الشيخ العلامة محمد الخضر حسين من رواد الوسطية والتجديد 

(1293- 1377هـ)

يعدّ العلامة الكبير اللغوي المحاضر الخطيب المدرس الأديب الشاعر الفقيه الشيخ محمد الخضر حسين من كبار رواد الإصلاح والوسطية والتجديد في القرن الرابع عشر ، وترك آثاراً خالدة ولساناً صادقاً ، وأكتفي في هذه الحلقات بذكر لمحات من سيرته العطرة

اسمه ومولده وأسرته:

هو محمد الخضر بن الحسين بن علي بن عمر الحسني التونسي. وهو زيتونيٌّ وصادقيٌّ وخلدونيٌّ وأزهريٌّ انتسب الى هذه المعاهد ودرس فيها .

ولد بمدينة نفطة، بتونس في 26 من رجب سنة 1293هـ، الموافق 16 من أغسطس سنة 1876م، وهو من أسرة كريمة أصلها من الجزائر ، وعائلة الحسين التي ينتسب إليها الشيخ محمد الخضر ماجدة في حسبها ونسبها تتصل بالشرف النبوي الكريم وأفراد عائلة الحسين نجوم في سماء العلم والمعرفة فالخضر وشقيقاه المكي وزين العابدين من أكابر العلماء وأثروا المكتبة العربية بمؤلفاتهم.

وأمه تنتمي إلى أسرة فاضلة مشهورة بالعلم والتقوى والصلاح، فهي كريمة الشيخ مصطفى بن عزوز، من أهل العلم والفضل، وأبو جده لأمه العالم الصالح محمد بن عزوز، وخاله السيد محمد المكي بن عزوز من كبار العلماء المصلحين، تأثر به الشيخ محمد الخضر حسين تأثرًا كبيرًا، وكان موضع الإجلال والتقدير من رجال الدولة العثمانية في عهد السلطان عبد الحميد، وقضى الشطر الأخير من حياته في الآستانة تلبية لرغبة السلطان، وله مؤلفات معروفة، وقد ترجمت له ترجمة وافية مفصلة في مقدمة رسالته :" العقيدة الإسلامية " التي قمت بشرحها والتعليق عليها .

نشأته ومراحل تعليمه ووظائفه:

نشأ الشيخ الإمام محمد الخضر حسين في بلدة نفطة، وتأثر بأبيه وخاله، وحفظ القرآن الكريم، وشَدَا جَانِبًا من الأدب، وألَمَّ بمبادئ العلوم العربية والعلوم الشرعية، ثم انتقل مع أسرته إلى العاصمة التونسية، وهو في الثانية عشرة من عمره ،وكان ذلك سنة 1305هـ = 1887م، فالتحق بجامع الزيتونة سنة 1307هـ = 1889م ، وتنقَّل في الدراسة فيه من مرحلة إلى مرحلة، فظهرت نجابته، وبرز نُبُوغُهُ، فطلبته الحكومة لِتَوَلِّي بعض الخطط العلمية قبل إتمام دراسته، ولكنَّه أَبَى وواصل الدِّرَاسة على كبار العلماء مثل: الشيخ عمر بن الشيخ، والشيخ محمد النجار، وكانا يدرسان تفسير القرآن الكريم، والشيخ سالم بوحاجب، وكان يدرس صحيح البخاري، وكان من أبرز شيوخه، وقد تأثر به وبطريقته في التدريس.

وقد نال الشيخ الإمام محمد الخضر حسين من جامعة الزيتونة شهادة التخرج «التطويع» سنة 1316 هـ/1898م .

مجلة السعادة العظمى :

ثم أنشأ مجلة" السعادة العظمى" سنة (1321هـ= 1902م) لتنشر محاسن الإسلام، وترشد الناس إلى مبادئه وشرائعه،وتفضح أساليب الاستعمار. وتعدُّ أول مجلة عربية أدبية علمية في شمال إفريقيا، وصدر من هذه المجلة واحد وعشرون عددا ثم توقفت عن الصدور، لأن صاحبها الخضر تولى القضاء ببنزرت وذلك عام 1323هـ/1905م.

لم يمكث بهذه الخطة إلا بضعة أشهر عاد بعدها إلى تونس للتدريس بالجامع الأعظم وارتقى الى خطة مدرس من الطبقة الثانية سنة 1907م، ثم عين أستاذا بالمدرسة الصادقية ودعي للتدريس بالجمعية الخلدونية وانتخب عضوا بهيئة هذه الجمعية مع جماعة من أكابر العلماء المشايخ وهم الطاهر النيفر والطاهر ابن عاشور ومحمد رضوان وبلحسن النجار والصادق النيفر.

رحلة الشيخ الخضر إلى الشرق:

إثر الضغط المسلط على الناس من حكومة الاستعمار وكبت الحريات ووفاء لحق صلة الرحم خرج الخضر من تونس لزيارة أهله في سوريا ، فخاله الشيخ محمد المكي بن عزوز هاجر إلى الأستانة وإخوته إلى دمشق، فهاجر سنة 1331 هـ/1912م إلى دمشق محل سكنى إخوته.

بين إستانبول ودمشق :

بدأ الخضر حسين رحلته بزيارة مصر وهو في طريقه إلى دمشق، ثم سافر إلى إستانبول ولم يمكث بها طويلاً، فعاد إلى بلاده ظانًا أن الأمور قد هدأت بها، لكنه أصيب بخيبة أمل وقرَّر الهجرة مرة ثانية، واختار دمشق وطنًا له، وعُيِّن بها مدرسًا للغة العربية في المدرسة السلطانية سنة (1331هـ= 1912م)، ثم سافر إلى إستانبول، واتصل بأنور باشا وزير الحربية، فاختاره محررًا عربيًا بالوزارة، ثم بعثه إلى برلين في مهمة رسمية، فقضى بها تسعة أشهر، وعاد إلى العاصمة العثمانية، فاستقر بها فترة قصيرة لم ترقه الحياة فيها، فعاد إلى دمشق، وفي أثناء إقامته فيها تعرَّض لنقمة "أحمد جمال باشا" حاكم الشام، فاعتقل سنة (1334هـ= 1915م)، وبعد الإفراج عنه عاد إلى إستانبول، وما كاد يستقر بها حتى أوفده أنور باشا مرة أخرى إلى ألمانيا سنة (1335هـ= 1916م)، والتقى هناك بزعماء الحركات الإسلامية من أمثال: عبد العزيز جاويش، وعبد الحميد سعيد، وأحمد فؤاد، ثم عاد إلى إستانبول، ومنها إلى دمشق حيث عاد إلى التدريس بالمدرسة السلطانية، ودرّس لطلبته كتاب "مغنى اللبيب عن كتب الأعاريب" لابن هشام النحوي المعروف، حتى إذا تعرضت الشام للاحتلال الفرنسي، اضطر الخضر إلى مغادرة دمشق والتوجه صوب القاهرة.

الاستقرار في القاهرة :

نزل محمد الخضر الحسين القاهرة سنة (1339هـ= 1920م)، واشتغل بالبحث وكتابة المقالات، ثم عمل محررًا بالقسم الأدبي بدار الكتب المصرية، واتصل بأعلام النهضة الإسلامية في مصر، وتوثقت علاقته بهم، ثم تجنَّس المصرية، وتقدَّم لامتحان شهادة العالمية بالأزهر، وعقدت له لجنة الامتحان برئاسة الشيخ عبد المجيد اللبان مع نخبة من علماء الأزهر الأفذاذ، وأبدى الطالب الشيخ من رسوخ القدم ما أدهش الممتحنين، وكانت اللجنة كلما تعمَّقت في الأسئلة وجدت من الطالب عمقًا في الإجابة وغزارة في العلم، وقوة في الحجة، فمنحته اللجنة شهادة العالمية، وبلغ من إعجاب رئيس اللجنة بالطالب العالم أن قال: "هذا بحٌر لا ساحل له، فكيف نقف معه في حِجاج "، فنال العَالِمية وانضم إلى طليعة علماء الأزهر.

في سنة 1342هـ أسس جمعية (تعاون جاليات إفريقيا الشمالية)، وسنَّ لها قانونًا طبعه صديقه السيد محب الدين الخطيب، وكان دائب الحركة يَدْرُس ويدرِّس ويُحَاضر، ويكتب للصحف والمجلات ويشترك في الجمعيات والأندية..

معاركه الفكرية

وفي سنة 1344هـ ظهر كتاب (الإسلام وأصول الحكم)، لمؤلفه علي عبد الرازق، فأحدث ضجَّة عظيمة في العالم الإسلامي؛ لأنه خالف ما أجمع عليه المسلمون في أمور كثيرة ، فتفرغ لنقضه ، وأصدر كتابه القيم (نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم)، فنفدت طبعته في شهر واحد لشدة الإقبال عليه.

وفي السنة التالية سنة 1345هـ ظهر كتاب (في الشعر الجاهلي) للدكتور طه حسين، فأحدث ضجة أكبر من ضجة الكتاب السابق، فبادر الشيخ إلى نقضه في كتابه القيم (نقض كتاب في الشعر الجاهلي) ،وفنَّد ما جاء فيه، وأقام الأدلة على أصالة الشعر الجاهلي وكشف عن مجافاة طه حسين للحق، واعتماده على ما كتبه المستشرق الإنجليزي مرجليوث دون أن يذكر ذلك.

في ميادين الإصلاح :

اتجه الشيخ إلى تأسيس الجمعيات الإسلامية، فاشترك مع جماعة من الغيورين على الإسلام سنة (1346هـ= 1928م) في إنشاء "جمعية الشبان المسلمين"، ووضع لائحتها الأولى مع صديقه محب الدين الخطيب، وقامت الجمعية بنشر مبادئ الإسلام والدفاع عن قيمه الخالصة، ومحاربة الإلحاد العلمي. ولا تزال هذه الجمعية بفروعها المختلفة تؤدي بعضا من رسالتها القديمة. وأنشأ أيضا "جمعية الهداية الإسلامية" وكان نشاطها علميا أكثر منه اجتماعيا، وضمَّت عددا من شيوخ الأزهر وشبابه وطائفة من المثقفين، وكوَّن بها مكتبة كبيرة كانت مكتبته الخاصة نواة لها، وأصدر مجلة باسمها كانت تحمل الروائع من التفسير والتشريع واللغة والتاريخ.

وإلى جانب هذا النشاط الوافر تولى رياسة تحرير مجلة" نور الإسلام" – الأزهر الآن – التي أصدرها الأزهر في (المحرم 1349هـ= 1931م)، ودامت رئاسته لها ثلاثة أعوام، كما تولى رئاسة تحرير مجلة" لواء الإسلام" سنة (1366هـ= 1946م)، وتحمل إلى هذه الأعباء التدريس بكلية أصول الدين، فالتف حوله الطلاب، وأفادوا من علمه الغزير وثقافته الواسعة، وعندما أنشئ مجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة (1350 هـ=1932م) كان من الرعيل الأول الذين اختيروا لعضويته، كما اختير عضوا بالمجمع العلمي العربي بدمشق، وأثرى مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة ببحوثه القيمة عن صحة الاستشهاد بالحديث النبوي، والمجاز والنقل وأثرهما في حياة اللغة العربية، وطرق وضع المصطلحات الطبية وتوحيدها في البلاد العربية.

وفي سنة 1370هـ نال عضوية جماعة كبار العلماء برسالته (القياس في اللغة العربية)

مؤلفاته:

- رسائل الإصلاح،أبرز فيها منهجه في الدعوة الإسلامية ووسائل النهوض بالعالم الإسلامي.

- الخيال في الشعر العربي.

- القياس في اللغة العربية.

- ديوان شعر (خواطر الحياة).

- نقض كتاب الإسلام وأصول الحُكم.

- نقض كتاب في الشعر الجاهلي.

- أبحاث ومقالات عديدة نشرها في مجلة الأزهر (نور الإسلام)، ولواء الإسلام، والهداية الإسلامية، وغيرها. وقد قام بجمع آثاره ابن أخيه صديقنا المحامي علي الرضا بن زين العابدين التونسي ، ثم طبعت الأعمال الكاملة بإشرافه في دار النوادر بدمشق .

ولايته لمشيخة الأزهر:

في 23 من يوليو سنة 1952م قامت الثورة في مصر للقضاء على الظلم والطغيان ، وفي مستهل عهد الثورة رأت أن يتولى قيادة الأزهر مجاهد عربي من قادة المسلمين في مقاومة الاستعمار ، فانعقد الإجماع على اختيار الشيخ الإمام محمد الخضر حسين، وفي يوم الثلاثاء 26 من ذي الحجة 1371هـ، الموافق 15 من سبتمبر سنة 1952م خرج من مجلس الوزراء أثناء انعقاده ثلاثة من الوزراء توجَّهوا إلى البيت الذي يسكن فيه الشيخ بشارع خيرت، وعرضوا عليه باسم الثورة مشيخة الأزهر، وما كان يتوقع أن يلي هذا المنصب في يوم من الأيام، وقال بعد هذا لخلصائه: لقد سقطت المشيخة في حجري من حيث لا أحتسب... وولي الأستاذ منصبه وفي ذهنه برنامج إصلاحي كبير للنهضة بهذه المؤسسة الإسلامية الكبرى، وجعلها وسيلة لبعث النهضة الإسلامية ، التي يتطلع إليها العالم الإسلامي ، وقد أعطى الشيخ الخضر المنصبَ حقَّه من الرعاية والتكريم، فما كان يتذلل أمام حاكم، ولا كان يجامل على حساب عقيدته أو دينه.

واستقال الشيخ من منصبه (مشيخة الأزهر) في الثاني من جمادى الأولى سنة 1373هـ الموافق السادس من يناير سنة 1954م، وتفرغ كعادته للكتابة والبحث والمحاضرة، حتى لقي ربه. ويذكر له في أثناء توليه مشيخة الأزهر قوله: "إن الأزهر أمانة قي عنقي أسلمها حين أسلمها موفورة كاملة، وإذا لم يتأت أن يحصل للأزهر مزيد من الازدهار على يدي، فلا أقل من أن لا يحصل له نقص". وكان كثيراً ما يردد: "يكفيني كوب لبن وكسرة خبز وعلى الدنيا بعدها العفاء".

وفاته:

توفي الشيخ الإمام محمد الخضر حسين -رحمه الله- مساء الأحد الثالث عشر من رجب سنة 1377هـ الموافق الثاني من فبراير سنة 1958م. ودفن بجوار صديقه أحمد تيمور باشا بوصيَّة منه، ونعاه العلامة اللغوي محمد علي النجار بقوله: "إن الشيخ اجتمع فيه من الفضائل ما لم يجتمع في غيره إلا في النّدْرَى، فقد كان عالما ضليعا بأحوال المجتمع ومراميه، لا يشذ عنه مقاصد الناس ومعاقد شئونهم، حفيظا على العروبة والدين، يردّ ما يوجه إليهما وما يصدر من الأفكار منابذًا لهما، قوي الحجة، حسن الجدال، عف اللسان والقلم.."

وقال عنه صديقه وتلميذه العلامة الشيخ محمد أبوزهرة في رثائه في ندوة "لواء الإسلام " المنعقدة مساء الثلاثاء 20 شعبان سنة 1377: "اجتمع لأستاذنا الخضر صفات لم تجتمع في غيره من العلماء ، فقد كان مؤمنا جريئاً شجاعاً، يقول الحق ولا يخشى فيه لومة لائم ..قاوم الفرنسيين في أرض تونس، وترك منصباً رفيعاً ، ولم يهن ولم يضعف، فهاجر من وطنه ، وأخذ يطوف في الأقاليم مدافعاً عن الإسلام ، ومقاوماً أعداء الإسلام في كل أرض ، حتى استقر به المقام في آخر المطاف بمصر، فكان نوراً يضيئ فيها .

وكان مع شجاعته فقيهاً عميق الفكرة الفقهية في المذهب المالكي ، يعرف دقائقه ومنطقه واتجاهه، حتى إنه كان يفتي فيه من غير مراجعة ، وتكون فتواه صحيحة سليمة . وكان عالماً لغوياً دقيقاً ، تجيء على لسانه شواهد النحو والصرف والبلاغة بأسرع ما تجيء على لسان العالم فيها .

وكان كاتباً، لقلمه أسلوب مستقيم جيدن وكان مجادلا ومناظرا ، يضع الحجة في موضعها ويرد كيد الخصم في نحره ..

لقد فقد الإسلام في الشيخ الخضر سجايا ومكارم لو وزِّعت كل واحدة منها على رجل ، لكان أفضل الناس ، فرحمه الله رحمة واسعة ".

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

نشرت 2009 وأعيد تنسيقها ونشرها 14/7/2019