الشيخ عبد القادر أرناؤوط - العالم المحدث
 
عبدالقادر الأرناؤوط العالم المحدث الواعظ الداعية
أَرومَتُه واسمُه :
ترجعُ أصول الشيخ إلى يوغسلافيا من بلاد البُلقان، فقد ولد في قرية (فريلا/ vrela) من إقليم كوسوفا، سنة 1347هـ الموافق سنة 1928م، وسمَّاه أبوه باسم: قَدْري، غير أنه أطلق على نفسه في أوائل شبابه اسم: عبد القادر الأرناؤوط، وبه اشتُهر بين الناس، وهو الاسمُ الذي يثبتُه على أغلفة كتبه وتحقيقاته، غير أن اسمَه بقي في الأوراق الرسمية: قَدْري بن صُوقَل الأرناؤوط، أما نسبُه العالي فهو: قَدْري بن صُوقَل بن عَبْدول بن سِنان بْلاكاي الأرناؤوط.
لم تطُل إقامةُ الطفل قَدْري في موطنه، فقد رحلَ به أهله وهو ابنُ ثلاث سنين، (عام 1931م)، مُهاجرين إلى الشام، فرارًا بدينهم من الهجمَة الشُّيوعيَّة الوحشيَّة على بلادهم، واستقرَّ بهم المقامُ بدمشق، فنشأ فيها وترعرَع، واكتسب لسانَ أهلها وعاداتِهم، فلا تحسَبُه إلا دمشقيًّا عتيقًا أصيلاً، مع مُحافظته على لسان أجداده، فبقي مُجيدًا للغته الأولى الألبانيَّة قراءة وكتابة وتحدثًا.

دراستُه وشيوخُه :
انتسب الشيخُ في أول دراسته الابتدائيَّة إلى مدرسة الأدب الإسلاميِّ، ودرس فيها سنةً واحدة فقط، ثم تلقَّى سائرَ تعليمه الابتدائيِّ بمدرسة الإسعاف الخيريِّ، ونال منها الشهادةَ الابتدائيَّة، وهي الشهادةُ الوحيدة من شهادات الدِّراسة النِّظامية التي حصَّلها، فلم يتابع بعدَها في المدارس الرسميَّة، بل اختَلَف إلى حَلَقات العلم في المساجد، يقرأُ على بعض العُلَماء والمشايخ، وهو ما يزالُ في رَيْعان الفُتوَّة وطَراءة الصِّبا.
ومن العُلَماء والمشايخ الذين قرأ عليهم وتخرَّج بهم:
- الشيخ صُبحي العَطَّار رحمه الله: وهو مَغربيُّ الأصل، وقد كان أستاذَه في مدرسة الإسعاف الخيريِّ، قرأ عليه خَتمةً من القرآن الكريم مع التجويد والإتقان، وأفاد منه كثيرًا في الفقه الحنَفيِّ.
- الشيخ المقرئ محمود فايز الدَّيرعَطاني رحمه الله: وهو تلميذُ شيخ قرَّاء الشام محمد الحُلواني الكبير رحمه الله، قرأ عليه شيخُنا القرآن كاملاً بالمدرسة الكامليَّة، وكان بصَدَد جمع القراءات عليه، إلا أنه آثرَ التفرُّغَ لعلم الحديث الشريف وحفظ السنَّة النبويَّة. وقد كان الشيخُ الدَّيرعَطاني شديدَ الإعجاب بقراءة تلميذه، لا يَفتَأُ يقولُ له: إنك تقرأ القرآنَ بالسَّليقَة.
- الشيخ سُلَيمان غاوْجي الألباني رحمه الله: قرأ عليه الشيخ في علمَي النحو والصَّرف.
- الشيخ محمد صالح الفُرْفور رحمه الله: وهو مؤسِّسُ جمعيَّة الفتح الإسلاميِّ ومعهدها الشرعيِّ، وقد لازمَه الشيخ زُهاءَ عشر سنوات، وتخرَّج به في الفقه الحنَفيِّ، والتفسير، وعلوم العربيَّة.
- وقرأ الشيخ على غيرهم من العُلَماء، وحضَرَ دروسَ كثير من المشايخ في مسجد بني أميَّة الكبير.

مهنتُه وعمَلُه:
رغبَ والدُ الشيخ - بعد تخرُّج ولده في المدرسة الابتدائيَّة- أن يكتسبَ مهنةً تكون له سندًا وأمانًا، يستعين بها على مُتطَلَّبات الحياة في قابل الأيام، ويتَّقي بها صُروفَ الدهر وغِيَرَهُ، فأخذ بيده ومضى به إلى حيِّ (المِسْكِيَّة) القريب من المسجد الأُمَويِّ، يبحث له عن مهنةٍ شريفةٍ يتعلَّمُها، وبينا هما يبحثان أبصرَ الأب شيخًا ساعاتيًّا ذا لحيةٍ سوداءَ وعِمامَةٍ بيضاءَ وجُبَّة، فأحسن الظنَّ به، وعرَضَ عليه أن يعلِّمَ ولدَه مهنة إصلاح الساعات، ولما عرَفَ الرجل أنهما غَريبان، ممَّن هاجر من كوسوفا إلى الشام، استجابَ لطلَبهما؛ حبًّا وكرامة.
ذاك الشيخُ الساعاتيُّ اسمه: سعيد الأحمَر التَّلِّي، وكان متخرِّجًا في الأزهر الشريف، وقد لاحَظَ على الشيخ حبَّه للعلم، وتطلُّعَه إلى تحصيله، فرأى أن يختبرَه ببعض العُلوم، فطلب منه أن يُسمعَه شيئًا من القرآن، فقرأ له آياتٍ منه مرتَّلَةً مجَوَّدَة، فسُرَّ بقراءته الحسَنة المتقَنة، ثم اختبَرَه في بعض أبواب النحو والصَّرف، فأظهرَ براعةً ومعرفة، وكان الوقتُ رمضان فسأله عمَّن لا يجبُ عليه صومُ رمضان، فأجابَهُ ببيتَين من النَّظْم كان حَفظَهُما من شيخه صبحي العَطََّار في المدرسة، وهما:
وعوارض الصوم التي قد يغتفر للمرء فيها الفطر تسع تستطر
حبل وإرضاع وإكراه سفر مرضٌ جهادٌ جوعة عطشٌ كبر

ولم يكتف الشيخ سعيدٌ بهذه الإجابَة، بل طلبَ منه تفسيرَ البيتَين، ولما أجابَه ابتَهَج وقال: يا بُنيَّ، أنت يجب أن تكونَ طالبَ علم، وشجَّعَه على ذلك، ومضى به إلى جامع بني أُمَيَّة، وضمَّه إلى حَلْقَة الشيخ محمد صالح الفُرْفور، ثم مضى به إلى المدرسة الكامليَّة؛ ليقرأ القرآن على الشيخ محمود فايز الدَّيرعَطاني.
لزمَ الشيخُ معلِّمَه سعيدًا الأحمر يتعلَّم منه مهنتَه، ويقرأ عليه في الفقه واللغَة، ولم ينقطع في أثناء ذلك عن حَلَقات العلم، يَحضُرها بعد صلاة الفجر، وعَقِبَ صلاتَي المغرب والعشاء. ومع انصِرام خمس سنواتٍ من المواظبة افتَتَح شيخُنا لنفسه محلاًّ للساعات، بعد أن مَهَر في إصلاحها، وحَذِقَ صَنعَتَها.
طلبُه لعلم الحديث وتَحصيلُه:
كان المشايخُ المدَرِّسون في الجامع الأمويِّ كثيري الاعتماد على كتاب الحافظ السُّيوطيِّ ((الجامع الصغير))، يَرْوون أحاديثَه ويستشهدون بها، وقد حُبِّب إلى شيخنا الرجوعُ إلى كتاب ((فيض القدير بشرح الجامع الصغير)) للمُناوي، يراجع فيه أحكامَه على الأحاديث التي أوردها السُّيوطي، وقد أحزَنَ الشيخ وأمضَّه ما كان يراه من كثرة استشهاد المشايخ والخُطَباء بالأحاديث الضَّعيفَة والمنكَرة والموضوعَة، ومن هنا تحفَّز لحفظ الأحاديث الصَّحيحة، ونشرها وإشهارها.
كان صحيحُ الإمام مسلم أوَّلَ كتاب من كتب السنَّة يقرؤه، ثم قرأ بعدَه صحيح البُخاريِّ، والسُّنَنَ الأربعة.
ومما تميَّز به الشيخُ: حفظُ أسماء رُواة السنَّة وأنسابِهم، وحفظُ تواريخ وَفَياتِهم.
عمَلُه في البَحث العلميِّ وتَحقيق التُّراث:
انضَمَّ - سنة 1377هـ الموافق سنة 1957م - إلى فريق البَحث العلميِّ وتحقيق التُّراث بالمكتب الإسلاميِّ ، إلى جانب كَوكَبَة من أعلام السنَّة والحديث والعلم في هذا العَصر، منهم: الشيخ محمَّد ناصر الدين الألباني رحمه الله، والشيخ شُعَيب الأرناؤوط حفظه الله.
هذا، ويظنُّ بعض طلاَّب العلم أن الشيخَ عبد القادر شقيقٌ للشيخ شُعَيب، وليس الأمرُ كذلك، بل هما أخَوان في الله، وزَميلا دراسة، وعمَل، ودَعوة.
استمرَّ الشيخُ في المكتب الإسلامي زُهاءَ عشر سنوات، أفاد منها إفادةً كبيرة في معرفة كتُب تراثنا الإسلاميِّ في شتَّى علومه وفنونه، وأحكَمَ فيها صَنعَةَ التحقيق العلميِّ إحكامًا، واضْطَلَعَ فيها بتحقيق عدد كبير من الكتُب العلميَّة الشرعيَّة ومراجعتها، منفردًا ومشاركًا.
فممَّا شارك في تحقيقه الشيخَ الألباني: ((مشكاة المصابيح)) للتِّبْريزي، أما الشيخُ شُعَيب فقد شاركَه في تحقيق غير قليل من الكتُب، منها: ((روضَة الطالبين)) للإمام النَّوَوي، في الفقه الشافعيِّ، و((الكافي)) للإمام موفَّق الدين بن قُدامَة المقدِسي، في الفقه الحنبليِّ، و((زادُ المسير في علم التفسير)) للإمام ابن الجَوزي.
نتاجُهُ العلميُّ :
حُبِّب إلى الشيخ نشرُ تراث أسلاف أمَّتنا من العُلَماء الصالحين العاملين، وتحقيقُه، والعنايةُ به، وكان يفضِّل تحقيقَ التراث على التأليف.
وقد أكثرَ الشيخُ من التحقيق، حتى أربَت كتُبه المحقَّقة على خمسينَ كتابًا، ومن أهمِّ ما أخرجه زيادةً على ما تقدَّم:
((جامعُ الأصول في أحاديث الرسول)) لابن الأثير الجَزَري، في خمسةَ عشرَ مجلَّدًا، و((مختصَر مِنهاج القاصِدين))، و((لُمعَة الاعتقاد))، و((كتاب التوَّابين)) لابن قُدامَة المقدِسيِّ، و((الأذكار))، و((التِّبيان في آداب حَمَلَة القُرآن)) للنَّوَوي، و((مُختَصَر شُعَب الإيمان)) للبَيْهَقي، و((الحِكَمُ الجَديرَةُ بالإذاعَة)) لابن رجَب الحنبَليِّ، و((الإذاعَةُ لما كان ويكونُ بين يدَي الساعَة))، و((يقَظَةُ أولي الاعتِبار بذِكْر الجنَّة والنار)) لصِدِّيق حسن خان، و((كِفايَةُ الأخيار في حَلِّ غايَة الاختِصار)) للحِصْني، و((الفِتَنُ والملاحِم))، و((شَمائلُ الرَّسول)) لابن كَثير.
وكان للشيخ عنايةٌ خاصَّة بكتُب شيخَي الإسلام ابن تيميَّة وتلميذه ابن القيِّم، فممَّا أخرجه لابن تيميَّة:
((رَفعُ الملام عن الأئمَّة الأعلام))، و((المسائل الماردينيَّة))، و((قاعِدَةٌ جَليلَة في التوَسُّل والوَسيلَة))، و((الفُرقان بين أولياء الرَّحمن وأولياء الشَّيطان))، و((الكَلِمُ الطيِّب)).
ومما أخرجه لابن القيِّم:
((زادُ المعاد في هَدْي خَير العباد)) بالاشتراك مع الشيخ شُعَيب، و((جِلاء الأفهام))، و((الوابِلُ الصَّيِّب))، و((الفُروسيَّة))، و((عِدَةُ الصابرين))، و((فَتاوى رسول الله صلى الله عليه وسلم)).
أما التأليفُ فلم يؤلِّف سوى رسالتين صَغيرتَين، الأولى بعنوان: ((الوَجيز في مَنهَج السَّلَف الصالح))، والرسالةُ الأُخرى بعنوان: ((وَصايا نبويَّة))، اشتملت على خمسة أحاديثَ نبويَّة شريفَة، اختارها الشيخُ وشرحها شرحًا موجَزًا مُفيدًا، وهي من جَوامع كلمه صلى الله عليه وسلم.
عمَلُه في التعليم والدَّعوَة :
سلَخَ الشيخُ من عُمره المبارك أكثرَه بين المنابر والمحابر؛ مُدرِّسًا ومُحاضرًا وخطيبًا، وكان تولَّى الخطابةَ وهو في أوائل العِقْد الثالث، نحو سنة 1369هـ الموافق سنة 1948م، في جامع الأرناؤوط بحيِّ الدِّيوانيَّة، حيثُ استوطَنَت الأُسَر اليوغسلافيَّة المهاجرة، وقد استمرَّ في خَطابَة هذا الجامع نحو خمسَ عشرةَ سنة، ثم انتقل إلى جامع عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه، وكان سعى في إنشائه مع بعض أهل الخير في حيِّ القَدَم جنوبيِّ دمشق، وبقيَ فيه عِقْدًا كاملاً، ثم كُلِّف بالخَطابة بجامع الإصلاح بحيِّ الدَّحاديل، ودامَت خُطبتُه فيه أكثرَ من عشر سنين، لينتقلَ بعده إلى حيِّ المِزَّة غربيِّ دمشق خطيبًا لجامع المحَمَّدي، الذي استقطَبَ آلافَ المصلِّين، جلُّهم من شباب الصَّحوة وطلاَّب العلم، وكان للشيخ درسٌ عامٌّ يعقده بعد كلِّ خُطبة، يجيب فيه عن أسئلة المستَفتين، وما زال الشيخُ خطيبًا لجامع المحَمَّدي حتى صدر القرارُ بعَزْله عن الخَطابة، بعد ثماني سنوات قَضاها فيه، وذلك سنة 1415هـ،
يقول الشيخ في سبب مَنْعه من الخَطابة: ألقيتُ في رأس السنة الميلاديَّة خُطبةً قويَّة، نصحتُ فيها شبابَ المسلمين بعدم تقليد النصارى، وتَرك مُجاراتهم في احتفالاتهم، وقد كان بعضُ المسلمين - ولا حولَ ولا قوَّةَ إلا بالله - يُشاركون النصارى في عيدهم، ويَشربون معَهُم الخمرَ، ويُراقصون نساءهُم .. فناديتُهُم من على المِنبَر: أن اتَّقوا الله، وذَروا ما أنتم عليه من مُتابعة للنصارى، وأورَدتُ في ذلك بعضَ الآيات فيهم، كقوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم}، ومن هنا قيل: إن هذا الشيخَ يُثير النُّعَرات الطائفيَّة ويَدعو إليها، وكان قرارُ المنع.
كان الشيخ يعطي خُطَبه حقَّها من التحضير وحُسْن الإلقاء، وكان رحمه الله خطيبًا مُفوَّهًا ، أمَّارًا بالمعروف نَهَّاء عن المنكَر، صادرًا في ذلك عن علم غَزير، وفكر سَديد، وبيان مُشرق، وحَميَّة لدين الله.
وكان الغالبُ على خُطَب الشيخ أن يبدأَها بسَرد حديث نبويٍّ شريف، مع ذكر الصَّحابيِّ راوي الحديث، والأئمَّة المخرِّجين، ثم يُتَرجمُ بإيجاز للصَّحابي والمخرِّجين، ثم يَشرَعُ في تفسير الحديث، واستنباط الفَوائد والعِبَر منه، يُدير الخطبَة كلَّها عليه، مُستشهدًا بعشَرات الآيات والأحاديث الدَّاعمَة للفكرَة، لا يذكُر حديثًا منها إلا مُخرَّجًا.
أما التعليمُ والتدريس فقد وَلَجَ مَيدانَه في وقت مُبكِّر أيضًا، حين انتُدبَ للتدريس في المدرسة الابتدائيَّة التي تخرَّج فيها، وهي مدرسةُ الإسعاف الخَيريِّ، في نحو سنة 1373هـ، وقد أُنيطَ به تدريسُ القرآن والتجويد وبعض العُلوم الأخرى، وفيها تجدَّد لقاؤه بشيخه صُبحي العَطَّار، الذي فرح فرحًا عظيمًا بتلميذ الأمس الصَّغير، الذي غَدا زميلَه في التدريس.
وفي سنة 1381هـ تحوَّل الشيخُ إلى المعهَد العربيِّ الإسلاميِّ، مدرِّسًا للقرآن والفقه، واستمرَّ فيه زمنًا، ثم انتقلَ إلى معهَد الأمينيَّة، الذي سُمِّي فيما بعد: المعهَد الشرعيَّ لطلاَّب العُلوم الإسلاميَّة، ثم أُطلق عليه اسم: معهَد الشيخ بدر الدِّين الحَسَني.
وكان للشيخ رِحْلاتٌ دعويَّة كثيرة إلى عدَد من دُوَل الخليج، يُلقي فيها المحاضرات، ويَلتقي أهلَ العلم والفَضل، إضافةً إلى رِحْلاتِه المتَتابعَة إلى بلده كوسوفا وما حولَها؛ لدَعوَةِ أهالي تلكَ البلادِ إلى الدِّين القَويم، وتَبصيرِهم بأحكام الإسلامِ العظيم، مُستفيدًا من إتقانه للُّغَة الألبانيَّة.
فكرُه ومَنهَجُه:
يتلخَّصُ فكرُ الشيخ ومَنهَجُه: باتِّباع سلَف الأمَّة من الصحابة والتابعين والعُلَماء العاملين رضوان الله عليهم، واقتفاءِ خُطاهُم، والنَّسج على نَوْلِهم، في التمسُّك بكتاب الله وسنَّة نبيِّه الصحيحة، والعمَل بمُقتَضاهما.
ومن تَمام نِعَمِ الله عليه أن أُوتيَ فطرةً في طلب العلم سَليمَة، تدعوه إلى البَحث عن الحقِّ، والحِرص على الصَّواب، من غير تَقديسٍ للأشخاص، أو تعَصُّب لرأي إمامٍ أو فَقيه، أيًّا كانت مَنزلَتُه في العلم، أو مكانَتُه في الفَهم، رائدُه في ذلك قولُ الإمام مالك: ((كلٌّ يؤخَذ من قَوله ويُترَك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم)).
شَمائلُه وسَجاياه:
كان الشيخ رحمه الله تعالى دَمِثَ الأخلاق، موَطَّأ الأكناف، يألَفُ الناسَ ويألفونَه.
وهو إلى هذا شديدٌ في الحقِّ، لا يُماري فيه ولا يُداري، بل يَصدَع بالنصح، غيرَ هيَّاب ولا متردِّد، وإذا ما انتُهكَت حُرمةٌ من حُرَم الله، تراه كالبُركان ثائرًا فائرًا، يكادُ يتميَّز من الحَنَق والغَيظ، يقول ما يُرضي ربَّه، ولا يخافُ في الله لومةَ لائم.
وكان فيه شُموخٌ وأنَفَة بيِّنَة، وعزَّة بالله ودينه عظيمَة، يَمقُت النفاق والمنافقين، ويشنأ طرائقَهم الملتوية وتسلُّقَهم على أكتاف الآخرين؛ في سبيل تحقيق مَنافعهم الخَسيسة، والفوز بمآربِهم الذَّميمة.
وكان الشيخُ رحمه الله عفَّ اللسان، واسعَ الصدر، حَليمًا، لا يغتاب أحدًا، ولا يُحبُّ أن يُغتابَ في مجلسه أحدٌ. وكان إذا ما سئل عن بعض العُلَماء والدعاة المخالفين له في المنهَج، لا يُجيب إلا بما يُرضي الله، مقدِّمًا حسنَ الظن والتماس العُذر.
كان الشيخُ كريماً معطاءً ذا يدٍ حانيَة، رَقيقًا عَطوفًا، لا يرُدُّ سائلاً، ولا يقصِّر في عَون، ما قَدَر على ذلك.
وقد بلَغَ مرتبةً من التواضُع عالية - مع الحفاظ على العزَّة والهيبَة فتَراه منبَسطًا في الحديث مع ضُيوفه وزوَّاره، يصغي إليهم ويوليهم من اهتمامه وعنايتِه ما يشعُرُ معه كلُّ واحد منهم أنه هو ربُّ المجلس، وكان من عادَته المحبَّبة التي يتألَّف بها قُلوبَ العامَّة، أنه لا يَدخُل بيتَه زائرٌ إلا رحَّب به بحرارة، وسأله عن اسمه ونسبه ومهنَته ومن أيِّ بلد هو، مع ما في ذلك من مشقَّة وإرهاق لشيخ يحبو نحو الثَّمانين، ولكنه كان يتقرَّب إلى الله بإدخاله السعادَة إلى قلوب الناس.
ومن خِصال الشيخ الحَميدَة: عظيمُ وَفائه لأصحاب الأيادي البِيْض عليه، وحتى شَيخُه محمَّد صالح الفُرْفور فإنه كان يذكُرُه بالخير دائمًا، ويدعو الله له بالرَّحمة والمغفرَة، بل كثيرًا ما كان يقول: لقد تعلَّمتُ من الشيخ صالح مَخافَةَ الله عزَّ وجَلَّ.
ووَفاءً لذكرى شيخِه ولمعهَده الشرعيِّ الذي أسَّسَه وهو معهَد الفتح الإسلامي: أهدى - قُبَيلَ وفاته - جزءًا من مكتبته العامِرَة الغَنيَّة [ 17 صُندوقًا ] إلى مكتبة المعهَد؛ لتكون وَقفًا على طلاَّب العلم الشَّرعي، وقد خُتمَت الكتُب كلُّها بالعبارَة التالية: (صدَقَةٌ جاريَةٌ لطلاَّب العلم، تقديمُ: عبد القادر الأرناؤوط، رجاءَ دعوةٍ صالحةٍ له ولزوجَته وأولاده).
وَفاتُه وجِنازَتُه :
فجرَ يوم الجمعة، الثالثَ عشرَ من شوَّال، من سنة 1425هـ، قَضى الله تعالى قَضاءَه الحقَّ بوَفاة الشيخ أبي محمود، وهو أوفَرُ ما يكون نشاطًا وصحَّة، عن ثمانٍ وسبعينَ سنةً قضاها في مَيادين العلم والتعليم، والنُّصح والتربية،
ولعل من بِشارات الخير للشيخ أن تكونَ وفاتُه عقبَ عبادات متتالية، فقد اعتمَر الشيخُ في شعبان، ثم صام رمضان، ثم أتبعَه بصوم الستِّ من شوَّال، وكان اليومُ السادس منها هو يومَ الخميس السابقَ ليوم وفاته.
وفي مَشهَد مَهيب خرج آلافُ المشيِّعينَ من العلماء والعامَّة تُجلِّلُهم الأحزانُ إلى جامع الشيخ زَيْن العابدين التُّونُسي بحيِّ المَيدان؛ لأداء حقِّ الشيخ عليهم، وتقدَّم ولدُه الكبير محمود للصَّلاة عليه عَقِبَ صلاة الجُمعة، وكان ألقى خطيبُ الجامع فضيلةُ شيخ قرَّاء الشام محمَّد كريِّم راجِح خُطبَةً مؤثِّرة ، أشاد فيها بمناقب فَقيد العلم والدعوة، ونوَّه بفقهه وفضله ونُبْل أخلاقه.
ثم وُوريَ الشيخ في مَثواه الأخير من دار الدنيا في مَقبَرة الحَقْلَة بحيِّ الميدان، لتُطوى صفحةٌ جديدَةٌ من صَفَحات العلم والدَّعوة والإرشاد.
رحمَ الله الشيخَ رحمةً واسعة، وجعَلَ قبرَه روضَةً من رياض الجنَّة، وأنزله منازلَ الشُّهَداء والصِّدِّيقين، وعَوَّض أمَّتنا خيرًا، ولا نقولُ إلا ما يُرضي ربَّنا: إنَّ لله ما أعطى، ولله ما
أخذ، وكلُّ شيء عندَه بأجَل، وإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حولَ ولا قُوَّة إلا بالله العَليِّ العَظيم

اختصرت من مقالة واسعة للأستاذ أيمن ذو الغنى نشرت على موقع الألوكة