإن أرادتْ فتنةً أبيْنا
أبَيْنا أبَيْنا "
ولم ينقطع - رحمه الله تعالى - خطبة المنبرية أيام الجمع في أشد ساعات الخطر، فلقد خطب وطائرات المستعمرين تضرب حماة، وتلقي قنابلها على المساجد؛ ولما وقت مأساة فلسطين، تألم الشيخ كثيراً، ودعا إلى الخروج للجهاد وأراد أن يخرج بنفسه، ولكن كبار العلماء أشاروا عليه بالبقاء لحاجة الأمة إليه، ولكثرة عدد المجاهدين، ولقد استحوذت قضية فلسطين على اهتمامه، فخصص لها الكثير من خطبه المنبرية، وكتب عنها عدداً من المقالات في الصحف والمجلات، وكان يرى رحمه الله تعالى، أن حالنا مع اليهود لا تحلها إلا القوة، وكان دائم الوصية للشباب، لينضموا إلى الجيش، ويكونوا من ضباطه وجنوده، وفي عام 1956م أثناء الاعتداء الثلاثي على مصر انضم الشيخ إلى صفوف المقاومين الشعبيين، وحمل السلاح بنفسه، وكان يخرج على رأس إحدى المجموعات إلى حقول التدريب .
جهَادُهُ الاجتماعي
منذ أن استقلت البلاد، أدرك الشيخ –رحمه الله تعالى –أن الأمة أصبحت على مفترق الطرق، فقد ظهرت فيها دعوات مختلفة الاتجاهات، تدعو إلى الميوعة، والتحلل من التكاليف الدينية، ونشر الفساد في البنية الاجتماعية للأمة؛ وذلك بتشجيع السفور والتبرج، واختلاط الرجال والنساء؛ فضلاً عن أفكار تشكك الناس بعقيدتهم وتدفعهم إلى الإباحية والإلحاد.
ورأى أن واجبه الأول في هذه الحياة، أن يقف في وجه هذه التيارات، وأن يعمل للحفاظ على عقيدة الأمة وذاتيتها المستقلة، وكيانها المتميز، فقام رحمه الله تعالى بهذا الواجب، متحملاً كل متاعبه ومسؤولياته، ومعرضاً نفسه لمخاطر جسيمة .
جهَادُهُ التعليمي
المدرسة والمسجد هما الميدانان الرئيسيان لجهاده التعليمي. أما المدرسة فقد كانت مركز عمله الرئيسي، فمنذ أن عاد من مصر، اختار طريق المدرسة، وفضله على منصب القضاء، لأنه رحمه الله كان حريصاً على نشر العلم، مع أن منصب القضاء كان ميسراً له.
أما المسجد، فقد كان الميدان الثاني لجهادة التعليمي، وكما كانت وسيلة لاتصاله بالطبقة المثقفة في الأمة، كان المسجد وسيلة اتصاله بأفراد الأمة جميعاً، يلتقي بهم كل جمعة في خطب المنبرية التي كان يتناول فيها موضوعات مختلفة. بعضها في العقيدة، وبعضها في عرض مسائل علمية يحتاج إلى معرفتها الناس، ويختار في أكثر خطبه المواضيع ذات الصلة بحياة الأمة.
المرحلة الأخيرة
وما ترك رحمه الله تعالى ميادين جهاده هذه حتى آخر حياته، إلى جانب أعماله العلمية الكبيرة، وواجباته الاجتماعية الكثيرة، ولم يفطن - رحمه الله تعالى –وهو في خضم أعماله ومسؤولياته إلى العلة التي تسربت إلى كبده، والتي ساعد على سرعة سريانها الأثقال الكثيرة التي ينوء بحملها العديد من الرجال. ولما بدأ أثرها يظهر في إضعاف جسده، كان - رحمه الله –يتألم لما يشعر به من ضعف ويعجب منه، ومع ذلك كان يجاهد ضعف جسمه بقوة روحه وشدة عزمه؛ أصدق إنسان في هذا، الأخ الطبيب، السيد سلمان نجار حفظه الله تعالى، لأنه كان ألصق الناس بروح الشيخ وقلبه وجسده ، شرفه الله تعالى بخدمة الشيخ وملازمته طيلة فترة المرض .
تشمع الكبد ([4] )
هو ازدياد النسيج الليفي في الكبد، مع اضطرابات في انتظام الخلايا ووظائفها. وله أسباب كثيرة معروفة؛ وهو مرض مزمن عضال، لا يقبل التراجع فيما أصاب من خلايا الكبد، وغاية المعالجة الدوائية فيه بصورة عامة، تعويق امتداده إلى ما تبقّى من خلايا، أو إيقافه.
لمحة عن الدوران في الكبد
يرد إلى الكبد وريد الباب الذي يأتي بالدم من معظم أحشاء البطن، ويصدر عن الكبد أربعة أوردة تسمى بالأوردة فوق الكبد، تصب في الوريد الأجوف السفلي، وهو بدوره يصف في الأذينة اليمنى من القلب، ويغذي الكبد الشريان الكبدي، وفي الكبد نظام دوراني معقد لا يتسع المجال لشرحه.
لمحة عن وظائف الكبد
تعتبر الكبد أكبر غدة في الجسم، ومما يدل على أهميتها البالغة، أن خلاياها البسيطة، تشترك في معظم أعمال البدن، التي يستحيل بعضها دون تدخل عمل الكبد، ومن المعروف أن استئصال الكبد مميت بعد ساعات قليلة، ومن أهم وظائفه:
*وظيفة إفرازية : ( عمل الصفراء وإفراغها ) .
*وظيفة إستقلابية : ( تستقلب بها المواد الغذائية المختلفة التي تمتص عن طريق جهاز الهضم ) .
*وظيفة تخريب السموم .
*وظيفة تكوين الدم .
*وظيفة التخثر الدموي .
*وظيفة تولد الحرارة .
ماذا ينتج عن تشمع الكبد
1- ضعف وظائف الكبد جميعها ، مما يجعل الحياة متعذرة في مراحل المرض الأخيرة.
2- فرط توتر وريد الباب، وتكوين دوالي المريء: يتسبب فرط توتر وريد الباب عن الركودة الدموية المتأتية عن تضيق شعبه الدقيقة في الكبد، وانسداد بعضها لازدياد النسيج الليفي فيه ( والشعب الأخرى في طريق الانسداد ) مما ينتج عنه ضخامة الكبد ( التي تضمر أخيراً ) والطحال، واحتقان الأحشاء التي يصب دمها في وريد الباب فيؤدي إلى تكوين دوران جانبي معيض، تنشأ عنه دوالي المريء المؤدية إلى النزف بانفجارها والقضاء على حياة المريض ، قبل أن يقضي عليه التشمع بالذات.
3- تكوين الحبن: وهو سائل يتجمع في جوف البطن، وتشترك فيه ثلاث عناصر:
أ- فرط توتر الدم في وريد الباب .
ب- نقص مادة الآلبيومين من مصل الدم ( لأن صناعة الآلبيومين من وظائف الخلية الكبدية ).
ج- اضطراب هرموني في توازن العوامل المدرة والمضادة - للإدرار ، فتتقلب العوامل الأخيرة، ويزداد حبس السوائل في البدن.
العمل الجراحي
إن غاية العمل الجراحي، تخفيف الضغط عن وريد الباب بإجراء وصلة بينه وبين الوريد الأجوف السفلي فيزول الدوران المعيض، وينفى خطر النزف من دوالي المريء المتكونة، ويخف الحبن، ويفسح المجال أمام ما تبقى من خلايا الكبد للنشاط والتجدد إن أمكن، فيترك عندها المريض ضمن إمكانيات كبده، آمناً من خطر النزف الذي يقضي على حياته، قبل أن ينتهي عمر كبده
ظهور المرض
كان مرض الشيخ رحمه الله تعالى كما وصفته مرضاً عضالاً، من أهم أسبابه، تلك الأحداث الخطيرة التي واجهته في حياته؛ سواء منها ما حل ببلدته حماة خاصة، أو ما حلّ بالعالم الإسلامي عامة، وكثيراً ما كنت أسمعه يقول بيني وبينه: " أخشى أن أقع في مرض عضال لا أشفى منه " وقد حدث فعلاً ما كان يخشاه، إذ وقع فريسة لمرض السكري منذ أكثر من خمس سنوات، ثم كشف عنده قبل وفاته بسنة تقريباً، أنه مصاب بتشمع الكبد الذي ظهر بعرضه الخطر المسمى بالحبن، وإن السكري عنده مظهر لضعف الكبد، بسبب إختلال وظيفته الاستقلابية، وليس ناشئاً عن قصور غدة المعثكلة ( البانكرياس ) والتي تعتبر المتهم الأول لظهور السكري، عند الأشخاص الذين هم في مثل سن الفقيد رحمه الله تعالى.
والشيخ كان مشغولاً عن مرضه بجهادة العلمي الطويل الذي ملك عليه أوقاته، ولم يفسح له المجال لتتبع أسباب علته تتبعاً دقيقاً، بالسفر إلى أطباء مختصين؛ ونصحه الطبيب المختص " موفق المالكي " - أسعده الله تعالى –بتركه سبعين بالمئة من أعماله التي اعتاد عملها، وكانت هذه هي نسبة إصابة الكبد عنده.
تطور المرض
ثم تطورت عنده العلة، وداهمة العرض الأخطر لتشمع الكبد وهو النزف الداخلي الشديد المتسبب من إنفجار دوالي المريء، والذي تكرر ثلاث مرات في حماة، كاد يودي بحياته، لولا أن تداركته عناية الله تعالى، بما بذله أطباء بلدته الكرم من إسعافات، كنقل الدم، وسهر متواصل على صحته الغالية، وخاصة الطبيب المؤمن عبد الرزاق الكيلاني، وقد التف تلامذته ومريدوه حول بيته الشريف المتواضع، لا ينامون الليل طيلة ثلاثة أشهر قبل سفره إلى بيروت، بقلوب وجلة، وأعين ساهرة، أن يداهم حبيبهم الغالي ما يكرهون، وليسعفوه بدمائهم الزكية، لأن كل واحد منهم يعتقد أن حياته لا قيمة لها إلا بالمحافظة على حياة حبيبه، الذي حل منه محل الروح من الجسد، والسواد من العين. ولقد كان يقول –رحمه الله تعالى –أمام هذه المشاعر الفياضة والعواطف الجياشة: "إنه أن شفي من مرضه هذا ، فسيعمل للإسلام –وكأنه ما عمل قط !!! وأن عمله كله سيكون جارياً في صحائفهم " ويضفي على كلامه شيئاً من دعابته المعهودة، وخفه روحه المألوفة، فيقول: " كيف لا وأنا أعيش بدم غيري ! وقد جدد دمي مرتين ! " أي عشرة لترات تقريباً.
ومع أنه في هذه الحالة التي يرثى لها، لم يترك جهاده العلمي، وبيان الحقائق الشرعية في هذه الحال؛ بل إنه لم يترك ذلك. ويدلك على مبلغ حرصه، أنه كان يستحلف بالله الأشخاص الذين كانوا يوصلون إليه الرسائل التي ترده من البلاد والآفاق، هل أخفى أحد منهم رسالة عنه؟ ويقول : " ما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه في غمده حتى لقي ربه ".
السفر إلى بيروت
الخميس 24ذي الحجة سنة 1388هـ الموافق 3آذار سنة 1969م بعد زيارة الطبيب المالكي له في حماة، تقرر سفره إلى بيروت لدراسة إمكانية عملية جراحية، من شأنها قطع النزف وتخفيف الحبن، وتركه بعدها يعيش ضمن إمكانية كبده، ومن المواقف التي أذكرها ولا أنساها قبل وفاته بشهرين تقريباً، ساعة الوداع، عندما غادر بيته المبارك متوجهاً إلى لبنان، وقد تحلق حوله لفيف من محبيه وتلامذته، يكفكفون دموعهم، ويكتمون زفراتهم، خشية أن يتأثر فضيلته –رحمه الله –من هذا الموقف، وخوفاً منهم أن يكون آخر عهدهم بحبيبهم وحبة قلوبهم، وكأن ابن زريق عناهم بقوله :
ودعتُه وبودي لو يودعني=صفوُ الحياة وأني لا أودعهُ
وفي الطريق إلى بيروت، كنت ثالث ثلاثة من أطباء بلدته، رافقناه لنرعى شأنه، ونسعفه إذا احتاج الأمر، ولما وصلنا إلى حمص زار قبر شيخه سيدي: محمد أبي النصر خلف النقشبندي قدس الله سره ( [5]) . والذي كانت له المنزلة الأولى في نفسه حياً وميتاً، وفاءً له وتبركاً بروحه الطاهرة.
في مُسْتشفى المقاصد الإسلامية
وقد كتب لي شرف الخدمة بجوار سريره المبارك في مستشفى المقاصد الإسلامية في بيروت، وكنت أرى الوفود الكثير المختلفة من أهل العلم وغيرهم، يتسابقون للتشرف بزيارته، وسماع حديثه العذب، ولطالما سمعوا عن فضيلته الكثير الطيب ولم يروه.
وكنت اقول له رحمة به: " لا تنس أنك مريض "، ويجيبني: " إن الله تعالى سائلي عن هذا العلم ماذا صنعت به؟ فبم أجيبه؟ وقد يسر لي التحصيل العالي، وسماع الكلمة، وقبولها عند الناس، وقد جاءوني وأنا أحب أن أنصح لهم لله تعالى ".
وأذكر أنه زاره شيخ شابٌ، كان على جانب عظيم من المحبة لفضيلة الشيخ رحمه الله تعالى، رقم حداثة عهدة به. وما أن لاحت أمام ناظريه، وأن فضيلة مولانا أحد الأقطاب المؤسسين للمجلس الشريف في الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حماة، وغيرها من البلاد الشامية، حتى اشتعلت في قلبه محبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، وطلب إجازة من الشيخ رحمه الله تعالى في إقامة مجلس شريف في الديار اللبنانية، لتعود على لبنان بالخير والبركة. فأجابه رحمه الله وشجعه على ذلك، وقال: " لو استطعت أن آمر حفظتي بالصلاة عليه لفعلت ". وكان هذا المجلس الشريف من بركة زيارته إلى بيروت رحمه الله تعالى.
النزفة الرّابعَة
وفي خلال إقامة مولانا - قدس الله روحه الطاهرة - في المستشفى، فاجأه النزف الرابع قبل إجراء العملية الجراحية، لكنه مر بسلام بعونه تعالى، وتداركه أطباء المستشفى بالسرعة المطلوبة.
ومن طريف ما حدث أن زاره أحد الشبان، فأحبه لمجرد رؤيته له، وسارع إلى التبرع بدمه، فاستوقفه إخوانه، لأن فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى لن يقبل منه هذا التبرع، إلا إذا تاب توبة نصوحاً، وعاهد نفسه على القيام بطاعة الله تعالى، وإقلاعه عما فرط به في حق نفسه، فقبلوا منه عند ذلك أخذ الدم.
قبيل العَمَليةِ الجرَاحيَّة
ولما كان النزف بشبحه الرهيب يتهدد حياة الشيخ رحمه الله تعالى، مرة في كل خمسة وعشرين يوماً، ومن المعلوم لدى أرباب مهنة الطب أنه كلما تكرر النزف؛ زاد مقداره، وعظم خطره، وقضى على المريض بشكل صاعق.
وعلى هذا، فالعملية من باب اختيار أخف الضررين، وأهون الشرين، وهي ملطفة وليست شافية، تعالج اختلاط المرض " وهو النزف " ولا تقضي على المرض الحقيقي، الذي لا يقبل التراجع ( وهو تشمع الكبد ). وهذه العملية تجري في بيروت كأي بلد أوروبي متقدم طبياً؛ وهذا مما أثلج صدر فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى، ووافق رغبته بإجرائها في بلد إسلامي، لا يغيب عنه صوت المؤذن فيه، كما كان يقول.
وإني لأشهد أن ذلك الطبيب المؤمن ([6]) ، أضفى على فضيلة مولانا رحمه الله كل عنايته، التي استمرت نحواً من شهرين، وهي مدة المكث في بيروت، وكم كنت أعجب من شدة محبته للشيخ رحمه الله تعالى، وتعلقه به في هذه الفترة الوجيزة التي تعرف بها عليه .
العملية الجراحية
الثلاثاء بتاريخ 1 / نيسان / 1969م وفي صباح اليوم الذي حدد لإجراء العملية الجراحية، دخلت على فضيلة مولانا - قدس الله سرَّه - في حجرته، فوجدته يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، وسبحته في يده الشريفة، رابط الجأش، هادئ النفس، مستسلماً لقضاء الله وقدره، فلما رآني قال لي: " يا بني اشهد بأني مسلم، مؤمن بالله ورسالاته ". ثم أحضر إلى غرفة العمليات، وهو لا ينفك عن ذكر الله تعالى في قلبه الشريف، كما هو معهود عن السادة النقشبندية في مثل هذه الأحوال، ولقد شاهدت مع اثنين من أطباء حماة العملية التي كانت على درجة عظيمة من الصعوبة، استغرقت نحواً من ست ساعات ونصف، ولم يستعمل خلالها مخدر، يؤثر على الكبد الضعيف تأثيراً ضاراً، وقد نجحت، وخرج فضيلة مولانا رحمه الله تعالى بسلام.
فَترة الصَّحو
وفي خلال الفترة التي أعقبت العملية، حيث يبقى المريض تحت تأثير المخدر لمدة ما، كان فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى، لا ينفك عن ذكر الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقراءة القرآن الكريم بشكل صحيح، وضبط متقن للآيات الكريمة، حتى إنه كان يجيب ولده عندما كان يسأله عن موضع الآية من سور القرآن الكريم، وهو أمر غير معهود في مثل هذه الحال، إذ تصيب المريض اضطرابات تعتري تفكيره، وهذيان، وبوح للأسرار .
كما أذكر من خلال هذه الفترة، أنه كان يأمرنا بالتصدق على الجيران، وتهيئة الطعام للعصافير التي اعتاد أن يطعمها يومياً في بيته المبارك؛ لشدة رحمته بالحيوان، وشفقته على الضعفاء من خلق الله تعالى، كما أريد أن بمزيد من العجب، كيف كان فضيلة مولانا –قدس الله روحه –يفيق في أوقات الصلوات، وكأن إنساناً يوقظه ن فيصلي مضطجعاً على قدر استطاعته، ثم يعود بعدها إلى الإغفاء، بسبب بقاء أثر المخدر في جسمه الشريف.
وقد حدث أن صحا فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى بعد ذلك، صحواً جيداً لفترة لا بأس بها، زاره خلالها كثير من إخوانه وأحبابه من شتى البلاد، وتهافتت عليه البرقيات والمكالمات الهاتفية من بلدته الكريمة حماة وغيرها ، للسؤال عن صحته، وتهنئته بنجاح العملية الجراحية، وهو يحمد الله تعالى، ويشكره على ذلك.
حَفاوة العُلمَاء بعَالم الأوليَاء
وكان رحمه الله تعالى، من الذين يقال فيهم: " من كانت له فكرة، كانت له بكل شيء عبرة". فكان إذا ظهر الصباح، قال: " النهار من آثار صفات الجمال لله عز وجل "، وكان لا يترك صغيرة ولا كبيرة، إلا ويوجهنا إلى الحكم الشرعي، والأدب مع الله تعالى فيها. وإني لأذكر إذ كنت واقفاً تلقاء قدميه الشريفتين، أدلكهما لآلام حلت بهما من طيلة المكث في السرير، فأشار إليَّ بالتنحي عن وجهة قدميه، لأن القلم الذي أحمله في صدري، أصبح قبالة قدميه الطاهرتين، وهذا لا يليق بالقلم، مشيراً إلى القلم الذي ذكره الله تعالى في اللوح المحفوظ، وتأدباً مع سلاح العلم والعلماء.
قبَيل العَودَة إلى حماة
ثم أخذت صحته تسير نحو الإنحدار شيئاً فشيئاً، وهو آسف لذلك أشد الأسف؛ يتمنى أن تكون صحته في حالة تسمح له بقيام الليل، وعبادة الله تعالى في جوفه، وذلك عندما كان يفيق أثناء الليل إفاقات متقطعة. ولشد ما كان حزنه وأسفه، يتضاعف إذا سمع نداءات المؤذن يدعو إلى صلاة الجمعة، فيبكي ويقول : " أنا كنت أجمع الناس للجمعة وأخطبهم، وأنا الآن لا أستطيع أداءها. والله إنها لحرقات في قلبي ".
وَدَاعُهُ الدّنيَا
و قبيل عودته إلى حماة، ألمت به وعكة شديدة، قال لي خلالها: إنه سوف ينزل إلى حماة بعد خمسة أيام إن شاء الله تعالى. وعلى أثر هذه الوعكة، عزف عن الطعام والشراب، وذكر الأصحاب والأحباب، كأنه قد ودع هذه الدنيا، فاتجه بقلبه إلى ربه، لا يشرك أحداً في حبه، مازجاً مرارة الألم بحلاوة الإيمان، فأشهد أنه راضٍ عن ربه سبحانه وتعالى.
العودة إلى حماة
السبت 16 صفر لعام 1389هـ الموافق 3 أيار 1969م . وبالرغم مما كان يعانيه فضيلة مول
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول