الشيخ عبد الرحمن بن الحاج على الكرّام الحلبي.

 

فقيه, داعية, مجاهد.

 

ولد في أحد أحياء حلب الشعبية (حي الكلاسة)([1]), سنة: سبع وأربعين وثلاثمئة وألف للهجرة, في أسرة فقيرة, فوالده عامل بسيط لكنه تقي صالح محب للعلم والعلماء, دفع بابنه الصغير إلى كتاب الحي ليتعلم قراءة القرآن الكريم ومبادئ الكتابة والحساب, واستطاع الطفل في مدة يسيرة أن يتعلم التلاوة والتجويد, ثم حفظ القرآن الكريم غيباً, وأخذ بعض العلوم الشرعية والعربية على شيخه الشيخ أحمد المصري, وأراد متابعة التحصيل لكن فقر الأسرة وحاجتها حدت بوالده أن يقطعه عن الطلب, ويلحقه بمهنة (النجارة)

ليساعده في إعالة الأسرة, وعمل الشيخ فترة طويلة في هذه المهنة, حتى إذا شب, عاد إلى طلب العلم, فانتسب إلى المدرسة (الشعبانية), وراح ينهل العلم على شيوخها الكبار أمثال الشيخ عبد الله سراج الدين, والشيخ محمد زين العابدين الجذبة, والشيخ محمد المعدل, والشيخ مصطفى مزراب والشيخ محمد الغشيم, والشيخ بكري رجب, والشيخ أحمد قلاش([2]) وغيرهم.

 

وتقدم المترجم في صفوف المدرسة حتى إذا وصل إلى الصف الرابع اضطر إلى السفر إلى دمشق والتحقق فيها بمدرسة (الجمعية الغراء)([3]) وانتظم بين طلابها, ينهل العلم على شيوخها بكل جد ونشاط حتى تخرج فيها سنة, 1373هـ.

 

انتسب بعدها إلى (كلية الشريعة), في الجامعة السورية بدمشق, وتابع دراسته فيها إلى أن تخرج فيها سنة: 1378هـ, ثم انتسب إلى كلية التربية في الجامعة المذكورة وحصل منها على (دبلوم التأهيل التربوي).

 

كان الشيخ أثناء دراسته في دمشق, يقيم في غرفة صغيرة في جامع 

(التعديل), بحي (القنوات), وكان حريصاً أشد الحرص على حضور دروس ومجالس كبار علماء دمشق في ذلك الحين, أمثال الشيخ محمد الهاشمي والشيخ أحمد الحارون, والشيخ حسن حبنكة الميداني, والشيخ محمد سعيد البرهاني, والشيخ عبد الوهاب دبس وزيت([4]), وغيرهم.

 

بعد هذا الزاد العلمي المبارك الذي حصله المترجم في دمشق, عاد إلى مسقط رأسه, مشمراً عن ساعد الجد والنشاط في الدعوة إلى الله, ونشر العلم, فعمل مدرساً لمادة التربية الدينية في عدد من إعداديات حلب وثانوياتها, وكانت له دروس في الفقه والحديث والوعظ والإرشاد في معظم مساجد حية (حي الكلاسة) فدرسٌ في الفقه العبادات في جامع 

(الرحيمية), ودرسٌ في التربية والأخلاق في جامع (عبد الناصر), ودرسٌ في الوعظ والإرشاد في جامع (البيدر), بالإضافة إلى دروسه المتخصصة في الحديث الشريف والفقه الشافعي, يقررها في بيته لأبنائه من طلبة العلم ويحضرها مجموعة من إخوانه العلماء.

 

في عام:1960م أعير المترجم إلى المملكة العربية السعودية, فعمل فيها موجهاً لمادة التربية الدينية, وبعد أربع سنوات عاد إلى موطنه ليستأنف عمله في الدعوة والإرشاد والتدريس في ثانويات حلب, وكثرت دروسه في مساجد الحي حتى لا تكاد تراه إلا وهو في درس أو حاملاً كتابه مسرعاً إلى المسجد ليلقى درسه, والتف أهل الحي حول شيخهم وكثر طلابه وتلامذته, وكان يولي الشباب من الطلاب, وطلاب العلم خاصة جل رعايته واهتمامه, ويخصهم بدروس الحديث الشريف والفقه([5]) كما كانت له لقاءات متعددة مع إخوانه من طلاب العلم والعلماء ووجهاء الحي, يناقش معهم أمور الدعوة والإرشاد في الحي, ويبحث مشكلات الحي, محاولاً إيجاد الحلول المناسبة لها, ويفتش عن الفقراء والمحتاجين في الحي ليقدم لهم يد العون والمساعدة بكل سرية لئلا يجرح مشاعرهم([6]).

 

لقد وهب الشيخ ـ رحمه الله ـ نفسه مخلصاً لله تعالى, ولخدمة عباده فألقى الله محبته في قلوب عباده, ووثق به الناس واتخذوه قدوتهم ومرجعهم في شؤونهم الدينية والدنيوية, يهرعون إليه يستفتونه في أدق مشكلاتهم ويشركونه في أخص أمورهم, فيجدون لديه الرأي الصائب والفكر الحاذق والتروي الشديد في كل ما يقول ويعمل.

 

كانت هموم الأمة شغله الشاغل, يتأثر أشد التأثر بما يحل بها, وربما مرض الأيام الطوال إن هو سمع ببلاء حلّ بالأمة, أو مصيبة أصابتها.

 

في عام:1980م, هاجر صاحب الترجمة إلى المملكة العربية السعودية وأقام في (المدينة المنورة) مجاوراً حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم مستزيداً من طلب العلم وحضور حلقاته في المسجد النبوي الشريف بالإضافة إلى عمله في تدريس مادة (الدين) في ثانوياتها.

 

وفي عام: 1995م, أحيل على التقاعد, لكبر سنه, فآثر البقاء في

(المدينة المنورة), ومجاوره النبي صلى الله عليه وسلم, عاكفاً على العبادة

وحضور مجالس العلم.

 

لم يترك الشيخ آثاراً مكتوبة, لانشغاله بالدعوة إلى الله, ونشر العلم والاهتمام بأمور المسلمين, لكنه ترك الكثير من التلاميذ والمحبين.

 

أصيب في أواخر حياته بمرض عضال, أقعده في بيته, فتلقى ذلك بالرضا والصبر إلى أن وافته المنية في (المدينة المنورة), سنة: عشرين وأربعمئة وألف للهجرة, وصلي عليه في المسجد النبوي الشريف, وحمله إخوانه وتلامذته وأحبابه على أعناقهم إلى مثواه الأخير في (بقيع الغرقد) مجاوراً أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وآل بيته الكرام, وعم الحزن (المدينة المنورة) وحلب الشهباء, وأقيمت له مجالس الغراء في بيته في المدينة المنورة وفي حيه (حي الكلاسة) في حلب.

 

 طيب القلب, شديد التواضع, لا يرى لنفسه فضلاً على أحد من إخوانه أو طلابه, محبوب من قبل كل من رآه أو استمع إلى دروسه, آلف مألوف, لا تراه إلا في قضاء حاجة من حاجات الناس من حوله, شديد التروي في إجاباته, فلا يجيب إلا بعد تفكير وتثبت, متحرياً الدقة والصواب.

 

أسمر اللون, مربوع القامة إلى القصر أقرب, قليل الاهتمام بمظهره

يزين رأسه بعمامة صغيرة يلوثها على قبعة بيضاء, ثم ترك العمامة واكتفى بمنديل أبيض فوق قبعته.

 

المصادر والمراجع

 

1-   ترجمة خطية بيد ابن عمه الشيخ محمود الكرام.

2-   مشافهات كثير مع عدد من تلامذته وإخوانه في حي الكلاسة.

3-   مذكرات وذكريات المؤلف.

4-   مقابلة شفهية مع المترجم له جرت في بيته في المدينة المنورة شتاء عام 1998م.

([1]) انظر حديثاً عن هذا الحي في الحاشية رقم 1, ص 35.

([2]) انظر تراجم شيوخه هؤلاء في مكانها من الكتاب.

([3]) أسسها الشيخ محمد علي الدقر سنة 1343هـ وكانت تضم عدداً من المعاهد الشرعية والمدارس الابتدائية

وانظر تاريخ علماء دمشق2/290.

([4]) انظر ترجمات شيوخه هؤلاء في كتاب تاريخ علماء دمشق للأستاذين محمد مطيع الحافظ ونزار أباظة الجزء الثاني.

([5]) كان من فضل الله على أن كنت أحد الطلابه في هذه المجالس وأذكر أنه قرأ لنا كتاب (فتح المبدي شرح مختصر الزبيدي) لصحيح الإمام البخاري بعد أن أهدى كل واحد منا نسخة من هذا الكتاب كما قرأنا عليه كتاب(منهج الطلاب) في الفقه الشافعي.

([6]) كان الشيخ أحد أعضاء (جمعية مواساة الفقراء) في حي الكلاسة وقد رئسها مرات عديدة.

وهذه بعض المواقف لشيخنا لم أوردها في الترجمة سيراً على نهج الكتاب في التراجم:

بسم الله الرحمن الرحيم

أولاً: شدة اهتمامه بأمر الدعوة إلى الله، وصرف معظم وقته من أجلها، فقد كان بيته لا يكاد يفرغ من الشباب، يودع مجموعة ليستقبل أخرى، يرشدهم ويعلمهم ويبث فيهم روح الدعوة، ويقرأ لهم الكتب المفيدة في هذا المجال، أذكر على سبيل المثال أن الشيخ رحمه الله أراد أن يقرأ لنا ـ نحن الشباب ـ أحد كتب الحديث الشريف وهو كتاب (التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح) للزبيدي، ولم نكن نحن نملك ثمن هذا الكتاب، فقام رحمه الله واستدان ثمن ثماني نسخ من الكتاب واشتراها ووزعها علينا،

 ومنها اشتغاله الدائم بتربية الجيل وربطه بالمسجد، فقد جعل من جامع (البيدر) في حي (الكلاسة) خلية عمل دائم للدعوة إلى الله، وكان يكف الشباب بالاعتناء بالصغار ويشرف بنفسه على الجميع، كما كان يهتم بإقامة الحفلات الدينية في المناسبات الإسلامية، ويدعو كبار الشيوخ والدعاة لإلقاء الكلمات واللقاء بالشباب.

ومنها أنه كان في الكلاسة أرض كبيرة يطلق عليها: (أرض سابا) وكان الناس قد عمروا بيوتهم فيها، ورغم سعة المنطقة لم يكن فيها مسجد وكان في هذه الأرض مساحة واسعة استولت عليها البلدية لتقيم عليها مدرسة وحديقة، وجاء سكان الحي إلى الشيخ وسألوه أن يسعى لهم بإقامة مسجد على جزء من هذه الأرض، وذهب الشيخ إلى البلدية وطلب منهم أن يعطوه قطعة من هذه الأرض لإنشاء مسجد عليها، وكان ردّ البلدية بالمنع قطعاً، فردّ الشيخ على رئيس البلدية بكل شجاعة وصراحة (لكنني سأقيم المسجد مهما كلف الأمر)، في المساء اجتمع الشيخ ببعض سكان الحي وطلب من أحد البنائين أن يرسم له مخططاً للجامع، والتفت الشيخ إلينا : كيف همتكم يا شباب ؟ وكان رد الشباب بكل حماسة نحن معك يا أستاذ فقال: إذن كل واحد منكم يحمل معوله ورفشه ويأتي باكراً إلى الأرض، ثم طلب من بعض أبناء الحي أن يأتوا بالحجارة و(الإسمت)، في صبيحة اليوم الثاني، كان في الأرض ورشة عمل كبيرة ، نحن نحفر والشيخ يحفر معنا، وينقل التراب والبناؤون يبنون الأساسات، وما هي إلا ساعات قليلة حتى جاءت سيارة البلدية ومعهم سيارات الشرطة، واقتادوا الشيخ إلى المخفر، وتدخل أحد وجهاء الحي ـ وكان عضواَ في مجلس الشعب ـ وأخرج الشيخ من المخفر، لكن الشيخ قال له: (لا بدّ من إقامة المسجد يا أستاذ)، وعاد الشيخ من المخفر إلى مكان المسجد وتابع العمل، وفي اليوم الثاني جاءت الشرطة وأخذوا الشيخ مرة ثانية إلى المخفر، عندها تدخل وجهاء الحي مرة ثانية لدى رئس البلدية الذي أرغم على إرادة الشيخ ووافق على إقامة المسجد، لكن في غير المكان الذي حدده الشيخ، وفي مساحة أصغر من المساحة التي حددها من الأرض ذاتها، وقي وقت قصير تم بناء المسجد، وأصبح المسجد منارة للدعوة في هذا الحي، وقد كلفني الشيخ بالخطابة فيه مرات عديدة.

 هذه قصة بناء جامع (قباء) في أرض سابا وكان الفضل في بنائه للشيخ عبد الرحمن كرّام رجمه الله 

ثانيا: لابدّ من الحديث عن صبر هذا الرجل على الكثيرة المصائب التي حلت به، وتلقاها بالرضى والصبر منها: منها صبره على مرض زوجته الشديد المزن، ووقوفه إلى جانبها حتى النهاية، وصبره على مرض أولاده وابنه الكبير خاصة، بالإضافة على الفاقة الكبيرة التي كان يعاني منها، ولم اسمعه في يوم من الأيام يشتكي من شيء، بل كان دائم البشاشة كثير الحمد لله تعالى، تلقاه فتحسبه من أكبر الأغنياء، وربما لا يوجد في بيته يومئذ ما يقتات به.

ثالثاً: شدة إيمانه بالله وثقته به وحفظ الله له، في ليلة قاسية من ليالي عام 1981م، قام أعوان النظام (المخابرات) بمداهمة حي الكلاسة، واعتقال كثير من الشباب منه، وكان في نيتهم القبض على الشيخ، وعندما وصلوا إلى بيت الشيخ، كان قد خرج لأداء صلاة الصبح في المسجد، فتلقاه بعض أبناء الحي، وأخبره أن المخابرات تداهم بيته الآن، خرج الشيخ من المسجد واتجه إلى مدخل حلب (الكرة الأرضيه)، ولم يوقفه أحد رغم أن الطرقات كانت مليئة بالحواجز والمخابرات، وجاءت سيارة عابرة فركبها ولم يسأله السائق عن وجهته حتى وصل إلى مفرق (باب الهوى)، نزل الشيخ من السيارة وإذ بباص تركي يقف أمامه صعد الشيخ إلى الباص وهو لا يحمل هوية أو جواز سفر أو أيشئ، فقد كان قصده صلاة الصبح في المسجد، جلس الشيخ في مؤخرة الباص ساكنا كعادته، مشتغلاً بالذكر ولم يسأله أحد عن وجهته، حتى إذا قطع الباص الطريق بكل حواجزه وقطع الحدود السورية الأردنية، ووصل إلى عمان، وإذ بالسائق أو معاونه يسأله إلى أين أنت ذاهب يا عم ؟ رفع الشيخ رأسه وقال: أين نحن الآن؟ قال: نحن في عمان فقال الشيخ (طيب أنزل هنا). 

هذه قصه هجرة الشيخ عبد الرحمن كرام، فبم يفسرها الناس؟ أما أنا فأقول: إنها حفظ من الله وولاية للشيخ 

وكتبه 

محمد عدنان كاتبي