الشيخ صالح الفرفور.. العالم العامل

إذا أردت أن تنظر إلى العِلم يكسوه إهابٌ من عَمَل، وإلى القول يتحول إلى جدٍّ وفعل، وإلى الحرف يغدو قصيدة من شعر، وإلى البيان يحول سحراً على اللسان، فانظر إلى شيخنا العلامة محمد صالح الفرفور رحمه الله وأعلى في الجنان مقامه.

وأراك تفعل ما تقول وبعضهم =مَذِق الحديث يقولُ مالا يفعل

ذلك الشيخ الجليل الذي بنى للعلم دولة، وأسس للخلق والتربية أمّة، ونفث في الأمة روح الدعوة، وربّى أجيالاً من طلاب العلم أصبحوا منارات يهتدي بها، وعلامات يعّول عليها، وجَذَوات يقبس منها.

فكان بحق مثلاً حياً لكل من عاهد فوفى، وعمل فعمل، وجاهد فصدق.

ولعله والله حسيبه من النخبة الخيّرة التي وصفها جل وعلا بقوله في محكم كتابه:

{مِنَ المؤمنينَ رِجالٌ صَدقوا ما عاهدُوا اللهَ عليهِ فمِنْهم مَنْ قَضى نَحْبَهُ ومنهمْ مَن ينتظرُ وما بدّلوا تبدِيلاً}.

عاش ما عاش للعلم، وطلب العلم، ونشر العلم، و بناء صروح العلم، حتى استبدَّ العلم بكل اهتماماته، وغلب على جميع أمره، فما تكاد تراه إلا في مجلس علم حتى لو كان في بيته وبين ذويه وأهليه .

تفجَّر العلم من عليا شمائله=كما يسحُّ بوسط الروض سلسال

ما أعلم رجلاً من رجالات الأمة فيما أدركت من زمن أخذ أهله بالعلم أخذاً حازماً لا يلين كما أخذ الشيخ صالح أهله وبيته، بل حتى بناته، لم يغادر منهم أحداً إلا صنعَه على عينه عالماً متضلعاً من علوم الشرع والأدب والعربية، وخطيباً مصقعاً لا تخبو له كلمة، ولا تلين له قناة، ومربياً داعيةً لا تأخذه في الله لومة لائم، بدءاً بأكبرهم أستاذنا وشيخنا الشيخ الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور ثم شيخنا الشيخ الدكتور حسام الفرفور، ومروراً بالشيخ الدكتور ولي الدين الفرفور والدكتور عبد الرحمن والدكتور نصر والدكتور عبد الله، وانتهاءً بأخينا الشيخ شهاب الدين الفرفور، دع عنك البنات الداعيات فاطمة ولطفية.

لقد كان حقاً من خير الناس لأهله، مؤتسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: "خيرُكم خيرُكم لأهلِه وأنا خيرُكم لأهلي". وإذا لم تكن الخيرية بالعلم الذي رفع المولى سبحانه أصحابه فبم تكون؟!

ومن أولى الناس بالانتفاع بالعالم؟!

أليسوا أهله وذويه:

ومن ذا الذي ترجو الأباعد نفعه=إذا هو لم تصلح عليه الأقارب

نشَّأهم جميعا على حب العلم، وطلب العلم، ومصاحبة أهل العلم. فترى الواحد منهم لا همّ له إلا العلم، فهو كلِِفٌ به، بل نهمٌ له، مغرمٌ فيه، لا يتغنى إلا به، ولا يتفاخر إلا بتحصيله، ولا يزهو إلا بمقدار ما اجتمع له منه.

وقد أخذوا عن والدهم خَلَّة لم تخطئ واحداً منهم، ألا وهي الثقة المطلقة بالله سبحانه ثم بما حصّلوا من علم، فهم لا يرون لأحد سبقاً عليهم في أي شأن من شؤون الحياة، لأن ماعندهم أغلى وأثمن، وأعلى وأبقى، وأعزُّ وأسمى. 

وكأني بهم المثل الحي لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "من أوتي القرآن فرأى أن أحداً أوتي خيراً منه فقد حقّر ما عظمه الله" [رواه النووي في آداب حملة القرآن].

أما ما صنعه الشيخ بتلامذته وبمن حوله فأمر عجب، حول فيه الرمم إلى قمم، والجبناء إلى شجعان، والجهال إلى علماء، فتخرج به أفذاذ العلماء والخطباء والدعاة والمربين، وصاروا من بعده ملء العين والبصر والسمع والأذن، وعلى رأسهم شيخنا ريحانة الشام العلامة المقرئ عبد الرزاق الحلبي أمتع الله به، والشيخ رمزي البزم رحمه الله، والشيخ العلامة النظّار أديب الكلاس حفظه الله، والشيخ إبراهيم اليعقوبي رحمه الله، ومحدث الشام الشيخ عبد القادر الأرنؤوط رحمه الله، والشيخ العلامة المحدث المحقق شعيب الأرناؤوط حفظه الله، والشيخ أحمد رمضان حفظه الله، والشيخ عبد الفتاح البزم حفظه الله. ناهيك عن أولاده الذين سبق ذكرهم.

على أن همة الشيخ لم تتوقف عند طلابه المقربين وأحبابه المنتجبين الذين كان يخصهم بأكثر من عشرة دروس في اليوم الواحد، ولا ينقطع درسه لا في عطلة ولا في عيد، بل إن من طريف ما أثر عنه أنه لم يتغيب عن درسه حتى في فجر عرسه!

وقد حدثني شيخنا الشيخ شعيب-وكان من خُلّص أصحابه لزمه نحواً من خمسة عشر عاماً وأخذ عنه من العلوم والآداب والفنون مالا يحصيه إلا المتخصصون فيها-أن الشيخ صالحاً كان إلى كل خصاله الحميدة وعلومه المستفيضة يمتاز بمزيتين رفيعتين هما الكرم والشجاعة، فقد كان سخيا على تلامذته وطلابه يتعهدهم بعطاياه مع ما يتخولهم به من موعظة وما يقرئهم من علوم، وكان شجاعاً جريئاً لا تأخذه في الله لومة لائم.

ولم يقتصر نفعه وفضله على هؤلاء المقربين، وإنما امتدَّ ليشمل طلبة العلم من كل أصقاع الدنيا، وذلك حين أسس معهد الفتح الإسلامي الذي أصبح مهوى الأفئدة وملاذ طلاب العلم يجدون فيه كل ما يحتاجون إليه من علم وسكن وطعام وتربية، وقد عم نفعه وشاع أمره حتى جاوز عدد جنسيات الدارسين فيه المئة يدرسون فيه جميع العلوم الشرعية من قرآن وتجويد وتفسير وحديث ومصطلح وأصول وتوحيد وفرائض وغيرها، كما يدرسون فيه العلوم العربية بأنواعها كالنحو والصرف والبلاغة والأدب والعروض والخطابة، بل إن مايدرسونه من بعض علوم العربية يفوق مايدرسه المتخصصون في أقسام اللغة العربية، وقد بلوت ذلك بنفسي؛ إذ درَّست بعض علوم العربية في جامعة دمشق وفي معهد الفتح وقسم التخصص فيه، فوجدت البون شاسعا ًفي المادة العلمية المقررة، وفي تلقّي الطلبة لها، ومقدرتهم على فهمها، وحسن استجابتهم لكثير مما يُطرح عليهم فيها. ويكفي أن أذكر أن ثمة كتابين جليلين في علوم العربية يدَّرسان في معهد الفتح، لا يعرفهما كثير من خريجي أقسام اللغة العربية في جامعاتنا، بَلْهَ أن يدرسوهما، وهما دلائل الإعجاز للجرجاني والاقتراح في أصول النحو للسيوطي.

وشيخنا الشيخ صالح- برَّد الله مضجعه- حجة في علوم شتّى وبِدعٌ في فنون مختلفة، أتقن فقه الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان حتى صار مرجعاً فيه، وحَذِق أصول الفقه حتى لكأنه شاطبي عصره، وولج باب التفسير بعد أن استتبَّت له علوم القرآن المختلفة فكان مدرسة تخَّرج بها الكثيرون ونهل منها العلماء والمتذوقون، حدثني غير واحد من تلامذته وأنجاله أنه كان يضع النص القرآني على السبورة ثم يلتفت إلى طلاب الحلقة يناقشهم فيه، فلا يدع فناً من فنون العربية واللغة والنحو والبلاغة والبيان والإعجاز والفقه والأصول إلا خاض فيه، حتى يدع النص وقد أوسعه دراسة وفهماً وتحليلاً وعلماً.

بل إنه تجاوز علوم الشرع واللغة إلى علوم الفلسفة والمنطق والفلك والحساب وغيرها... وله في الفلك وعمل الاصطرلاب جولات وجولات. بل إن له في علم التعمية – الشفرة - مشاركة لا يعلمها كثير من الناس, وعندما كنا نهيئ لإخراج الجزء الأول من كتابنا (علم التعمية واستخراج المعمى عند العرب- الشفرة وكسرها) راعني أن شيخنا يعلم الكثير عن هذا العلم - أعني التعمية- وتضم مكتبته العامرة رسائل مهمة فيه وعدني بالاطلاع على بعضها, وحالت حوائل المرض والبعد دون ذلك.

والشيخ إلى هذا وذاك أديب قد امتلك ناصية البيان، وخطيب مصقع ذرب اللسان، دانت له المنابر والمحافل في كل زمان ومكان، وشاعر مفلِق مطبوع يرقى شعره إلى مصاف الشعراء الفحول، ولا غرو فحبّ العربية عنده من الدين، وتعلمها وتعليمها لا يقل في نظره أهمية عن تعليم أي فن من فنون الشرع الحنيف إن لم تكن هي الأهم والأولى، لأنه كان يؤمن أنها الوسيلة التي لابد منها لتعلم علوم الشرع المختلفة، ومن فقدها فلا خير فيه ولا علم عنده ولا نفع يرتجى منه.

من أجل هذا ما أعطاها الشيخ رحمه الله وكده، ومنحها ذَوْبَ نفسه، فكان حفياً بها، محباً لها، كلفاً بدروسها، مفتنّاً في تعليمها على اختلاف فنونها. وله في ذلك مأثورات لا يتسع المجال لسردها في هذه العجالة.

وقد بلغ من حبِّه للغة، وشغفه بأصولها وفقهها، أن نسخ مخطوط سر صناعة الإعراب لابن جني في الخمسينيات من القرن الماضي، أي قبل يفكر أحد في تحقيق هذا السفر العظيم، وكان يعتزم تحقيقه مع شيخنا الأستاذ أحمد راتب النفاخ رحمه الله لكن صارفاً صرفه كما حدثني أستاذنا النفاخ رحمه الله وغفر له. 

ومن آيات عنايته بهذا الفن من اللغة -أعني فقهها وأصول نحوها- أنه توفر على تدريسه في معهد الفتح الإسلامي لطلاب السنوات الأخيرة طول عمره، لم يدع أحداً يشركه في ذلك حتى وافته المنية، وكانت له عناية خاصة بالكتاب الذي قرره لهذه المادة وهو الاقتراح في أصول النحو للسيوطي حتى إنه وضع شرحاً له سماه "الإفصاح شرح كتاب الاقتراح" مازلت أتطلع إلى إخراجه وأحثّ أبناءه على ذلك، ولا سيما أني تشرفت بتدريس هذا الكتاب في المعهد نفسه لمدة تزيد على عشر سنوات (1987- 1999).

وإن أنسَ لا أنسَ مجلساً أدبياً أسبوعياً خصني الشيخ به مع ابنه الحبيب الشيخ الدكتور حسام الدين، قرأنا فيه على الشيخ فصولاً من كتاب الكامل للمبرّد وكتاب العمدة لابن رشيق القيرواني في بيته العامر بحي مسجد الأقصاب بدمشق الشام، فكنا نختلس من يد الدهر ساعات عشنا بها زمناً رغداً ما جاد الزمان بمثلها، نَجْتني من أدب الشيخ، وتقطف من جناه، ونحلّق في سماه، ونرتع في رياضه، ونحظى بدرره وبدائعه.

من ذلك مثلاً- والأمثلة كثيرة لا تحصى- أنه صحّح لنا بيت المتنبي المشهور: 

وقيّدْتُ نفسي في ذراكَ محبّةً =ومَنْ وجدَ الإحسان قيداً تقيدا 

فقال ذَراك بالفتح لا بالضم- خلافاً للشائع على ألسنة الكثيرين، لأن الذَرا هو الكَنَف. ولئن صدق هذا البيت في أحد ممن نعرف ليصدقَنَّ في شيخنا رحمه الله؛ فقد قيّدَنا بإحسانه، وأسرنا بمحبته، وأفنانا بجليل علمه وأدبه.

وكان حفيّاً بنا، يرعانا ويتفقّدنا، ويتخوّلنا بالموعظة في مسجد السادات، ويخصّنا بجلسات في غرفة الأذان، وبزيارات لبيت والدي رحمه الله وأحسن إليه. أذكر أنه زارنا في العيد مرة وبصحبته ابنه الشيخ حسام، ولما قدّمت له الضيافة لاحظ أني زدت له في صحنه من أقراص المعمول عن القدر المعتاد، فما كان منه إلا إن زاد قرصاً آخر وهو يقول: زد يابا زد هذا لا يكفي، فضحكنا جميعاً.

وكنت مرة في زيارته عام 1978 مع بعض الصحب والإخوة فأشار إليَّ قائلاً: تعال يا حجّي فاعترض أحد الصحب موضحاً بأنني لم أحجّ بعد، فابتدره الشيخ قائلاً إن من أساليب العربية في المجاز أن تطلق على الشيء اسم ما سيؤول إليه، كقوله تعالى {إني أراني أعصر خمراً} مع أنّه يعصر العنب الذي سيؤول إلى الخمر، وإن الشيخ دعاني بالحجي تفاؤلاً بأني سأحج إن شاء الله تعالى، فوالذي نفسي بيده لقد حججت في ذلك العام نفسه، وأنا أبعد ما أكون عن الاستعداد للحج أو التفكير به، فسبحان من ألهم شيخنا الصواب، وأجرى على لسانه حسن الجواب.

ولما علم أني مسافر إلى تركيا عام 1981م شرفني بتكليفي بشراء كتاب (حاشية شيخي زاده على تفسير البيضاوي) مع أن مكتبته عامرة بمختلف التفاسير، ولكنه طلب العلم الذي امتدّ من المهد إلى اللحد، وفرحت بهذا التكليف، وكان شراء الحاشية من أولى المهام التي أنجزتها في اصطنبول، وعدت بالمجلدات الأربعة، ليردّ لي الشيخ كل قرش دفعته ثمناً للحاشية، ولم تجدِ محاولاتي في صرفه عن ذلك.

وكان آخر مانعمت به من صحبة الشيخ- أجزل الله عطاءه- مجلس الأربعاء الذي كان ينعقد في بيته بعد العشاء، ويؤمّه نخبة من أهل العلم، يقدُمهم شيخان جليلان يكتنفان شيخنا الجليل، هما الشيخ عبد الرحمن الشاغوري رحمه الله وأسبغ عليه رضوانه، والعلامة الشيخ أديب الكلاس عافاه الله وأمتع به، ويُستهلُّ المجلس بآيات كريمات من كتاب الله عزوجل يرتلها ابن شيخنا الأصغر الشيخ شهاب الفرفور، ثم يبدأ الدرس وهو يشتمل على كتابين نفيسين الأول شرح الحكم العطائية والثاني نوادر الأصول للحكيم الترمذي، يقرأ الشيخ أديب ويعلّق شيخنا الجليل، ويشارك الشيخ الشاغوري بنثر بعض الفوائد والحكم وإنشاد بعض الأشعار والآثار، ثم إذا ما انتهى الدرس تشنفت الأسماع ببعض الأناشيد التي كان لي شرف المشاركة فيها مع شيخنا الشيخ حسام وأخينا الشيخ شهاب، ولابد بعد ذلك كله من القِِرى، وأيُّ قرى أطيب من قِرى شيخنا، إنه قِرى ابن جعفر الذي قال في حقه الشمّاخ:

إنك يا بن جعفر خير فتىً=وخيرهم لطارقٍ إذا أتى

ورب نضوٍ طرق الحيُّ سرى=صادف زاداً وحديثاً ما اشتهى

إن الحديث جانب من القِرى ولعل خير ما أختم به هذه الكلمة أبيات نظمها شيخنا الشيخ شعيب في وداع شيخه الشيخ صالح عندما ذهب إلى الحج في أواخر الخمسينيات، وهي تحكي لسان حالنا جميعا عندما فارقَنا الشيخ ملتحقاً بالرفيق الأعلى (عام 1986) يقول فيها:

يا راحلين إلى ربا عرفاتِ =مستمطرين سحائب الرحماتِ

مهلاً فجلّقُ أصبحت مبهوتةً =مذ بنتمُ يا خيرة الساداتِ

والمسجد المحزون بات لفقدكم=قيدَ الجوانح واكفَ العبراتِ

وأصابَ قلبي لوعةٌ إذ قيل لي =أزفَ الرحيل لموطن الرحماتِ

ما كنت قبل اليوم أعلم أنه =شطُّ الحبائب أفدح النكباتِ

مهلاً نودع سيداً ذا منصب =كانت محافلنا به نَضِراتِ

رحمك الله ياشيخنا الجليل، وأسبغ عليك رضوانه، وأعلى في الجنان مقامك، وجزاك عنا خير ما جزى عالماً عن تلامذته، ومصلحاً عن أمته، وراعياً عن صحبته. إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.

نشرت في 2009 وأعيد تنسيقها ونشرها اليوم