الشيخ عبد الرحمن زين العابدين الصانع الماهر

 

بسم الله و الحمد لله و الصَّلاةُ و السَّلامُ على رسولِ اللهِ و على آلهِ و صحبِهِ و أتباعِهِ إلى يومِ الدِّين.

أمَّا بعد

ربما يقولُ قائلٌ: ماذا يفعلُ مهندسٌ على مِنَصةٍ، الحديثُ فيها يدورُ عن أحدِ أقطابِ الدِّينِ و علمائِهِ؟

و مَا علاقةُ الهندسةِ بِعُلومِ الدِّين و التَّميزِ فيها؟

فالذي يَعرِفُ الشَّيخَ عبدَ الرَّحمنِ زينَ العابدين رحمهُ الله يَعرفُ لماذا لا بُدَّ من وجودِ مُهندسٍ و بخاصةٍ مِيكانِيكيّ و الذي لا يَعرفُ مَنْ هُوَ الشيخُ المهندسُ عبدُ الرَّحمنِ فَليستمعْ في هذهِ العُجالَةِ إلى نُبذةٍ عن مَهاراتِ الشَّيخِ في صُنعِ و صِيانةِ المعداتِ الميكانيكية.

أوَّلُ ما سمعتُ عن الشَّيخِ في مجلسِ أخي الشَّيخِ عليِّ الوليِّ ابنِ الشَّيخِ محمَّدِ الوليِّ رحمهُ اللهُ و ذلك بعد عودتِي من الإيفادِ حيث كنت مُوفداً للحصولِ على الشَّهادةِ العالميَّةِ من دولةِ اليابان. فسألني أحدُ الحُضورِ في المجلسِ عن الاختصاصِ الذي درستُه. فلمَّا أجبتُه أنِّي درستُ عِلمَ المعادنِ و السِّباكةِ قال الشَّيخُ عليُّ الوليُّ: إنَّ الشَّيخَ عبدَ الرَّحمنِ زينَ العابدينَ كانَ بارعاً في صُنعِ المعادنِ و تقسيَتِها و كذلك في صِيانةِ الآلاتِ الدَّقيقةِ و غيرِها.

فعجبتُ لهذا. أيكونُ بينَنا عالِمٌ موسوعيٌّ يُلِمُّ بعلومِ الشَّرعِ و الأدبِ و كذلك الهندسةِ و لا نقابِلُهُ و لا يُذكرُ في كُليَّاتِ الهندسةِ. و نَدِمتُ أشدَّ النَّدمِ عندما علِمتُ أنَّهُ تُوفِيَ بعدَ تخرجِنَا عامَ 1990. أي أنَّه كان يَحيا بيننَا و نحنُ طلابٌ في كليةِ الهندسةِ و لم نستفدْ من علمِهِ. و قلتُ لنفسي إنْ فاتَتْنِي فرصةُ لُقياهُ فمازالَ طلابُهُ و أقرانُهُ و أولادُه بيننَا أستطيعُ أن أقابلَهم و أسمعَ منهم عن علومِ الشَّيخِ و مهاراتِه. و آليتُ على نفسي منذُ خمسةِ أعوامٍ تقريباً أن أنشرَ ما جمعتُه عن الشَّيخِ في محاضرةٍ. و لم يتيسرِ الأمرُ حتى أَذِنَ اللهُ بذلك اليومِ.

فبدأتُ أسألُ عن الشَّيخِ و أتقصَّى الحقائقَ و القِصصَ المتواتِرةَ التي تَروي عن براعتِهِ في صناعةِ المعادنِ و صيانةِ السَّاعاتِ الدَّقيقةِ و التَّجهيزاتِ الطّبيةِ و الأسلحةِ و الأدواتِ الموسيقيةِ إلى آخرِ ما هُنالكَ من إبداعاتٍ هندسيَّةٍ قَلَّ أن يستطيعَ أحدٌ الإلمامَ بأحدِها فضلاً عن كلِّها دون دراسةٍ في الكلياتِ الجامعيّةِ و على يدِ الأساتذةِ المختصينَ. و لكنْ لا عجبَ أمامَ قُدرةِ اللهِ تعالى الذي علَّم الإنسانَ مالم يعلمْ.

و قد أشارَ عليَّ بعضُ الأساتذةِ الأفاضلِ و من بينِهمُ الشَّيخُ يوسُفُ هنداوي و الشَّيخُ عليُّ الوليُّ بالاطِّلاعِ على كتابِ الإحكامِ للإمامِ القرافي رحمه الله و الذي حقَّقَهُ الشَّيخُ عبدُ الفتاحِ أبو غُدَّة رحمه الله. و مُناسَبةُ ذِكرِ الإمامِ القرافي أنَّهُ كان أيضاً بارعاً صانعاً حيثُ يقولُ عنه الشَّيخُ أبو غدّةٍ في تَرجَمَتِهِ: “و كانَ إلى جانبِ إمامَتِهِ و تَبَحُرِهِ في عُلومِ الشَّرِيعةِ و فُنُونِها من الفَلَكِيين النَّبغةِ البارعينَ النَّوادرِ في عملِ التَّماثيلِ المتحركةِ في الآلاتِ الفلكيةِ.”

ثم قال الشَّيخُ أبو غُدَّة: و لي صديقٌ عزيزٌ رحلَ إلى دارِ الكرامةِ، تميَّزَ بأعجبَ مِنْ هذا في دقةِ صُنعِ الآلاتِ الدَّقيقةِ و إبداعِهَا و استعمالِها، و بِحِذْقِ الرِّمايةِ وإصابةِ الأهدافِ النَّاعمةِ الصَّغيرةِ جداً. هو الشَّيخُ العالِمُ الفاضلُ الصَّناعُ العجيبُ الأستاذُ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ زينُ العابدينَ الأنطاكيِّ ثمَّ الحلبيِّ….. و قد أَلحقتُ بآخرِ هذا الكتابِ مَقالاً ضَافياً عن مهارتِه و إبداعِه بقلمِ أستاذِنا العلامةِ ِالكبيرِ فضيلةِ الشيخِ مصطفى الزرقا (رحمه الله) أمتع الله به، فانظرْهُ لِزاماً ففيه العجائبُ الصَّادقةُ الخارقةُ. أهـ

و كان أن طلبتُ من أخي أن يشتريَ كتابَ الإحكامِ فاشتراه من بيروت.

وأَختصرُ هنا ما قاله الشَّيخُ مصطفى الزرقا في المقالَةِ التي كتبَها في 10/جمادى الأولى/1413 هـ خلالَ إقامَتِه في الرِّياض:

 كان الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ حديدَ البصرِ يميِّزُ بعينِهِ المجرَّدةِ ما يحتاجُ غيرُه لتمييزهِ مكبِّرة.  كان يحبُّ الرياضةَ البدنيّةَ و المشيَ الطّويلَ.  كان صيَّاداً ماهراً. يرمي الطُّيورَ و هي طائرةٌ و الحيواناتِ و هي راكضةٌ فلا يخطئُها.  كان سديدَ الرِّمايةِ لحدَّةِ بصرِهِ و ثباتِ يَدِهِ و دقّةِ ملاحظتِهِ و حسابِهِ لحركَةِ الأهدافِ المتحركةِ.  أحضرَ معهُ مرَّةً إلى المدرسةِ الشَّعبانيةِ بُندقيةً صَنعَها بنفسِه و صبَّ كُراتِها الرَّصاصيةَ أيضاً. و جاءَ بإبرةٍ صغيرةٍ فغرسَها بينَ بَلاطَتَينِ حتى غابَ نصفُها و ابتعَدَ نحوَ ثلاثةِ أمتارٍ ثم رَمى الإبرةَ فطارَ نصفُها الظَّاهرُ. ثمَّ رَكَزَ قِطعةً من الفخَّارِ صغيرةً في مكانٍ بعلوِ قامةِ الإنسانِ و ابتعدَ عنها مترينِ أو ثلاثة و أدارَ ظهرَهُ و نظرَ في مرآةٍ في يدِهِ فَرَمَاهَا فتطايرت.  و كان إلى جانبِ مزيَّتِه النَّادرةِ في الرِّمايةِ صِنْعاً لم أعرِفْ و لم أسمعْ عن نظيرٍ لهُ في صُنعِ الأشياءِ الدَّقيقةِ التي تحتاجُ إلى دقّةٍ بالغةٍ، لا تُضبطُ إلا بآلاتٍ غايةٍ في الدِّقةِ و الحَساسيّةِ.  كان يصنعُها بيدِهِ و يضبِطُ مقاييسَها الدَّقيقةَ بِبَصرِهِ الحديدِ، و يستخدمُ فيها الميشارَ الدَّقيقَ، و المِبرَدَ و المَثاقبَ بحجومِها المختلفةِ التي تصلُ إلى حَجمِ رأسِ الإبرةِ صغراً. و يصنعُ هو تلكَ المثاقبَ من الفولاذِ بيدِه. و قد شاهدتُ كلَّ ذلكَ منه بنفسي في مختلفِ زياراتي لَه، إذ كنتُ أمكثُ عندَهُ في الزِّيارةِ الواحدةِ ساعات.  و قد أراني يوماً ميلاً فولاذياً طولُه نحوَ عَشْرةِ سنتيمترات، و غِلَظُه لا يزيدُ عن ثلاثةِ ميليمترات، و مقطعُه مضلَّعٌ سُباعي صنعَه بيدِهِ في البدايةِ مبروماً ثم بَرَدَهُ بالمِبرَدِ فجعلَهُ مُضَلَّعاً سَبعةَ أضلاعٍ مُتساويةٍ لا تجدُ إذا نظرتَ بالمكبرةِ فَرقاً بينَ ضلعٍ وآخرَ و لا قَدْرَ شعرةٍ و لا اعوجاجاً كأنَّه خارجٌ من مصنعٍ آليٍ. و قد نبَّهني إلى الفَرقِ العظيمِ في السُّهولةِ و الصّعوبةِ بين جَعْلِ أضلاعِهِ زوجيّةً و بين جعلِها فَرديّةً.  و انكسرَ في معملِ شركةِ الغَزلِ و النّسيجِ بحلبَ تِرسٌ مسنَّنٌ في أحدِ الأجهزةِ و كان مسنَّناً فيه أسنانٌ متعرجَةٌ و حركاتٌ دقيقةٌ و توقفَ المعملُ فذُكِرَ لَهمُ الشّيخُ فأتَوهُ بالمسنَّن المكسورِ فصَنَعَ بديلاً عنهُ كأنَّه هو حين كان جديداً.  و من أهم مزاياه أنَّه كان ساعاتيّاً، إذا استعصى على السّاعاتيّةِ في حلبَ إصلاحُ ساعةٍ توقفت لَجاؤوا إليه فأصلٍَحها.  و كان يقولُ لي: قلّما تُسلِّمُ ساعةً إلى ساعاتيٍّ ليصلحَها إلا و يُحدِثُ بها ضرراً.  و كان خبيراً في الأسلحةِ. أحضرَ له شخصٌ يوماً بندقيةً انكسرت فيها قِطعةٌ و فُقِدَتِ القِطعةُ المكسورةُ و لا يوجد مثيلٌ لهذه البُندقيّةِ حتّى يُعرَفَ شكلُ القِطعةِ المكسورةِ. فقالَ له: اتركْهَا عندي إلى الغد. فتأمَّلَ فيها و درسَ حركةَ أجزائِها ثم قدَّرَ شكلَ و حجمَ الجُزءِ الناقِصِ و صَنعَهُ بيدِه و أدواتِه الخاصّةِ فاشتغلتِ البندقيّةُ و أعطاها لصاحبها في اليوم التّالي.  و كان خبيراً في سِقاية الفُولاذ بدرجاتِه المختلفةِ. و قال لي إن سقايةَ السيوفِ و هي طويلة دونَ أن يعتريَ قِوامَها خَللٌ أو اِلْتِواءٌ صعبٌ جداً. و قد كان يفعلُ ذلك بمهارة.  و قد أراني يوماً موسىً من النوعِ الذي في نصابِهِ قِطَعٌ عديدةٌ (ما نسميه اليوم سكيناً سويسرياً) صنعَهُ بنفسِهِ من فولاذِ هواءٍ (بولاد هوا بالعامية). أهـ

و كتبَ الأستاذُ عبدُ الرزاقِ خليلُ دملخي عن أستاذِهِ الشيخِ عبدِ الرحمنِ الكثيرَ أوردُها هنا بتصرف: كان رحمَهُ الله  يُجيدُ صنعةَ الميكانيك و لا سيما ما دقَّ منها. و كان يصنعُ الآلاتِ الفلكيةَ و يستعملُها كما صَنعَ مقياساً لقياسِ سماكةِ الصاجِ و بلغَ من دقتِهِ أنهُ استطاعَ أن يثقبَ إبرةً و يفرغَ قلبَها بإبرةٍ أدقَّ منها. هو خبيرٌ بالمعادنِ يعلمُ أسرارها و كيف تكونُ طريةً أو قاسيةً. و كان كثيراً ما يقولُ: إنَّ اللهَ ذكرَ الحديدَ في القرآنِ و أثنى عليه فما اشتغلَ به أحدٌ إلا و نالَهُ خيرٌ منه و أكرمَهُ الله. و يوماً أصيبَ جهازُ تصويرِ أشعةٍ لطبيبِ مشهورٍ فأصلحه الشيخُ. و سمعتُ منه أنهُ قرأَ في سيرةِ صلاحِ الدينِ الأيوبيِّ أنَّهُ كان يقطعُ خيطَ الحريرِ المعلَّقِ في السقفِ بالسيفِ و يرمي بالمنديلِ الحريريِّ في الهواءِ ثم يَهوي عليهِ بالسيفِ فيقطَعهُ. قال الشيخُ: فلبثتُ مدةً أتدربُ على ذلكَ حتى قطعتُ الخيطَ و المنديل. أهـ

و أخيراً يقول الشيخُ عبدُ الفتاحِ أبو غدة واصفاً الشيخَ عبدَ الرحمنِ رحمهما الله: كان

 كالشافعيِّ و البخاريِّ و أمينِ الحسيني في الرِّماية  و كالفارابيِّ في معرفةِ اللغاتِ  و كالقرافي و الخياطِ في الصناعةِ اليدويةِ  و كالمَشَّاءِ على الحبلِ المنصوبِ في الهواءِ في المهارةِ الجِسميةِ  و كالفراهيديِّ و سيبويه في الفطانةِ العقليةِ  و كأبي يوسُفَ (يعقوبَ) و البخاريِّ و الدارقطني و الحاكمِ و غيرهم في العبقريةِ الحفظيةِ  و كزرقاءِ اليمامةِ في القوةِ البصريةِ  و كإبراهيمَ النظامِ في القوةِ السمعيةِ  و ككعبٍ بنِ مالكٍ في سرعةِ العَدوِ و اللهُ يختصُّ بفضلِهِ من عبادِه من يشاء. أهـ

لقد وهبَ اللهُ الشيخَ عِلماً و موهبةً هندسيةً قلَّ نظيرُها في عصرنا الحالي. و لقد ذُهلتُ و لم تصدقْ عينايَ – عندما اطَّلعتُ على بعضِ المصنوعاتِ اليدويةِ للشيخِ لدقتِها و إتقانِ صُنعِها- أنَّ ما أراهُ صناعةً يدويةً بأدواتٍ بسيطة .

نشرت 2016 وأعيد تنسيقها ونشرها 30/5/2021