الشيخ الدكتور عبد الحفيظ قلعجي.. عالم، فقيه، أصولي متمكن في الفقه وأصوله

ولد الشيخ عبد الحفيظ في مدينة حلب، عام: 1943م تقريباً، وفي حي من أحيائها العريقة (حي الكلاسة) ومن أبوين صالحين فوالده الشيخ عيدو قلعجي ـ رحمه الله ـ شيخ الحي ومعلم أبنائه القرآن الكريم، وما من رجل رجال الحي إلا وتعلم على يديه القراءة والكتابة وتلاوة القرآن الكريم، وكان رحمه الله شديداً على طلابه، لا يتوانى عن معاقبتهم إن هم قصروا في الحفظ، أو أداء الواجبات البيتية، وكانت عصاه ـ رحمه الله ـ لا تفارق يده، (كنا ونحن صبيان صغار عندما ننصرف من مكتبه ونبتعد عنه مسافة نطمئن بها أنه لا يرانا، ولا يمكنه أن يلحق بنا نرفع أصواتنا وننشد: الشيخ عيدو عصايتو بإيدو)

    أما أمه فهي السيدة الفاضلة أخت شيخنا وأستاذنا الدكتور محمد رواس قلعجي وأخيه الأستاذ الأديب المؤرخ عبد الفتاح قلعجي رحمهما الله تعالى.




    نشأ الشيخ عبد الحفيظ في أحضان هذه الأسرة العلمية الكريمة، بين إخوته الذين حرص والدهم على تعليمهم وتزويدهم بمختلف العلوم الشرعية والعربية والكونية وحصولهم كلهم على الإجازات الجامعية، فصديقنا الأستاذ عبد الله مجاز في اللفة العربية وآدابها، وأخوه الأستاذ عبد القادر مجاز في العلوم، والأستاذ عبد المعين مجاز في الرياضيات والفيزيا والكيمياء (ر ف ك ).  

    في هذا الجو العلمي نشأ الشيخ عبد الحفيظ، وتلقى تعليمة الابتدائي في إحدى المدارس الابتدائية في الحي، ثم انتسب إلى المدرسة الخسروية ـ الثانوية الشرعية ـ وفيها التقى جل شيوخه من كبار علماء حلب، أمثال: محمد نجيب خياطة، والشيخ محمد سامي البصمجي، والشيخ أحمد قلاش، والشيخ بكري رجب، والشيخ محمد زين العابدين الجذبة، والشيخ محمد السلقيني، والشيخ عبد الوهاب سكر، والشيخ عبد الرحمن زين العابدين، والشيخ محمد أبو الخير زين العابدين، وغيرهم، وأخذ عنهم علوم القرآن الكريم وتفسيره، والحديث النبوي الشريف ومصطلحه، والفقه وأصوله والسيرة والتاريخ، بالإضافة إلى علوم العربية.

    وتابع الشيخ عبد الحفيظ دراسته في الثانوية الشرعية حتى تخرج فيها، ثم انتسب إلى كلية الشريعة بجامعة دمشق، وفيها التقى مجموعة أخرى من شيوخه الأجلاء، وأخذ عنهم مختلف العلوم الشرعية والعربية، نذكر منهم الدكتور صبحي الصالح، والدكتور عبد الرحمن الصابوني، والدكتور مصطفى الزرقا، الذي أحبه وقامت بينهما علاقة محبة امتدت الى آخر العمر، وكانت بينهما مراسلات كثيرة[1]، وكان الدكتور مصطفى الزرقا يحبه ويثق بعلمه وعقلة. وربما شاوره في بعض المسائل الفقهية والأصولية.

وتابع الشيخ دراسته في كلية الشريعة من جامعة دمشق إلى أن تخرج فيها عام: 1965م

   انتسب بعدها إلى جامعة الأزهر في القاهرة، وحصل منها على درجة الماجستير في الفقه المقارن بتقدير جيد عن رسالته: (التعزير بالنفس والمال) عام: 1967م، وتابع الشيخ دراسته في هذه الجامعة إلى أن حصل منها على درجة الدكتوراه في الفقه المقارن بمرتبة الشرف الثانية عن رسالته (سلطان الإرادة العقدية) عام: 1972م

    وكان الشيخ أثناء دراسته في جامعة دمشق وجامعة الأزهر يعمل بالتدريس لمادة التربية الدينية في عدد من ثانويات حلب، وبعد نيله درجة الدكتوراه، شد الرحال إلى المملكة العربية السعودية وعمل مدرساً في جامعة محمد بن سعود فرع أبها، ثم انتدب إلى جامعة الأمير عبد القادر الجزائري في الجزائر، كما عمل مدة في جامعة الكويت وكان يدرس في هذه الجامعات: التفسير وعلوم القرآن والفقه المقارن ومقاصد الشريعة والنظريات الفقهية وغيرها.

    عاد الشيخ بعدها إلى مدينة حلب، وحاول العمل في الجامعة، فلم يقدر له ذلك ولقي معارضة شديدة بسبب صراحته وجرأته في قول الحق، فعمل مدرساً لمادة التربية الدينية في ثانويات حلب، و كنت قد زاملته وقت ذاك في التعليم الثانوي في حلب، وكان رحمه شديد الصراحة في انتقاد بعض أصحاب المناصب الإدارية والسياسية في غرفة المدرسين، وربما سأله أحدهم عن أمر من الأمور، أو عن شخص من الأشخاص، وخشي أن يرد عليه رداً شديداً فكان يصوغ سؤاله على الشكل التالي: الأستاذ عدنان يقول: كذا وكذا أو ما رأيك بفلان؟  فيكون جوابه

    ـ ولك يا....هذا السؤال منك وليس من الأستاذ عدنان، لأنه كان يوقرني بعض الشيء أمام الناس، فإذا انفردنا أخذ راحته في الحديث رحمه الله تعالى.

    ونتيجة عدم انسجامه في العمل في التدريس، تركه وافتتح لنفسه دكاناً يبيع فيه الأدوات المدرسية وغيرها.

    ترك الشيخ عدداً من المؤلفات في مجال الفقه المقارن وأصول الفقه، بقيت مخطوطة لأن الشيخ لم يتمكن من طباعتها ونشرها ومن هذه المؤلفات

1.                التعزير بالنفس والمال وهو رسالته لنيل درجة الليسانس.

2.                التعزير بإتلاف المال في الفقه الإسلامي ربما كان هذا بحثا من أبحاث المؤلف السابق أو هو نفسه[2]

3.                 سلطان الإرادة العقدية وهو رسالته لنيل درجة رسالة الدكتوراه

4.                نظرية العقدي في الفقه الإسلامي، وهو كتاب ضخم قي أكثر من / 500/ صفحة ما زال في مسودته على الآلة الكاتبة .

5.                الإرادة المنفردة (مخطوط).

6.                المسؤولية التقصيرية (لم يكمل).

7.                التعسف في استعمال الحق (مخطوط).

8.                شرح لكتاب القواعد الفقهية للشيخ أحمد الزرقا مع وضع الفهارس والتعليقات عليها.

   ومن المقالات المنشورة له:

1.                القرائن بين الشريعة والقانون (مجلة كلية الشريعة واللغة العربية بأبها)  العدد الثاني.

2.                حول قضية المرأة المسلمة حوار مع فضيلة الشيخ الغزالي والدكتور رواس قلعة جي، (مجلة المسلمون السعودية).

3.                نظرية الظروف الطارئة في الفقه الإسلام.

    امتاز الشيخ عبد الحفيظ بعلو الهمة في المطالعة، وسرعة الحفظ والدقة في البحث والتأليف والتدقيق وتأصيل المسائل، وتفنيد ما يجب تفيدة فيها، كما امتاز بالإحاطة التامة في الفقه الإسلامي وأصوله، وبالتحقيق العلمي لمسائله، وكان كثير من العلماء والشيوخ يشاورونه في المسائل الفقهية والمشكلات الدقيقة، ويعرضون عليه بحوثهم ومؤلفاتهم ليبدي لهم رأيه وملاحظاته، ويستفيدون من علمه ومواهبه  الفقهية التأصيلية  والاجتهادية، ولا أدل على ذلك من أن شيخ الفقهاء في عصرنا الدكتور الشيخ مصطفى الزرقا ـ رحمه الله تعالى ـ كان يثق به وبعلمه وبآرائه الفقهية والأصولية والنقدية، وكان بينهما تواصل علمي عجيب من خلال الرسائل الكثيرة المتبادلة بينهما، كما كان الشيخ الزرقا يكلفه بمراجعة بعض كتبه وأبحاثه، وكان يثني عليه ويرشحه للوظائف العلمية التي تليق بمكانته وبعلمه.

    ومن كتاب الدكتور الزرقا إلى رئيس البنك الإسلامي للتنمية يرشح فيه الدكتور عبد الحفيظ قلعة جي لوظيفة علمية في هذا البنك، قوله: (وقع اختياري على أحد تلاميذي القدماء من جامعة دمشق،...... وأعرف فيه دقَّة الفكر وحسن الفهم والجدّية، وأفيد سيادتكم أن هذا الرجل من خير من يصلحون للعمل لديكم علمًا وخلقًا وخبرةً وتواضعًا واحترامًا للنظام وأهلية للمهمة لديكم، وأنا مطلع على كتابات له فقهية، ومنها تعقيبات على بعض مؤلفاتي، تدل على دقَّة فكره وحُسن فهمه الفقهي)، وكفى الشيخ عبد الحفيظ بهذه الثقة وهذا التقريظ من الدكتور مصطفى الزرقا مكانة علمية مرموقة

    وهذه شهادة من فقيه كبير لعالم جليل قدر هذ الشهادة حق قدرها، فقال في رسالة يجيب فيها شيخه: (وأنا جدّ فخور بهذه الثقة وأعتبرها فوق شهادة الدكتوراه، وأقول لكم صادقًا: إني أعتبرها فوق جائزة الملك فيصل؛ لأن هذه الجائزة يمنحها رجال السياسة، وثقتكم خرجت من بيت العلم وسلالة العلماء الطاهرين).

    كان الشيخ عبد الحفيظ طيب القلب، عظيم النفس، معتداً بنفسه واثقاً بعلومه وآرائه، شديد النباهة، عظيم الحساسية، حاد المزاج، حاضر الجواب، بعيداً الشبهات والدنايا وسفاسف الأمور، جريئاً في مواقفه لا يماري ولا يداري ولا ينافق لأصحاب المراكز والمناصب، ولا تأخذه في الحق لومة لائم، يسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية، يستوي عنده الكبير والصغير والسوقة والوزير.

    ولهذه الجرأة وهذه الصراحة في قول الحق والجهر به بقي الشيخ مغموراً ولم يأخذ حقه في الحياة، ولم تظهر مكانته العلمية إلا لدى قليل من الناس، وحرم من حقه في التعليم في الجامعات السورية.

    بقي الشيخ على هذه الصفات والخلاق إلى أن وافته المنية في حلب، مساء يوم السبت، الواقع في الخامس من شهر جمادى الأول، سنة: خمس وأربعين وأربعمئة وألف للهجرة، الموافق للثامن عشر من شهر تشرين الثاني عام: ثلاثة وعشرين وألفين للميلاد، رحمه الله تعالى وأحسن إليه.

 

 

 

 

 



[1] جمع الشيخ مجد مكي حفظه الله تعالى هذه الرسائل، وهو يعمل الآن على الاعتناء بها ونشرها، ونرجو من الله أن يوفقه لذلك

[2] ربما كان هذا بحثاً من أبحاث المؤلف السابق أو هو نفسه